Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قرن تكنولوجي إلى أمام... سياسة واقتصاد إلى وراء

منظمة التجارة العالمية خلقت نوعاً من "العولمة المفرطة"

أصبح التدخل العسكري التركي في ليبيا سياسة "شرعية" تقرها حكومة أردوغان ويجيزها المجلس النيابي (أ.ف.ب)

التاريخ لا يقرأ الروزنامة، أحداثه نهر جارف حيناً وهادئ حيناً آخر، لكن جريانه لا ينقطع، والعام 2020 الذي يبدأ اليوم هو، حسب الروزنامة، العام الأول في العقد الثالث من الألفية الثالثة، لكن تحدياته استمرار لتحديات العام الذي مضى بوسائل أخرى أو بالوسائل نفسها، بمقدار ما هي فصل في كتاب العقد الثالث، وهذا الكتاب هو فصل في كتاب أكبر يشمل الرؤية الواسعة لصورة التحديات في القرن الـ 21، قرن نهاية الأيديولوجيا وهيمنة التكنولوجيا، قرن العودة إلى اقتصاد القرن الـ20 وسياسة القرن الـ19، فالصراخ ضد العولمة لم يعد مقتصراً على اليسار والشعوب في "ريف" العالم، بل صار مرتفعاً في أوساط اليمين والطبقة الوسطى في "المتروبول" الأميركي والأوروبي.

وأقل ما قاله البروفسور داني رودريك في جامعة هارفارد هو أنّ منظمة التجارة العالمية خلقت نوعاً من "العولمة المفرطة"، حيث مصالح الشركات الكبرى تفرض على الدول حماية مصالحها، وشعار "أميركا أولاً" والحروب التجارية التي يخوضها الرئيس دونالد ترمب مع الصين وحتى مع حلفاء أميركا في أوروبا وكندا والمكسيك واليابان أبرز الأمثلة.

ومعاناة الشعوب في البلدان الصغيرة أو الضعيفة من التدخل العسكري الخارجي في صراعاتها صارت ظاهرة واسعة تبدو "عادية" في آسيا وأفريقيا وحتى في أوروبا، إذ هي عودة "منهجية" إلى سياسة القرن الـ19، والنموذج الساخن أمامنا حالياً، بعد العراق وسوريا، هو ليبيا حيث أصبح التدخّل العسكري التركي إلى جانب طرف في الحرب سياسة "شرعية" تقرّها حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان ويجيزها المجلس النيابي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المفارقات أن تبدو ليبيا "الموقع والنفط والغاز" جائزة تتنافس عليها قوى إقليمية ودولية بدل أن تكون لأهلها، ولا أحد يعرف من "يربط زند" أردوغان المندفع في تدخل عسكري في سوريا والعراق وليبيا يستعيد ما يسمّى "الميثاق المالي" عام 1920 الذي سجل شمالي سوريا والعراق وبعض الجزر في بحر إيجه والبحر المتوسط ضمن حدود تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، قبل تجريد تركيا منها بموجب معاهدة "سيفر" عام 1923.

ذلك أنّ التدخل الخارجي تحت عنوان "مناطق النفوذ" صار جزءاً من سياسات قوى إقليمية إلى جانب القوى الكبرى، وكل قوة من هذه تجد نفسها ناقصة من دون مناطق النفوذ.

روسيا من دون نفوذها فيما تسميه "الجوار القريب"، أي البلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي ثم في أماكن بعيدة مثل سوريا وفنزويلا تصبح مجرد قوة محلية. أميركا من دون حلفاء وقواعد عسكرية في الخارج ومهام حلف "الناتو" تصبح دولة عادية مثل كندا.

تركيا من دون النفوذ الإقليمي والانتقال من دور "دولة جسر" إلى دور "دولة محور" هي باكستان ثانية، إيران من دون ما تسميه عمقها الاستراتيجي من العراق إلى البحر المتوسط هي "بنغلاديش شيعية"، ومصر بلا دورها العربي والأفريقي هي مجرد بلد كثير السكان، والصين من دون قواعدها البحرية "والحزام والطريق" هي "برّ" معزول.

أما التكنولوجيا، فإن تطورها المتسارع سلاح ذو حدين: تسهيل وسائل الإنتاج والحياة، وتصعيب ممارسة الحريات والتمتع بالخصوصية، تولستوي كان يقول "تصوّروا جنكيز خان مع هاتف"، اليوم نجد أنّ "الأخ الأكبر" في رواية جورج أورويل "1984" الذي يراقب كل حركات الناس، يملك وسائل للمراقبة أخطر في عالمنا الواقعي، من الشركات التي تخزن "الداتا الشخصية" للمواطنين في كل بلدان العالم إلى الأنظمة التي صار بإمكانها إقامة "توتاليتارية ديجيتالية"، وهو تعبير استخدمته "نيويورك تايمز" في تحقيق عن الأجهزة الدقيقة التي طورتها الصين لتحديد "هوية من يسير في الشارع، بمن يلتقي، ومن هو مع الحزب الشيوعي أو ضده؟". وفي مقال نشرته الصحيفة الأميركية نفسها تحت عنوان "عقولنا ليست صنو تكنولوجيتنا" يستعيد الكاتب كريستيان هاريس الشريك المؤسس لمركز التكنولوجيا الإنسانية سؤالاً وجواباً عمرهما 10 سنين: سئل البروفسور في هارفارد إدوارد ويلسون الملقب "أبو السوسيو بيولوجي": "هل ستكون الكائنات البشرية قادرة على حل الأزمات التي تواجهها خلال 100 سنة مقبلة"؟ وكان الجواب "نعم، إذا كنا نزهاء وأذكياء، لكن المشكلة الحقيقية للإنسانية هي أنه لدينا انفعالات العصر الحجري، ومؤسسات القرون الوسطى، وتكنولوجيا شبه إلهية".

وليس من السهل الهرب من ثقل الأحداث في التاريخ، حتى على الذين يصنعون التاريخ، فالصراع بين الإمبراطوريات المتنافسة في القرن الـ19 على استعمار البلدان ونهب الثروات الطبيعية لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية زاد من بؤس الشعوب، وقاد في النهاية إلى صدام في الحرب العالمية الأولى، إذ انتهى عدد من الإمبراطوريات.

وصراع الأيديولوجيات في القرن الـ20 انتهى بخسارة الأيديولوجيات الفاشية والنازية والشيوعية، ودفع كل الشعوب الثمن. ولا أحد يعرف إلى أين يقودنا تطور التكنولوجيا في القرن الـ21، لكن الواضح، حتى الآن، أننا في قرن يأخذنا تكنولوجياً إلى أمام، ونأخذ نحن السياسة والاقتصاد إلى وراء، ومن الصعب ألاّ تولد أفكار جديدة تقود حراك الشعوب وتدفع إلى تجاوز سياسة القرن الـ19 واقتصاد القرن الـ20.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء