تتوالى المفاجآت فصولاً في مسار المأزق اللبناني المتمادي، ولن يكون آخرها إعلان رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري أنه "ليس مرشحاً لتولي رئاسة الحكومة المقبلة"، بعد مخاض تأرجح بين قبوله المهمة لإصرار الثنائي الشيعي على بقائه في الحكم، وتسمية من يقبل به هو، ويوافق عليه "حزب الله" ورئيس البرلمان نبيه بري، ورئيس الجمهورية ميشال عون.
بعد ساعات قليلة سيُكشف اسم المرشح البديل الذي تتفق عليه أكثرية الكتل النيابية نتيجة تسوية ما بين الحريري والثنائي الشيعي، إلا إذا كانت المفاجأة بتأجيل ثالث للاستشارات النيابية الملزمة المحدد موعدها صباح الخميس 19 ديسمبر (كانون الأول) ريثما يحصل التوافق على رئيس الحكومة العتيد.
خصومة عون للحريري واحتمال التأجيل
ومن المؤشرات التي لاحظتها مصادر سياسية منخرطة في كواليس الاتصالات لإيجاد مخرج من المأزق الحكومي، أن الاشتباك السياسي الذي كان تفاقم بين الرئيسين عون والحريري في الأسابيع الماضية، وأدى إلى رفض الأول عودة الثاني إلى الرئاسة الثالثة، انسحب حتى على التعاطي مع بيانه بالانسحاب من الترشح لرئاسة الحكومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير المصادر إياها لـ"اندبندنت عربية" إلى أن الحريري حرص في بيانه على القول إنه ذاهب إلى الاستشارات النيابية "مع إصراري على عدم تأجيلها بأي ذريعة كانت"، ما استدعى رداً من وزير الرئاسة سليم جريصاتي الذي يتولى الاجتهادات والفتاوى القانونية لدى الرئيس عون، فغرّد على "تويتر" رداً على الحريري بعد نحو ساعة، قائلاً "عذراً دولة الرئيس، لا يعود لك أن تصر على إجراء الاستشارات وعلى عدم تأجيلها مهما كانت الذريعة، ذلك أن هذا الاختصاص، حسب الدستور، هو حصر لرئيس الجمهورية، وأنت تشكو دوماً من تجاوز مزعوم لصلاحيات رئيس الحكومة".
ولما تبين لي انه رغم التزامي القاطع بتشكيل حكومة اختصاصيين، فإن المواقف التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية من مسألة تسميتي هي مواقف غير قابلة للتبديل، فإنني أعلن انني لن أكون مرشحا لتشكيل الحكومة المقبلة، ٢/٣
— Saad Hariri (@saadhariri) December 18, 2019
وكرت على إثرها سبحة البيانات التي تنتقد إصرار الحريري على عدم تأجيل الاستشارات، عن تكتل نواب "التيار الوطني الحر"، ومنهم رئيس التيار جبران باسيل الذي وصف انسحاب الحريري بأنه "موقف مسؤول"، داعياً إياه إلى اقتراح شخصية للتفاهم معها على تشكيل حكومة "من دون أن يضع البلد أمام المجهول كما حصل باستقالته الأخيرة، بتحديد خياره قبل الاستشارات النيابية الملزمة، وبطلب تأجيلها أو بفرض إجرائها ويستنسب لمصلحته، بينما هي صلاحية حصرية لرئيس الجمهورية".
انطوى هذا الكلام أولاً على ارتفاع درجة الخصومة بين فريق عون وزعيم "المستقبل"، وثانياً على احتمال تأجيل الاستشارات من قبل عون. والهدف هو الاحتياط من قبل فريقه لئلا يتفق الحريري مع أكثرية نيابية ما على شخصية قد لا تناسب "التيار الحر" فتُفرض على عون، أو أن "التيار الحر" يسعى إلى ترجيح كفة شخصية يريدها هو، وإن كان الحريري لا يحبذها، ولذلك أصر عون على الاحتفاظ بالمبادرة في شأن إجراء الاستشارات من عدمها، وهو الأمر الذي حصل على مدى الـ50 يوماً التي أعقبت استقالة الحريري، وتسببت بانتقادات له بأنه يخالف الدستور.
لكن الحريري كان طلب تأجيلها الاثنين الماضي حين تبين أنه لن يحصل على تأييد كتلة نواب حزب "القوات اللبنانية".
الأسماء البديلة وإمكان "المفاجأة"
ونشطت الاتصالات مساء وليل الأربعاء، بين الكتل النيابية المختلفة، المتحالفة والمتعارضة، في شأن الشخصية البديلة، لعلها تنتج اتفاقاً عليها بين الحريري والثنائي الشيعي، ونواب "القوات اللبنانية"، أو بين "حزب الله" و"التيار الحر"، وكثرت لائحة الأسماء المرشحة أو التي عادت إلى الواجهة. السفير السابق نواف سلام، الذي كان أول اسم طرحه الحريري رفضه "حزب الله" في حينها، فشنّت عليه حملة إعلامية تقصدت بث معطيات مغلوطة على الرغم من سمعته كشخصية وطنية محترمة من خلال ممارسة العمل الدبلوماسي بحنكة وكفاءة عالية في الأمم المتحدة، وفي الأدوار التي لعبها في القضايا القومية، وفي الداخل أيضاً عبر عضويته فيما سُمي "لجنة فؤاد بطرس" التي وضعت عام 2007 مشروع قانون عصري للانتخاب يجمع بين النظام النسبي والتمثيل المتحرر من الطائفية والتمثيل الطائفي.
وتضاف إليه أسماء أخرى مثل الوزير والقاضي السابق خالد قباني الذي لعب دوراً في الصياغة القانونية لاتفاق الطائف، كما جرى التداول الإعلامي باسم رئيسة لجنة التربية النيابية النائبة بهية الحريري، واسم النائب فؤاد مخزومي، وتردد ليل الأربعاء أن اتفاقاً حصل بين "الثنائي الشيعي" (29 صوتاً) وتكتل "التيار الحر" وحلفائه في"لبنان القوي" (23 صوتاً) ونواب "اللقاء التشاوري" (سبعة أصوات)، على دعم ترشيح وزير التربية السابق في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حسان دياب، وبينما قالت أوساط "الثنائي الشيعي" أنه جرى التشاور مع الحريري باسمه، أكدت مصادر مطلعة أن ترشيح دياب لم يحظ بموافقة زعيم "المستقبل".
"كل الاحتمالات مفتوحة"، هي العبارة التي تغلبت في الأيام الماضية على أي جملة مفيدة أخرى في القاموس السياسي اللبناني المليء بالشعارات السياسية الملتبسة والمعقدة التي يُلبسها الطاقم السياسي تارة لباس الدستور، وأخرى لباس الأعراف أو "الميثاقية" أو "الشراكة الوطنية" التي يجيد السياسيون اختراعها.
تكليف بلا تأليف
بقي السؤال الأبرز لماذا عاد الحريري إلى قراره بالتنحي بعد أن كان قبل بتولي المهمة فجُوبه بانخفاض الأصوات المؤيدة له، وعلى الرغم من محاولة الرئيس بري خلال لقائه به يوم الثلاثاء تذليل بعض العقبات أمام تكليفه؟
على الرغم من التسريبات عن اتفاق حصل بينهما على خطوات يقوم بها بري مع الوزير باسيل لرفع نسبة الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها الحريري، وعلى أن يقبل في حال لم ينجح في ذلك، بالحصول على ما بين 57 - 60 صوتاً (أقل من أكثرية النصف زائد واحد)، فإن مصادر مطلعة أوضحت لـ"اندبندنت عربية" أنه أعقبت تسريب هذه المعلومات عن لقائه مع بري "تسريبات مقابلة من القصر الرئاسي"، عن أن عون "لن يقبل بتكليفه بتشكيل الحكومة على الرغم من وجود سابقة من هذا النوع إبان حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي"، وحجة عون حسب تلك المصادر، هي أنه مع غياب أي مرشح آخر يمكن أن يحصل على أصوات أكثر، فإن هذا الحجم من التأييد للحريري "لا يضمن حصوله على ثقة البرلمان عند تأليفه الحكومة"، وفُهم من هذا الكلام أن "عون لا يريد الحريري رئيساً للحكومة".
المصادر المطلعة على موقف الحريري تعاطت مع كل التسريبات عما جرى بينه وبري على أنها "تكهنات"، لأن لا أحد اطلع على ما دار بينهما بدقة، لكن هذه المصادر لخصت الأمر لـ"اندبندنت عربية"، بالآتي: "كان مطلوباً أن يذهب الحريري إلى الاستشارات من دون ضمانات لما بعد التكليف (حول تأليف الحكومة)، وهذا يعني الذهاب إلى المجهول".