Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استهلاك الطاقة... بين حقيقة الصين ومبالغات الهند ويقظة أفريقيا

سبب النمو المرتفع للطلب الصيني هو العولمة في التسعينيات التي نتج عنها انتقال مصانع أوروبا وأميركا واليابان إليها

فنيون هنديون بجوار خزان نفط على مشارف مدينة أحمد آباد (رويترز)

المُلاحَظ على التوقعات طويلة المدى التي تنشرها هيئات عالمية، مثل وكالة الطاقة الدولية و"أوبك" وإدارة معلومات الطاقة الأميركية، هو اتفاقها على نمو الطلب على الطاقة في الهند بشكل كبير خلال العقود الثلاثة المقبلة، لدرجة أن البعض يعتبرها المحرك الأساس للاقتصاد العالمي، وبالتالي للطلب على النفط والغاز المسال. كما يتوقع البعض حلولها محل الصين مستقبلا، حيث إن نمو الطلب على الطاقة الذي شهدناه في الصين منذ عام 2000 سيتكرر في الهند.

إلا أن نظرة فاحصة للبيانات التاريخية من جهة، ووضع الهند الاقتصادي والسياسي من جهة أخرى، تشير إلى عكس ما تذهب إليه هذه التوقعات، وتفيد بأن الهند ليست كالصين، ولن تسلك مسارها. وتوضح أيضا تجاهل أفريقيا "المارد النائم"، وعدم فهم العوامل المؤثرة على الطلب في أوروبا، وإهمال العلاقة بين ارتفاع أسعار النفط وزيادة الطلب على الطاقة بشكل عام والنفط بشكل خاص في الدول النفطية.

ونشرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية، في تقريرها السنوي، توقعات تشير إلى نمو الطلب على الطاقة في الصين بنحو 45% بحلول عام 2050، بينما توقعت تضاعف الطلب على الطاقة في الهند (زيادة 100%). ولا شك أن الهند تبدأ من استهلاك متدنٍ مقارنة بالصين، إلا أن هذا التفاؤل بنمو الطلب الهندي على الطاقة، وبالتالي النفط، في غير محله.

إن سبب النمو المرتفع للطلب الصيني على الطاقة، بما في ذلك النفط، هو العولمة في التسعينيات التي نتج عنها انتقال المصانع، بخاصة كثيفة الطاقة، من أوروبا والولايات المتحدة واليابان إلى الصين.   

هذه الحقيقة مهمة لسببين، الأول أن الطلب على الطاقة في الصين مكون من قسمين، القسم الأول هو الطلب المحلي "الطبيعي"، والقسم الثاني هو طلب "محوّل" من دول أخرى. والسبب الثاني أن انخفاض نمو الطلب على الطاقة بشكل عام، وعلى النفط بشكل خاص في الدول الصناعية، بخاصة في أوروبا، لم يكن نتيجة تبني الطاقة المتجددة، وإنما نتيجة انتقال جزء كبير من قطاعها الصناعي للصين.

المشكلة أن عدداً من الباحثين ينظرون إلى البيانات فقط، من دون معرفة تاريخها، ويبنون نماذج رياضية بناء على ذلك، مع أن موضوع انتقال المصانع إلى الصين يشوّه البيانات، وبالتالي يجب تعديلها وفقا لذلك. نتج عن عدم تعديل بيانات استهلاك الطاقة في الصين لموضوع انتقال المصانع توقعات خاطئة في الماضي، وما زلنا نرى هذه التوقعات الخاطئة حتى اليوم.

ولعل أحد أهم مشاكل بيانات الطاقة الصينية تاريخياً هو أن العجز في الكهرباء في السنوات الأولى من الألفية أدى إلى زيادة عدد المولدات الكهربائية الخاصة في المصانع، الأمر الذي نتج عنه زيادة كبيرة في استهلاك الديزل. ومع بناء الحكومة محطات نووية وغيرها لتوليد الكهرباء، اختفى التوليد الخاص، ومعه الطلب الإضافي على الديزل!

لهذا فإن القول إن الهند ستنمو اقتصاديا مثلما نمت الصين، وإن نمو الطلب على الطاقة فيها سيكون مماثلا للصين غير صحيح، لأن الهند فشلت في استقطاب المصانع العالمية والاستثمار الأجنبي. ما حصل في الهند هو انتقال لبعض مراكز الخدمات المتعلقة بالبرمجة وخدمات العملاء، ولمنطقة محدودة فقط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلا أن هناك عوامل أخرى توضح أن هناك تفاؤلا زائدا حول مستقبل الهند، بغض النظر عن السياسات الاقتصادية والسياسية المدمرة التي تتبعها الحكومة الحالية. 

مثلا، أكبر عدد طلاب أجانب موجود في الجامعات الأميركية صينيون، وأغلبهم يعود إلى بلاده، بينما يشكل الهنود جزءا كبيرا من العاملين في قطاع تكنولوجيا المعلومات والطب، وأغلبهم يحمل الجنسية الأميركية.

وإذا نظرنا إلى مخرجات البحوث العملية المنشورة في مجلات علمية محكمة نجد أن الصين تتصدر القائمة، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة، بينما لا توجد الهند في قائمة أول عشرة دول. وتسيطر الصين على القطاعات الاقتصادية في كثير من الدول النامية، بخاصة في أفريقيا، ولا توجد أي سيطرة للشركات الهندية.

ونظرا لأن انتقال المصانع الأوروبية والأميركية واليابانية كان لمرة واحدة وانتهى تقريبا، فإن الارتفاع المفاجئ في استهلاك الصين من الطاقة لن يتكرر، إلا أن تجاهل بعض النماذج الرياضية لهذا الموضوع أدى إلى توقعات استهلاك أعلى من الواقع.

ولكن إذا نظرنا إلى النفط تحديدا، فإن هناك تطورات أخرى لعبت دورا كبيرا في استمرار الصين باستيراد النفط بكميات كبيرة، لدرجة أن واردات النفط أكبر مما تعكسه معدلات النمو الاقتصادي. وسبب ذلك هو تبني الصين استراتيجية أمنية تتطلب بناء احتياطي استراتيجي نفطي، وذلك خوفا من قيام الولايات المتحدة يوما ما بتدخل عسكري يغلق مضيق "ملقا"، والذي تمر منه أغلب حاملات النفط القادمة إلى الصين. وهذا فارق آخر بين الصين والهند.

حتى لو تباطأ الاقتصاد الصيني، فإن علينا أن نتذكر الحجم الهائل لهذا الاقتصاد مقارنة بالماضي. فكمية الأموال في الناتج المحلي الناتجة عن نسبة نمو 6% حاليا أكبر بكثير من كمية الأموال الناتجة عن نسبة نمو 11% في التسعينيات. ولهذا فإن أي نمو في الطلب على الطاقة في الصين سيؤثر في أسواق الطلب العالمي لأن الأساس كبير جدا. مثلا، نسبة نمو 1% من طلب قدره 13 مليون برميل يوميا تبلغ 130 ألف برميل يوميا.

لنعود إلى موضوع الصين والهند: مع تفاقم الجرب التجارية بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب والصين، انتقلت بعض المصانع الصينية إلى دول آسيوية أخرى، مثل فيتنام وكمبوديا، وبعضها إلى بنغلاديش (الملابس بشكل خاص)، ولكنها لم تنتقل للهند!

أفريقيا... "المارد النائم"

بما أن نماذج التوقعات الرياضية تعتمد على البيانات في السنوات الماضية، فإن توفّر البيانات في الصين والهند وعدم توفّرها في كثير من الدول الأفريقية يعني تجاهل هذه الدول الأفريقية. ولكن بالنظر إلى الواقع الأفريقي وعدد من البحوث المتخصصة في بلاد مختلفة، نجد أن أفريقيا ما زالت حيث كانت الصين في الثلاثينيات من القرن الماضي. طبعا لا يمكن مقارنة الدول الأفريقية بالصين، ولكن عدد السكان الكبير، والذي تشكل نسبة صغار السن فيه أكثر من نصف السكان، مع انفتاح على العالم، يعني في النهاية زيادة كبيرة في استهلاك الطاقة.

وهناك أدلة كثيرة تشير إلى أن انتشار الهواتف الذكية، رغم عدم وجود شبكات كهربائية وخدمات هاتفية محلية، يجبر الحكومات على بناء بنية تحتية لهذه الخدمات، وعلى السماح للشركات الأجنبية للاستثمار في البنية التحتية.

بناء البنية التحتية يزيد من استهلاك الطاقة، ويمكّن شريحة كبيرة من السكان من زيادة استخدامهم للطاقة. باختصار، انعدام البنية التحتية في كثير من الدول الأفريقية تحدٍ حقيقي للتنمية الاقتصادية، ولكن بناءها يتطلب كمية كبيرة من الطاقة، ووجودها سيزيد من استهلاك شعوب هذه البلاد للطاقة.

وهناك إدراك من قيادات مختلفة في الدول الأفريقية أن التغير المناخي مشكلة عالمية تؤثر في بلادهم بشكل مباشر، إلا أنهم يدركون أيضا أنه ليس من العدل أن يكون لدى النرويج صندوق نفطي قيمته تتجاوز الترليون دولار، ثم تضغط النرويج والدول الاسكندنافية الأخرى على الدول الأفريقية لعدم التنقيب عن الموارد الطبيعية، بما في ذلك النفط، بحجة حماية البيئة ووقف التغير المناخي، ما يعني أن أي خطط اقتصادية سيواكبها نمو كبير في استهلاك الطاقة.

الدول النفطية

تشير البيانات التاريخية إلى وجود علاقة طردية بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي، وبالتالي بين أسعار النفط واستهلاك الطاقة في الدول النفطية. وبالنظر إلى التفاصيل نجد أن هناك علاقة طردية بين أسعار النفط واستهلاك النفط في الدول النفطية. هذا يعني أن ارتفاع أسعار النفط يرفع معدلات النمو الاقتصادي والأنشطة الاقتصادية، وينتج عن ذلك ارتفاع الدخول، الأمر الذي ينتج عنه زيادة استهلاك النفط. وبما أن ارتفاع استهلاك النفط يعني انخفاض الصادرات، فإن هذا يسهم أيضا في دعم أسعار النفط. هذه العلاقات تم تجاهلها في التوقعات طويلة المدى التي تنشرها المنظمات المختلفة، رغم أنهم يتوقعون ارتفاع أسعار النفط. هذا يعني أن توقعاتهم للطلب على النفط أقل من المتوقع!

"كهربة" كل شيء

انتشار الإلكترونيات والأدوات الكهربائية عالميا ضمن كل الفئات السكانية بسبب انخفاض تكاليفها، والتحول إلى الكهرباء في كل شيء، يعني زيادة الطلب على الطاقة بشكل كبير، والأمر الذي تجاهلته التوقعات هو أن الجهود الضخمة حول العالم لتوصيل الكهرباء لكل مكان تعني بالضرورة زيادة الطلب عليها بشكل سريع وكبير، بسبب انتشار الإلكترونيات والأدوات التي تعتمد عليها. فما كان يعدّ في الماضي حكرا على الأغنياء يتوفّر الآن للطبقات الفقيرة. كما أن انتشار الإلكترونيات والأدوات ذات الكفاءة العالية في استخدام الطاقة يعني زيادة استخدامها وزيادة انتشارها أيضا.

ويكفي هنا أن نذكر أن انتشار الإلكترونيات والهواتف الذكية في مناطق نامية يعني في النهاية الحاجة إلى مراكز لتخزين البيانات. هذه المراكز تستخدم كميات كبيرة من الطاقة، ليس فقط لتشغيل الخوادم، ولكن بسبب الحاجة لأجهزة التكييف. من هنا يمكن تصور حجم استخدام الطاقة المستقبلي في أفريقيا، في بلاد تحتاج فيها الخوادم إلى تكييف على مدار السنة.

الهجرة من الريف إلى المدن

لعل أحد أهم أسباب زيادة استهلاك الصين من الطاقة في العقود الأخيرة هو الهجرة الواسعة من الريف إلى المدن، والتي تحولت إلى أكبر المدن في العالم. هذه الهجرة و"التمدن" يعني للكثير وجود كهرباء وماء داخل الشقق، وهو أمر لم يعهدوه في الريف الذي جاؤوا منه. وجود الكهرباء والماء داخل البيت يصبح حقا لا يمكن التخلي عنه، ولا يمكن التراجع عنه. بعبارة أخرى، "التمدن" يسير في اتجاه واحد فقط.  فلن يقوم شخص فقد عمله في المدينة بالعودة إلى قريته حيث لا ماء ولا كهرباء. ولن يقوم شخص فقد دخله بوقف استخدام الماء والكهرباء. هذا يعني أن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي سيؤثر قليلا ومؤقتا في استهلاك الطاقة في هذه الدول، حيث إن الحركة الصناعية والتجارية ستتأثر، واستهلاكها للطاقة سيتأثر، ولكن سيبقى هناك قاعدة واسعة ومتينة لاستهلاك الطاقة لن تتأثر بالدورات الاقتصادية نتيجة "التمدن".

الخلاصة

على الرعم من المبالغة في نمو الطلب على الطاقة في الهند، بما في ذلك الطلب على النفط، إلا أن الطلب العالمي على الطاقة والنفط سيكون أعلى مما هو متوقع لأسباب عدة، أهمها زيادة استهلاك الطاقة في أفريقيا بشكل أكبر من المتوقع بكثير.  ونظرا لتوقع هذه الهيئات ارتفاع أسعار النفط على المدى الطويل، فإن هذه الهيئات تجاهلت الزيادة في نمو الطلب على الطاقة في الدول النفطية مع ارتفاع أسعار النفط.  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء