Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصة الخطأ الذي أدى إلى سقوط جدار برلين

مراسل "اندنبندنت" يُعيد نبش الهواجس القديمة ويسأل الألمان عن التغيرات التي طرأت عليهم على مدى العقود الثلاثة الماضية

في 11 نوفمبر 1989: دمر حراس ألمانيا الشرقية جزءاً من الجدار لفتح معبر جديد بين شرق وغرب برلين (غيتي)

في إحدى قاعات المؤتمرات في برلين، على قاب قوسين أو أدنى من "ساحة بوستدامر"، يُخبرني الصّحفي الألماني بيتر برينكمان عن الدّور الذي لعبه في إسقاط جدار برلين. صحيح أنّني سمعتُ قصته مراراً وتكراراً من قبل، لكننّي لم أسمعها منه قط، ومن المثير أن يحصل لي ذلك الآن، بعد مرور 30 عاماً على الواقعة التّاريخية. كان برينكمان من ألمانيا الغربية، يعمل لحساب صحيفة "بيلد" (Bild) الألمانية الغربية شرق برلين عندما تلقّى دعوةً من حزب الوحدة الاشتراكي (SED) الحاكم في ألمانيا الشّرقية لحضور مؤتمرٍ صحفي. آنذاك، شعر برينكمان أنّ أمراً مميّزاً على وشك الحدوث. ففي ذلك الصّيف، كانت النمسا وهنغاريا قد فتحتا الحدود بينهما، لتمنحا سكان ألمانيا الشّرقية طريقاً للهروب – عبر تشيكوسلوفاكيا إلى هنغاريا ومنها إلى أوروبا الغربية. ومع إعلان الحكومة التشيكيّة قرارها إقفال الحدود وسدّ الطّريق، نزل سكان ألمانيا الشّرقية إلى الشّوارع مندّدين ومطالبين بحقّهم بالسّفر.

وفي محاولةٍ منه لقمع هذه الاحتجاجات المتنامية، اتّخذ حزب الوحدة الاشتراكي قراراً أعلن بموجبه السّماح لسكان ألمانيا الشّرقية بالسّفر مباشرةً إلى ألمانيا الغربية شرط أن يكون بحوزتهم جواز سفر، قل المستند الذي لا يملكه سوى قلّة قليلة جداً من الألمان. على الورق، بدا القرار خطةً ذكية ومُحكمة، إذ من خلال منح سكان ألمانيا الشرقية الحق بالسفر، يكون الحزب الحاكم قد نجح في تعطيل الاحتجاجات، آمناً مطمئناً إلى أنّه سيكون على الأغلبية السّاحقة من المواطنين التقدّم بطلبات للحصول على جوازات سفر، الأمر الذي يضعهم في مواجهة إجراءات بيروقراطية طويلة من السّهل على الحكومة التحكّم بها.

والخطأ الوحيد الذي اقترفه الحزب الحاكم وقتها هو اختياره غونتر شابوسكي لإعلان الخبر رغم أنه لم يحضر الاجتماع ذات الصّلة ولم يطّلع حتى على البيان الصحفي الذي صدر عنه. هكذا وفيما كان يقرأ شابوسكي البيان على مسامع الناس في المؤتمر الصحفي، بدت عليه المفاجأة بقدر الصحافيين الحاضرين. وفي ظلّ هذه المعمعة، أغفل عن ذكر تفصيلٍ حاسمٍ بشأن جوازات السفر. وعندما سأله برينكمان: متى يُمكن للألمان الشرقيين أن يُسافروا؟ أجابه شابوسكي: "حالاً، على ما أعتقد".

"تلك كانت غلطته الفادحة"، يقول لي برينكمان، شارحاً أنّ الخطة كانت تقضي بفتح معبرٍ حدودي واحد جنوبي جمهورية ألمانيا الدّيمقراطية، بعيداً عن برلين. ولكنّ الخطة فشلت وجاءت نتيجتها كارثية. ففي ذلك المساء، أُذيعت كلمة شابوسكي على قناة ألمانيا الغربيّة وسمعها الملايين من الألمان الشّرقيين (ممارسة ممنوعة لكن شائعة في تلك الأثناء). وما إن أسدل الليل ستاره حتى توافد آلاف البرلينيين الشّرقيّين إلى نقاط التفتيش السّتة على طول الجدار مطالبين بحقّ العبور.

بالنّسبة إلى هؤلاء، كانت هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر. فأكثر من مئة شخص لقوا حتفهم فيما كانوا يُحاولون الهروب عبر جدار برلين، آخرهم منذ أشهر قليلة فقط. تخيّلوا لو أنّه خطر ببال أحد حراس الحدود إطلاق النار على الحشود الغفيرة في تلك الليلة، لكان التاريخ قد اتّخذ منعطفاً مختلفاً. ولكنّه لم يحصل؛ والحقيقة أنّ الحراس لم يكونوا مستعدّين لهذا الكمّ الهائل من الناس، كما أنّ البيان المشوّش لشابوسكي أربكهم. فما كان منهم إلا أن رفعوا الحواجز وتركوا الجموع تعبر بسلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الظاهر أنّ سؤال برينكمان المحرج وعدم استعداد شابوسكي له تفاعلا مع بعضهما البعض لينتج عنهما سلسلة من ردود الأفعال التي سرعان ما فقد حزب الوحدة الاشتراكي السّيطرة عليها. وفي غضون عامٍ من ذلك، استعادت ألمانيا وحدتها وولّت الحرب الباردة إلى غير رجعة. وصحيح أنّ ذلك المؤتمر الصّحفي الفوضاوي كان الشرارة التي أشعلت كلّ شيء، لكنّ الثورة السّلمية لم تبدأ في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) في برلين، إنما بدأت في 7 أكتوبر (تشرين الأول) في بلدةٍ مظلمة شرق ألمانيا تُدعى بلاوين. هناك بدأتُ رحلتي في أنحاء ألمانيا الشرقية سابقاً؛ أردتُ أن أعرف ما حدث حقيقةً في الأسابيع التي سبقت سقوط جدار برلين أو "Mauerfall" بالألمانية. لكن الأهم من ذلك كلّه، أردتُ أن أعرف المزيد عمّا حدث في ألمانيا مذاك – وما يشعر به حالياً سكان ألمانيا الشّرقية سابقاً. هل كانت إعادة التّوحيد حلماً يتحقّق أم خيبة أمل كبيرة؟

بحسب أندريا ساكس التي إلتقيتُها في حانةٍ دافئة في أحد نواحي بلاوين وحاولت أن تروي لي ذكراياتها عن اندلاع الثّورة السلمية في بلدتها الهادئة قبل 30 عاماً: في تلك الليلة، بادر رجلٌ محليّ يُدعى يورغ شنايدر إلى طباعة منشورٍ بدائي يسأل فيه الناس النّزول إلى الشوارع للاحتجاج ضدّ الحكومة، وتوزيع مئات النّسخ منه في أنحاء البلدة. في ألمانيا الغربيّة، ما كانت هذه الخطوة لتتسم بأهمية تُذكر. لكن في أوروبا الشرقية، كان الأمر مختلفاً تماماً؛ توزيع المناشير جريمة يُعاقب عليها القانون بالسّجن والمشاركة في هكذا تظاهرات نشاط محفوف بالمخاطر. ومع ذلك، نزل 15 ألف رجل وامرأة من أصل 65 ألفاً يُقيمون في بلاوين إلى الشوارع "للتعبير عن سخطهم وعدم رضاهم عن الظّروف السّياسية وانعدام حرية الصحافة والحق بالتصويت والوضع الاقتصادي المتردّي"، على حدّ تعبير أندريا.

وفي مواجهة المحتجّين، خرجت عناصر الشرطة إلى الشّوارع بكامل عتادها وطلبت تعزيزات من الجيش. لكنّ هؤلاء كما حراس الحدود منذ شهرٍ مضى، لم يكونوا على أهبة الاستعداد للتصدي للحشود الكبيرة. فخرجت الأمور عن سيطرتهم وانتشر الخبر في أنحاء ألمانيا الشّرقية. وفي التّاسع من أكتوبر (تشرين الأول)، نُظّمت تظاهرة كبيرة في لايبزيغ غطّت أخبارها وسائل الإعلام الغربية. وإذ لم يأتِ أيّ من الصحفيين الغربيين على ذكر بلاوين، اعتُبرت لايبزيغ منشأ الثورة السّلمية.

كم كان من الجميل لو حظيت بلاوين عموماً، والسيد شنايدر الباسل الذي ربما يكون المسؤول الأوّل عن إطلاق الثورة خصوصاً، بالمزيد من التصفيق والتقدير والاستحسان. لكن هذا كلّه لا يهمّ الآن، كل ما يهمّ أنّ الثورة تمّت أخيراً. لكن لمَ حصل ما حصل هنا؟ بلاوين هي بلدة منزوية في ناحية منسيّة من ألمانيا الشرقية لكنّها قريبة من حدود تشيكيا وألمانيا الغربية. إبان الحرب الباردة، كان المواطن الألماني بحاجة إلى إذنٍ خاص لمجرّد رغبته في زيارة خط العبور. وعليه، تحوّلت بلاوين من بلدة مصانع عامرة إلى بلدة ركود محرومة بشكلٍ خاص من معايير جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ونظراً إلى قربها من ألمانيا الغربية، كان من الممكن لسكانها مشاهدة قناة ألمانيا الغربية التلفزيونية. أما قربها من الحدود التشيكية، فجعلها قبلة أنظار الألمان الشرقيين الساعين للهروب إلى هنغاريا فالنمسا. ومع تزايد أعداد الذين يسلكون طريق الهروب هذه، وجدت بلاوين نفسها فجأةً في بؤرة الاهتمام.

اليوم، بلاوين هي خير مثال وشاهد على ما آل إليه حال ألمانيا الشرقية بعد إعادة التوحيد وعلى مقدار العمل الذي لا يزال يتعيّن عليها إنجازه. صحيح أنّ وسط البلدة في غاية الترتيب والنظافة ويضمّ الكثير من المباني، منها الحديث والبراق، ومنها القديم والمرمّم. لكن في مقابل كلّ هذه الأناقة، ثمة عدد لا يُستهان به من المواقع التي قُصفت بالقنابل خلال الحرب العالمية الثانية. فعلى غرار أكثرية التجمعات العمرانية المتجاورة في ألمانيا بشطريها الشرقي والغربي، تعرّضت بلاوين لقصفٍ مكثف من قبل الحلفاء، لكنّ النظام الشّيوعي لم يكن يملك لا الموارد ولا الرغبة لتصليح الأضرار. وفي الوقت الذي تلقّت فيه ألمانيا الغربية المساعدات المالية بموجب خطة مارشال، نُهبت موجودات ألمانيا الشرقية على أيدي السوفيات الذين أخذوا معهم إلى روسيا كل ما استطاعوا حمله من آليات وتحف فنية وهلمّ جرا. بالنّسبة إلى الألمان الشرقيين، لم تنتهِ الحرب عام 1945 بل استمرت حتى العام 1989.

ومن العام 1989 وصاعداً، تتالت الإصلاحات الهيكليّة للنهوض بألمانيا الشرقية؛ ودرسدن اليوم دليل ملموس على هذه الإصلاحات، إذ لمّا زرتُ "فلورنسا الألبه" للمرة الأولى عام 1995، كانت أعمال البناء وإعادة البناء فيها على قدمٍ وساق وكانت مساحاتها الفارغة والخالية من المساكن كثيرة. حينها، بدت لي المدينة مرهقة ورمادية. لكن اليوم، تبدو لي مختلفة بمعالمها الباروكية القديمة المتألّقة ومبانيها المستنسخة، ناهيك عن منظر الأفق المزخرف الذي خلّده كاناليتو في لوحاته واعتُبر في عداد المفقودين عقب إجهاز السلاح الجوي الملكي البريطاني على المدينة عام 1945.  

من وجهة نظري الخاصة، إعادة توحيد ألمانيا هو الحدث الأبرز في مسيرتي الصّحفية. فجدّاي من جانب أبي وُالدا في الشّطر الذي أصبح فيما بعد ألمانيا الشرقية. وأبي بدوره، وُلد في درسدن إبان الحرب العالمية الثانية. وبعد نجاته من التفجيرات التي تعرّضت لها المدينة فيما كان طفلاً دارجاً، أخذته جدتي إلى هامبورغ هرباً من الجيش الأحمر.

هناك وبعد إنتهاء الحرب، التقت جدتي بضابطٍ بريطاني وصحافي يُدعى جيري كوك، فتبعته إلى بلاده واصطحبت معها أبي (في ذلك الوقت كان جدّي في معسكر أسرى الحرب البريطاني). أخذ جيري كوك على عاتقه تربية أبي واعتنى به كما لو كان ابنه من لحمه ودمه (إذ لم يكن لديه أطفال). في صغري، كنتُ أحبّ جداً القصص الورديّة التي يرويها كوك عن مسيرته الصّحفية. ولمّا سقط جدار برلين وانتهت عقود اللامبالة الطويلة وعادت ألمانيا تستقطب اهتمام المحررين والقراء البريطانيين، كنتُ في بداية مشواري المهني كصحفي مستقلّ.

وعلى امتداد السّنوات الثلاثين التالية، توجّهتُ إلى الشّرق مرات لا تُحصى ولا تُعدّ كي أنقل أخبار الشّطر الآخر من ألمانيا، قل الأرض التي ظلّت مغمورة لأربعة عقود. وخلال أسفاري، عثرتُ على المنزل المتواضع الذي شهد على ولادة أبي والقصر الذي نشأ فيه جدّي – واستولى عليه الشيوعيون وأحرقوا محتواه (قبل أن يتحوّل اليوم إلى كليّة تقنية). كما رأيتُ المدن التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية وظلّت في الخراب طوال العهد الشيوعي، تنفض الغبار عنها وتنهض في إطار عمليات إعادة إعمار مهيبة. لكن الأهم من ذلك كلّه أنني التقيتُ أنواعاً مختلفة من الناس – منهم الذين سُجنوا في بلادهم مدة 40 عاماً ومنهم الذين بُلّغ عنهم من قبل جيرانهم ومنهم الذين أُجبروا على اتباع خط الحزب الحاكم ومنهم الذين خافوا التعبير عمّا يجول في خاطرهم من أفكار، وباتوا الآن أحراراً – أحراراً في السفر، أحراراً في تأسيس شركات خاصة بهم وأحراراً في قول (أو نشر أو بثّ) ما فكّروا وشعروا به فعلاً.

حسناً، تلك كانت نظرتي للأمور – وكان فيها شيء من الحقيقة. ورغم أنّ جمهورية ألمانيا الاتحادية كانت بعيدة كلّ البعد عن المثالية، إلا أنها كانت بشكلٍ واضحٍ وصريح أفضل من جمهورية ألمانيا الدّيمقراطية بأشواط. وبالنسبة إليّ، كان التنقل بين الألمانيتين أوائل تسعينيات القرن الماضي، أشبه باستقصاء النتائج المتمخّضة عن تجربة هائلة، أربابها أجانب فضوليون أو آلهة ساديّون.

فتجربة ألمانيا هي تجربة بلدٍ مزّقته الحرب قبل أن تقسمه السياسة مناصفةً بين شطرٍ رأسمالي وآخر شيوعي، بلدٍ تُرك لحال سبيله أربعين عاماً. وبعد كلّ هذه المدة، رُفع الغطاء عنه ليتبيّن أنّ نصفه الغربي أمسى أحد أغنى البلدان في العالم، قل نموذجاً مثالياً عن الديمقراطية الناشطة ذات الاقتصاد المزدهر والمشهد الثقافي العامر. أما نصفه الشرقي، فأضحى دولة مفلسة معنوياً واقتصادياً يحكمها حزبٌ واحد: مشهد قاتم يزخر ببلدات متهالكة وصناعات راكدة وينحصر حفظ الأمن فيه بنظامٍ قمعيّ لم يتوانَ عن الاستبداد بكلّ جانب من جوانب حياة مواطنيه، بما في ذلك حقّهم في الهجرة. وأيّاً كانت الأخطاء الكثيرة التي اقترفها النظام الاتّحادي الألماني، فإنّه لم يُضطر يوماً إلى بناء جدار من أيّ نوع لمنع مواطنيه من الرّحيل.

لكن كما اتّضح لي من أسفاري، كلّ ذلك كان مجرّد جزء بسيط ممّا حدث فعلياً. وإن كان بعض الألمان الشرقيين قد أعربوا عن رغبتهم باسترجاع أيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية السّيئة، فهذا لا يعني بالضّرورة أنّهم كانوا سعداء تماماً بالنّظام الذي حلّ محلّها. في غضون الأعوام الثلاثين التي تلت سقوط جدار برلين، أنفق الألمان الغربيّون مبالغ طائلة من أجل تجهيز ألمانيا الشرقية ببنى تحتيّة جديدة – تتفوّق على تلك الموجودة في ألمانيا الغربيّة - وترميم مدنها وبلداتها التاريخيّة. ومع ذلك، لا يزال هناك شيء مفقود. فالألمان الشّرقيون الذين التقيت بهم أوائل تسعينات القرن الماضي كانوا سعداء بالتخلّص من الشيوعية، لكنّهم كانوا يتأملون بشيءٍ مختلف عن الرّأسمالية التّقليدية، نهج ثالث ومختلف ربما. وقد بدا لهم ذلك ممكناً لسنواتٍ عدّة، لاسيما في برلين، لكن في نهاية المطاف تمكّن النّظام الرأسمالي كعادته من فرض نفسه على الساحة.

وفيما كانت تتمحور لغة الخطابات السائدة حول إعادة توحيد الألمانيتين، كان الواقع على الأرض مختلفاً جداً. فالعام 1990، لم يشهد بناء دولةٍ جديدة، بل انحلال جمهورية ألمانيا الشرقية "الديمقراطية" وانضمام شعبها وأراضيها إلى جمهورية ألمانيا الغربية الاتحادية. ولجهة الاعتبارات العملية، فقد كانت غير متكافئة. وبما أنّ الشّطر الغربي هو الذي كان يتولّى إعادة إعمار الشّطر الشّرقي، كان من الطّبيعي جداً (للأسف) أن تكون العملية برمّتها تحت سيطرته.

وبما أنّه ما من مؤسسةٍ رسميّة في ألمانيا الشّرقية إلا وخضعت لإدارة مسؤولين شيوعيين متشددين، وبما أنّ بعضها تواطأ حتى وتورّط في جرائم ارتُكبت ضدّ شعبه، كان من سابع المستحيلات إصلاح النّظام من دون الإطاحة بمؤيّدي السّوفيات من مناصبهم الرفيعة واستبدالهم بألمان غربيين يتمتّعون بمؤهلات ليبرالية ممتازة. لكن رغم أمانة هؤلاء وحسن عملهم، بدا الأمر لبعض سكان ألمانيا الشّرقية وكأنّه ضرب من ضروب الإمبريالية الثقافية. من النّاحية الفعليّة، كان الجميع سعداء بالتخلّص من الدعايات المغلوطة التي اعتاد السوفيات التّرويج لها، لكن من ناحية عمليات إعادة الإعمار، لم يعد للكثير من الأدوات غير السياسية أيّ معنى أو وجود.

ولم يكن عليّة القوم في ألمانيا الشّرقية الوحيدين الذين فقدوا وظائفهم. ففي عام 1997، التقيتُ امرأة من درسدن كانت تعمل مدرّسة تاريخ في ظلّ جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ولما لم تعد قادرة على استتباع مسيرتها المهنية، سعت إلى تلقّي التّدريبات اللازمة لتُصبح مرشدة سياحية. في تلك الآونة، أي بعد توحيد الألمانيتين، حتى الحريات المستحدثة كانت نعمة ونقمة في آنٍ معاً. ونذكر من بين هذه الحريات على سبيل المثال لا الحصر: السماح للألمان الشرقيين بالولوج إلى ملفات وزارة أمن الدّولة: السّجلات المحفوظة من جانب "جهاز أمن الدولة" أو الشرطة السّرية في ألمانيا الشّرقية. ومن بين الذين التقيتهم في درسدن، رجلٌ اطّلع على ملفه الخاص لدى أمن الدولة، ويا ليته لم يفعل، حسب قوله، إذ كان يتألف من 600 صفحة ويزخر بمعلومات عنه من أصدقائه وجيرانه.

في الوقت الحاضر، يعيش الألمان الشّرقيون بحالٍ أفضل بكثير مّما كانوا عليه أيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية وأفضل بكثير من جيرانهم الأوروبيين في بولندا وجمهورية تشيكيا. في العام 1989، سجّل النّاتج المحلي الإجمالي للفرد في ألمانيا الشرقية حوالى 40% من الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا الغربية. أما اليوم، فهو يبلغ 80%. بالنّسبة إلى دولة استحال فيها إنشاء أيّ شكل من أشكال المشروعات الخاصة على مدى 40 عاماً، هذه النتيجة هي معجزة اقتصادية وتساوي بأهميّتها المعجزة التي تحقّقت في ألمانيا الغربية بعد الحرب.

لكن بنظر الألمان الشرقيين، لا يبدو الأمر كذلك. فالعاملون بينهم لا يزالون أفقر من جيرانهم في الغرب ولا يزال معدل البطالة في منطقتهم ضعف معدل البطالة في الغرب. لكن الحقيقة أنّ ما وصلت إليه الأمور في ألمانيا الشرقية التي استمرت غالبية الوظائف فيها غير مستقرة اقتصادياً على مدى 30 عاماً، هو تقدّم كبير. كلّ ما في الأمر أنّ الطبقة الفقيرة لا تقوَ على توسيع منظور رؤيتها. وعليه، لم يعد مستغرباً أن يستقطب حزب البديل من أجل ألمانيا، حزب اليمين المتطرف الجديد في ألمانيا ضعف الدعم الذي يتلقاه هنا في الشرق.

بصفتي زائر، أرى أنّ التّفاوت بين غربي ألمانيا وشرقها اليوم أقلّ من التفاوت بين جنوب إنكلترا وشمالها – وهذا بحدّ ذاته إنجاز مذهل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كانت عليه أحوال ألمانيا الشرقية عام 1989. لكنّ الزوار الذي يؤمّون شرق ألمانيا من كلّ حدبٍ وصوب، يميلون إلى تكوين رأيٍ غير متوازن مثلهم مثل زوار شمال إنكلترا. وإن كان الإزدهار الذي تشهده المدن الكبرى في الشمال (ليدز ومانشستر ونيوكاستل) ينسحب على المدن الكبرى في ألمانيا الشرقية (درسدن ولايبزيغ وبرلين)، فإنّ الأمر مختلف تماماً بالنسبة إلى البلدات الصغيرة، في ألمانيا الشرقية كما في إنكلترا الشمالية. وهنا يجد حزب البديل من أجل ألمانيا أرضاً خصبة لخطاباته المناهضة للهجرة.

أما الفجوة الأكبر بين الفائزين والخاسرين من سقوط جدار برلين، فكانت الفجوة العمرية؛ إذ كلّما كنت يافعاً، كلّما زادت مكاسبك. وكلّما تقدّم العمر بك، كلما زادت خسائرك. ولو كنت ما دون العقد الثالث من العمر ولا مَن تعيله وتصرف عليه، لكنت المرشح الأبرز لدخول إحدى جامعات غرب ألمانيا، فالعيش والعمل في ألمانيا الغربية أو في أي مكانٍ آخر في أوروبا.

ولو كنت في العقد الرّابع، لما كان خبر إعادة التوحيد ليُفرحك تماماً. ولو كنت موظفاً كادحاً، لخسرت على الأرجح وظيفتك في المعمل. ولو كنت موظفاً إدارياً، لانقلب عليك ولاؤك للنظام القديم وتحوّل من نعمة إلى نقمة. يُمكنك أن تبذل كلّ ذرة جهدٍ لديك كي توفّر لأطفالك بداية جيّدة في الحياة، ولكنّ هذه البداية لن تضمن مكوثهم إلى جانبك مدى العمر. فالعديد من شباب ألمانيا الشرقية غادروها بحثاً عن ظروف عيش أفضل ولم يعودوا إليها أبداً.

وقد ثبُت لي ذلك عندما عدتُ أدراجي إلى المنزل الذي وُلد فيه أبي في ضواحي درسدن. فالعائلة التي تقطنُ فيه الآن، وصلت إليه واستقرّت فيه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية واستيلاء ستالين على الأراضي الألمانية في أقصى الشّرق. ولمّا التقيتُ أفراد تلك العائلة أوّل مرّة خلال تسعينيات القرن الماضي، بدوا لي سعداء ومفعمين بالأمل. وعندما عدتُ إليهم في العقد الأول، بدوا حزانى ومعكّري المزاج لأنّ أطفالهم لم يعودوا في جوارهم وقد تركوهم ليعملوا ويتعلّموا في الغرب، غير آبهين بمنزلهم الذي بات مستحدثاً ومليئاً بآخر وسائل الرّاحة.

وفي ختام رحلتي الأخيرة إلى برلين، تبادلتُ أطراف الحديث مع ألمانيين شرقيين خاطرا بحياتهما من أجل الهروب إلى ألمانيا الغربية خلال الحرب الباردة. سألتهما عّما يشعران به الآن بعد مرور 30 عاماً على سقوط جدار برلين: هل تبدّلت حال ألمانيا الشرقية للأفضل؟ هل حقّقت إعادة التوحيد النجاح المتوخى؟

من جهة ستيفان غيرنيغ، فقد ترعرع شرقي برلين في كنف عائلةٍ مؤلفة من أبٍ لاهوتي كاثوليكي وأم شيوعية متشددة. كانت الصّحافة حلمه الكبير منذ الصغر. لكنّ الصحيفة المدرسية التي كان يُصدرها لم تسلم يوماً من انتقاد السلطات ونعتها لها بالتخريبية. ولمّا ورده قرار حرمانه من التقدّم في دراسته للوصول إلى المرحلة الثانوية، سافر إلى ألمانيا الغربية عبر تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا والنّمسا فيما لا يزال في السادسة عشر من العمر. كان ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1989. وبعد رحيل غيرنيغ بشهرٍ واحد، سقط الجدار. "كان من الجيد إعادة توحيد الألمانيتين. فرغبة الأمة الواحدة في العيش تحت راية بلدٍ واحد أمر مفروغ منه. المهم أن تعثر الأمة الألمانية الآن على السلام الداخلي"، يقول لي غيرنيغ بصدقٍ تام.

ومن جهة بيتر بارش القادم من شرقي برلين، فقد حاول بدوره الفرار إلى ألمانيا الغربية عندما كان في السادسة عشر من العمر. لكنّ محاولته باءت بالفشل وانتهت باعتقاله وزجّه في السجن لسنتين. "كانت المشاكل تُلاحقني في المدرسة لأنني كنت كستيفان - أطرح كل الأسئلة الخاطئة طوال الوقت. لم أخف يوماً من جمهورية ألمانيا الديمقراطية. كنتُ أحتقر الجميع وأعتبرهم كالمهرجين"، يخبرني بارش. وفي العام 1978، أيّ بعمر العشرين، حاول بارش الهروب من جديد. أراد أن يزور باريس؛ وهذه المرة كان له ما أراد – حيث هرب إلى غرب برلين مجتازاً نهر شبريه سباحةً "لم يكن بلداً كاملاً، لطالما كان هناك شيء ناقص"، يقول لي بارش عن سنوات المنفى التي قضاها في ألمانيا الغربية. "مَن يُغادر منزله ولا يستطيع العودة إليه، لا شك دفع ثمناً غالياً من أجل حريته. كان هناك ثمناً عاطفياً لا محال".

قبل سقوط جدار برلين، شعر بارش بإحساسٍ عميق بالانفصال في الغرب. لم يندم إطلاقاً على قراره بالرّحيل، ولكنّه شعر بالحنين إلى أصدقائه وأسرته في الشرق. ومن ألمانيا الغربية، توجّه بارش إلى لندن؛ هناك، شغل وظيفة رجل صيانة وتعرّف على صديقته الحميمة الأولى من الجنسية الفرنسية، فاصطحبته معها إلى فرنسا حيث التقى بامرأة أميركية وتزوّج منها. كان بارش وزوجته يعيشان في كاليفورنيا عندما سقط جدار برلين. عند الوهلة الأولى، لم يستطع بارش تصديق ما حصل. وعند الوهلة الثانية، ذرف الدموع وهرع يحجز لنفسه تذكرة العودة إلى برلين التي يمكث فيها إلى الآن: "ألمانيا اليوم أفضل من ألمانيا الأمس. وعمليات الإصلاح ستستمرّ فيها إلى حين توحيد البلاد بالكامل".

إذن ما الذي يُخبّئه المستقبل للجيل القادم من الألمان الشرقيين؟

على الرغم من اكتساح حزب البديل من أجل ألمانيا الساحة السياسية، لا أزال متفائلاً بصورة يُستعصى شفاؤها. فالفارق بين الشطرين الشرقي والغربي يضيق ويضمحل مع ازدياد اقتصاد شرق ألمانيا قوةً عاماً بعد عام. لكنّ المسألة ليست مسألة مال وحسب، بل مسألة نوعية حياة كذلك. برأيي الخاص، ثمة مكانين في لايبزيغ (التي كانت تعتبر مدينة فاسدة في عهد جمهورية ألمانيا الديمقراطية) يختصران نهضة ألمانيا الشرقية – مصنع سبينيري القديم للقطن وموقع المناجم السطحية؛ فالأول تحوّل إلى مركزٍ ناشط للفنون، والثاني طُمر وحُوّل إلى بحيرات ريفية.

وماذا عن الرجل الذي أزكى بسؤاله نيران الثورة؟ ما شعوره حيال مجريات الأمور؟ "أنا أفهم أنّ الشعب غير صبور. لكنّ أغلبيّته تحبّ العيش تحت مظلة الديمقراطية"، يُجيبني بيتر برينكمان. بالنّسبة إلى الجيل الأكبر سناً من الألمان الشرقيين، فهم يُعتبرون من مخلّفات حقبة إعادة التوحيد. لكن بعد 30 عاماً من اليوم، لن يعود بإمكان أي مواطن ما دون السبعين من العمر تذكّر ما كانت عليه جمهورية ألمانيا "الديمقراطية". ربما آنذاك، وآنذاك فقط، ستكون ألمانيا قد اتّحدت عن حقّ وحقيق.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات