ملخص
يعيد كتاب "مكتبات العالم" الاعتبار للمكتبة كمؤسسة ثقافية حية لا مجرد متجر بيع. مقدماً رحلة فريدة عبر ما يقارب 250 مكتبة تاريخية ومعاصرة موزعة على القارات الخمس، ترسم خريطة ثقافية لمتاجر الكتب بوصفها فضاء للمعرفة والسجال الفكري وتكوين الهوية والذائقة الفنية.
صدر حديثاً في باريس عن دار "سيتاديل & مازونو" كتاب بعنوان "مكتبات العالم" (2025) من تأليف المؤرخين والأكاديميين المتخصصين في تاريخ الكتب والمكتبات والنشر جان-إيف مولييه وباتريسيا سوريل.
يأخذ الكتاب الموسوعي والمصور بصفحاته التي تتجاوز الـ300، القارئ في رحلة فريدة عبر ما يقارب 250 مكتبة تاريخية ومعاصرة موزعة على القارات الخمس، ترسم خريطة ثقافية لمتاجر الكتب بوصفها فضاء للمعرفة والسجال الفكري وتكوين الهوية والذائقة الفنية.
منذ الصفحات الأولى، يتضح أن رهان المؤلفين هو إعادة الاعتبار للمكتبة كمؤسسة ثقافية حية، لا مجرد متجر بيع. فمن مكتبة "سيتي لايتس" الأسطورية في سان فرانسيسكو، التي تعد واحدة من المؤسسات الثقافية والفكرية التي لعبت دوراً محورياً في تاريخ الأدب الأميركي المعاصر منذ تأسيسها سنة 1953 على يد الشاعر لورنس فيرلينغيتي وبيتر د. مارتن، اللذين حاولا خلق الجو الذي كان سائداً في مكتبة "شكسبير وشركاه" في باريس، الواقعة بجوار كاتدرائية نوتردام قرب نهر السين، التي أصبحت، منذ افتتاحها عام 1951، ملتقى الكتاب والقراء الناطقين بالإنجليزية، مروراً بالمكتبات الصغيرة والضيقة التي تتكدس فيها الكتب المميزة في القاهرة، وصولاً إلى مكتبة "فويلز" الشهيرة في لندن والتيه في 50 كيلومتراً من رفوفها وكتبها التي تغطي جميع الموضوعات والتخصصات.
ثمة الدخول إلى مكتبة "الأعمدة" في طنجة التي أراد مؤسسها أن تتحول إلى مساحة يلتقي فيها أدباء العالم على اختلاف جنسياتهم والانغماس في كتبها المتنوعة اللغات، لا سيما عالم روايات ويليام بوروز والذوبان في نسيجها السردي، أو مكتبة "سيري" في الرباط، ومكتبة "فرارير" في الدار البيضاء، أو مكتبة "ليلو" بعمارتها النيو-قوطية التي تأسست سنة 1869 في مدينة بورتو البرتغالية.
وتعد من أجمل مكتبات العالم وأبرز المعالم الثقافية في قلب المدينة لما تنطوي عليه من قيمة تاريخية وثراء معماري، وتجاور رفوف كتبها مع تماثيل نصفية لأعلام الأدب البرتغالي في مشهد يجمع بين الذاكرة الثقافية وروعة المكان، ومتاهة مكتبة "كزيدان" في بكين، ومكتبة "كارتوريستي كاروسيل" في بوخارست التي يعود تاريخها إلى القرن الـ19، ومكتبة "دومينيكانن" المقامة داخل كنيسة قوطية في ماستريخت التي تعود إلى القرن الـ13، وسواها من المكتبات المتجلية كأمكنة تتقاطع فيها الذاكرات الفردية والجماعية والتاريخ الاجتماعي للقراءة وتحولات النشر.
5 الآف عام
يذكرنا المؤلفان بأن المكتبة ترافق تاريخنا منذ أكثر من 5 آلاف عام، من ألواح سومر إلى "التابيرناي ليبرارياي" أي الحوانيت الصغيرة بصيغتها القريبة مما نعرفه اليوم، التي كانت تبيع الكتب المخطوطة واللفائف في روما القديمة، أو تلك المتاجر التي تعود إلى أثينا في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، مما يجعل المكتبة واحدة من أقدم مؤسسات تداول المعرفة في التاريخ.
غير أن هذه المؤسسة لم تكن يوماً ثابتة أو محايدة، إذ خضعت عبر العصور لتقلبات السياسة والرقابة والسوق والتحولات التقنية. من هذه الزاوية، لا يقدم المؤلفان المكتبات كأمكنة معزولة عن الواقع، بل بوصفها مرايا دقيقة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المدن التي تقع فيها.
إحدى أبرز نقاط القوة في الكتاب التنوع الثقافي - الجغرافي. فإلى جانب مكتبات أوروبا وأميركا الشمالية، تحضر مكتبات الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ناقلة القارئ من بيروت إلى إسطنبول، ومن القاهرة إلى طوكيو، ومن مكسيكو إلى بوينس آيرس، ومن داكار إلى الدار البيضاء. ولئن كان هذا الخيار يبرز التنوع، فإنه يكسر أيضاً الصورة النمطية التي تحصر "ثقافة المكتبة" في مجتمعات الوفرة الغربية.
إن مشهد باعة الكتب الأفارقة الذين يعرضون كتبهم على الأرصفة، أو الباعة البرازيليون الذين ينشرون كتبهم على الحائط عبر مدهم حبالاً يضعونها عليها، تظهر أن الكتاب حاضر حتى في الأماكن الهامشية والمدن الصغرى، وأن القراءة فعل مقاومة بقدر ما هي متعة.
يصر مولييه وسوريل على أن المكتبة ليست فضاء معمارياً ومتجراً للبيع فحسب. إنها مكان للسوسيولوجيا الحية، حيث تتشكل العلاقات وتعقد الصداقات وتولد الحركات الأدبية والفكرية. يكفي التذكير بدور مكتبات مثل "شكسبير وشركاه" الباريسية في احتضان كتاب المنفى، أو مكتبة "سيتي لايتس" في نشر النصوص الممنوعة ودعم الحركات الاحتجاجية، لندرك أن المكتبة كانت، ولا تزال، فضاء سياسياً بالمعنى العميق للكلمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يكتسب هذا الكتاب الجميل راهنيته من التذكير بأن المكتبات في فرنسا صنفت في ذروة الحجر والإغلاق أيام جائحة كورونا كمرافق حيوية. ولعل هذا التصنيف ليس تفصيلاً ثانوياً، بقدر ما هو تأكيد أن المجتمعات الحديثة، رغم هيمنة التكنولوجيا الرقمية، لا تزال تعترف أن الكتاب والمكتبة عنصران أساسيان في التوازن النفسي والثقافي للمجتمع.
الناحية الصرية
يلفت الكتاب القارئ من الناحية البصرية والفنية، لأن صوره الملونة التي يتجاوز عددها 250 لا تكتفي بتوثيق الواجهات والرفوف والكتب، بل تلتقط روح الأمكنة بضوئها وخشبها وفوضاها المنظمة وصمتها أو أصواتها الخافتة. وقد حرص جان-إيف مولييه وباتريسيا سوريل على تجنب الرتابة البصرية الشائعة في كتب من هذا النوع، فاختارا لقطات تبرز اختلاف طرق العرض واختلاف علاقة القارئ بالكتاب من ثقافة إلى أخرى.
لا ينبغي أن يفوت عشاق الكتب فرصة التعرف على هذا الكتاب وعلى المكتبات التي يقدمها التي لا تزال تحتفظ ببريقها كمكتبة "دولامان" ومكتبة "ليكوم دي باج" في باريس وغيرها من المكتبات التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتاريخ هذه المدينة أو سواها. فهو يوازن بين السرد التاريخي والعمق المعرفي والتحليل الثقافي والبعد الجمالي متوجاً مساراً علمياً طويلاً للمؤلفين اللذين يعدان من أبرز المؤرخين المتخصصين في تاريخ الكتاب والاقتصاد الثقافي والنشر والقراءة في فرنسا.
يعترف جان-إيف مولييه وباتريسيا سوريل أن اختيار المكتبات التي تحدثا عنها لم يكن سهلاً، ذلك أن أي شخص معتاد على الدخول إلى المكتبات وشراء الكتب يعرف أنه ثمة فروق واختلافات كبيرة بين مكتبة "سيتي لايتس" الأسطورية في سان فرانسيسكو، والمكتبة الصغيرة والضيقة التي تتراكم فيها الكتب في القاهرة. ولإظهار هذه الفروق والتنوعات، قررا البدء من فرنسا، وتحديداً من باريس وضواحيها، قبل أن ينتقلا إلى باقي المناطق، ثم مواصلة رحلتهما عبر المدن الأوروبية، فأميركا والشرق الأوسط، وآسيا وأستراليا وأفريقيا.
في المحصلة، إن كتاب "مكتبات العالم" ليس كتاباً عن المكتبات فحسب، بل عن مفارقات الكتاب المتعددة بوصفه في آن واحد منتجاً تجارياً وعملاً من أعمال الفكر وتجربة إنسانية كونية، وعن الأماكن التي احتضنته وحمته وسمحت له أن يعبر العصور.
يخرج القارئ منه حاملاً زمناً مستعاداً وإحساساً ثميناً بأن كل شيء لم يضع بعد وأن كل مكتبة تروي طريقة في القراءة. إنه دعوة مفتوحة إلى إعادة التفكير في علاقة الإنسان بالمعرفة والمدينة والزمن واكتشاف حيوية المكتبات كفضاءات لتبادل الأفكار والثقافة عبر القارات، وإلى إدراك أن الدخول إلى مكتبة لا ينحصر في فعل الشراء، إنه عبور إلى عالم آخر نتعلم فيه الإبطاء، واستعادة إيقاع إنساني للزمن، حيث يمكننا، على ما يقول لويس كارول، رؤية العالم "من الجهة الأخرى من المرآة".