ملخص
ليست المدينة الفارابية الفاضلة، خيالية ولا هي تقع في جزر استوائية ولا تنتمي أبداً إلى عالم الخيال - السياسي. إنها مدينة ممكنة، وتنطلق من تلك الفكرة البسيطة التي أخذها الفارابي عن أفلاطون، وأورثها لابن خلدون
على رغم خوض أبي نصر الفارابي في الأمور الفلسفية كافة، من مدنية ودينية وفكرية بحتة، فإن اسمه ارتبط خصوصاً بثلاثة أمور: نظرية الفيض، ومحاولة الجمع إسلامياً بين رأيي الفيلسوفين (الحكيمين) أفلاطون وأرسطو، وتصوره للمدينة الفاضلة. والحال أن قارئ كتاب الفارابي الأساس "آراء أهل المدينة الفاضلة" يتضح له أن هذا الكتاب، الفريد من نوعه في الفكر العربي القديم، يجمع تلك الأمور الثلاثة في حزمة واحدة.
ونحن نعرف بالطبع أن الفارابي، الذي لقبه العرب بـ"المعلم الثاني"، باعتبار أرسطو هو "المعلم الأول"، تعرض لأعنف درجات الهجوم من المتكلمين الإسلاميين، وعلى رأسهم الإمام أبو حامد الغزالي، في "تهافت الفلاسفة"، الذي بدعه وكفره في معظم مسائله، وتحديداً بسبب كثير من الأفكار والطروحات التي جاءت في "آراء أهل المدينة الفاضلة".
ومع هذا، وعلى رغم تحامل الغزالي، لا يزال هذا الكتاب حياً حتى اليوم. وفي الأقل بجانبه السياسي - المدني، إذ يعتبر، في تاريخ الفكر، واحداً من تلك الكتب التي كان همها أن تبحث للإنسان عن محيط فاضل يعيش فيه.
على خطى أفلاطون
وفي هذا الإطار، يقال عادة إن الفارابي، في بنائه لـ"مدينته الفاضلة" إنما سار على خطى أفلاطون الذي كان بنى عالماً مشابهاً في بعض أقوى فصول "الجمهورية".
ومع هذا ثمة كثير من أرسطو و"السياسة" في "آراء أهل المدينة الفاضلة"، إذ يمكننا القول إن الفارابي هنا أيضاً في هذا الكتاب، سعى إلى التوفيق بين فيلسوفي العصر الإغريقي الكبيرين، توفيقاً، لم يكن على أية حال، موفقاً، إلا في النتيجة النهائية التي أدى إليها: توليفة المدينة التي رسمها أبو نصر، التي استلهم منها المفكرون ودرسوها وما زالوا يدرسونها.
ورب قائل: المؤسف، طبعاً، هو أنها لم تستلهم ممن كان يجب أن يعنيهم الأمر، أكثر: الحكام، فمدينة أبي نصر الفاضلة، ظلت خيالية حتى يومنا هذا، مما يجعلها، على رغم واقعيتها، تصطف إلى جانب مدن توماس مور وكامبانيلا وبيكون وغيرهم.
ومع هذا، ليست المدينة الفارابية الفاضلة، خيالية ولا هي تقع في جزر استوائية ولا تنتمي أبداً إلى عالم الخيال - السياسي. إنها مدينة ممكنة، وتنطلق من تلك الفكرة البسيطة التي أخذها الفارابي عن أفلاطون، وأورثها لابن خلدون (أكبر مطوريها وأهمهم): "إنما البشر، على تنافرهم، محتاجون إلى الاجتماع والتعاون". أي أن الإنسان، وفق تلخيص د. ألبير نصري نادر، لفكرة الفارابي "لا يستطيع أن يبقى، وأن يبلغ أفضل كمالاته إلا في المجتمع".
كيف تتكون الرئاسة
والمجتمعات البشرية منها ما هو كامل، ومنها ما هو غير كامل. فـ"الكامل منها ثلاثة: العظمى (وهي المعمورة)، والوسطى (وهي الأمة)، والصغرى (وهي المدينة)، وغير الكاملة هي: القرية والمحلة والسكة والمنزل".
أما المدينة الفاضلة، فـ"شبيهة بالجسم الكامل التام، الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها"، وكما أن "مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتب بعضها لبعض، وتخضع لرئيس واحد، هو القلب، كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة". وكما أن "القلب هو أول ما يتكون في الجسم، ومن ثم تتكون بقية الأعضاء فيديرها القلب، كذلك رئيس المدينة"، والرئيس هو إنسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها.
فكيف يبدو للفارابي هذا "الرئيس" المستعار أصلاً من أفلاطون؟ إن الفارابي بعد أن يقول لنا إن "الرئاسة تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداً لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية"، يقول "إن الرئيس الأول في جنس لا يمكن أن يترأسه شيء من غير ذلك الجنس"، و"أن ذلك الإنسان يكون إنساناً قد استكمل فصار عقلاً ومعقولاً بالفعل".
والفارابي يحدد 12 خصلة فطر عليها الرئيس "أن يكون تام الأعضاء جيد الفهم والتصور جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ويسمعه، ثم أن يكون جيد الفطنة ذكياً وأن يكون حسن العبارة، يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره، محباً للتعليم والاستفادة، غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، وأن يكون محباً للصدق وأهله، كبير النفس محباً للكرامة، وأن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده، محباً للعدل وأهله، وأن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل".
المدن غير الفاضلة
والحال أن الفارابي إذا كان يركز هنا، وفي التفصيل، على خصال المؤهل للرئاسة، فما هذا إلا لأنه لا يتصور مدينة فاضلة لا يحمل رئيسها صفات تقربه كثيراً من صورة الفيلسوف الذي به ينيط أفلاطون تسلم الحكم في "الجمهورية".
والفارابي يلفت إلى أنه إذا "لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط، ولكن وجد اثنان، أحدهما حكيم والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة". وإذ يصف الفارابي الرئيس والرئاسة على هذا النحو، يفصل رأيه في المدينة الفاضلة، ولكن بالأحرى عبر تعريفه لمضاداتها، وهي "المدينة الجاهلة" (التي لم يعرف أهلها السعادة)، و"المدينة الفاسقة" (وهي التي تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة، ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدن الجاهلة)، و"المدينة المتبدلة" (وهي التي تكون آراؤها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدلت)، وأخيراً "المدينة الضالة" (وهي التي تظن السعادة، ولكنها غير هذه).
وإذا كنا قد ركزنا على هذه الأمور، فما هذا إلا لأنها تشكل جوهر ما كان يرمي إليه الفارابي، والذي وصل إليه بعد تحليل طويل ومعمق، في كتاب، يقسم أصلاً قسمين: الأول فلسفي والثاني سياسي - اجتماعي، علماً أن القسم الأول كان مجرد تمهيد للثاني. في القسم الأول درس الفارابي الله وصفاته، ثم صدور الكائنات عن الأول (نظرية الفيض التي دانها الغزالي أساساً)، ثم الإنسان الذي "يتمتع بإرادة حرة إلى جانب العقل، وظيفتها تحصيل السعادة له بواسطة أعماله العاقلة".
سياسة مدنية
أما في القسم السياسي، وهو الأهم كما أشرنا، الذي يطور فيه الفارابي آراء وأفكاراً عالجها وبالطريقة نفسها في كتاب آخر له هو "السياسة المدنية"، فإن المؤلف يبحث كما أشرنا في "المدينة الفاضلة ومضاداتها"، انطلاقاً من نظام فلسفي أخلاقي سياسي متكامل، تأثر فيه بأفلاطون، كما تأثر في حديثه عن النفس بأرسطو، ولكن بعد أن وصل إليه من طريق شروحات الإسكندر الأفروديسي (مما شوه أفكار أرسطو، وجعل من الممكن للفارابي أن يحاول التوفيق بينه وبين أفلاطون!).
ونعرف طبعاً أن كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" قد لعب دوراً أساسياً في تاريخ الفكر الإسلامي، حتى وإن كان في قسمه الأول يخالف (وبخاصة في بحثه في مسألة "الفيض"، والتمييز بين الحكمة والشريعة، وهو تمييز حاول ابن رشد لاحقاً دحضه في "فصل المقال"، ومسألة قدم العالم في الزمان) ما جاء في تعاليم الإسلام، مما سهل على الغزالي التصدي له، في شكل غطى على أمور مدينة جاءت لدى الفارابي، ولم يكن فيها، هي، ما من شأنه أن يخالف الإسلام.
مهما يكن من أمر ذلك السجال الحاد بين الفارابي والغزالي، فإن الأول ظلت، ولا تزال، له مكانته، ولا يزال ما بقي لنا من كتبه الكثيرة، يشكل جزءاً أساسياً من التراث الإسلامي نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيرة مختصرة لحياة غنية
ولد أبو نصر الفارابي (وهو محمد بن محمد بن طرخان) في واسج في مقاطعة فاراب بتركستان، لأب من المفترض أنه كان قائداً عسكرياً للسامانيين. ودرس أولاً في بغداد على يد معلم مسيحي هو يوحنا بن حيلان ثم ارتحل بعد ذلك إلى حلب، حيث، بعد أن تشبع بدراسة الموسيقى والرياضيات والفلسفة والعلوم، استقر منذ عام 941 م في مجلس سيف الدولة في حلب، ومن هناك انطلق في سفرات عدة، قاده بعضها إلى القاهرة، أما وفاته فكانت في دمشق في عام 950 عن 80 عاماً.
والفارابي الذي قال عنه هنري كوربان إن "نظريته في المدينة الفاضلة تحمل سمة يونانية باستلهامها الأفلاطوني، لكنها تتجاوب مع التطلعات الفلسفية والصوفية لفيلسوف إسلامي"، ترك كثيراً من المؤلفات، بينها ما ذكرنا، إضافة إلى "إحصاء العلوم" و"كتاب السياسة المدنية" و"منطق أرسطوطاليس" و"كتاب الحروف" و"فصوص الحكم".