Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إيران لحدودها والحلفاء لبلدانهم

تحتاج طهران إلى إعادة تعريف العمق الاستراتيجي مع اعتماد مبدأ الساحات المنفردة بدلاً من وحدة الساحات

فرضت معطيات الحرب الإيرانية الإسرائيلية قبل شهور معطيات جديدة على معادلة وحدة الساحات (أ ف ب)

ملخص

إيران منذ بداية عهدها الإسلامي، سعت إلى توظيف كل ما تملكه من قدرات من أجل إنتاج مشروعها الخاص في الإقليم، وهو مشروع قد يختلف في أدبياته مع أدبيات العهد الملكي الشاهنشاهي، إلا أنه يلتقي معه في أهدافه وأبعاده الساعية إلى تحويل إيران لقوة مهيمنة ومسيطرة في الإقليم على حساب مصالح وسيطرة ودور الدول الفاعلة فيه.

منذ انتصار الثورة الإيرانية، سعى النظام الإسلامي إلى بناء منظومة نفوذ خارج الحدود الجغرافية لإيران، مستفيداً من نظرية سياسية تنطلق من مفهوم العالمية الإسلامية وعلى رأسها ولي الفقيه الذي هو "ولي أمر المسلمين"، مما جعل في البداية من استراتيجية تصدير الثورة المدخل لبناء منظومة نفوذها محاربة الاستكبار العالمي والدول التابعة له سواء دولياً أو على المستوى الإقليمي، واحتلت إسرائيل صلب هذه المواجهة والحرب باعتبارها كياناً دخيلاً على المنطقة والعالم الإسلامي.

وشكلت فلسطين محور هذه الاستراتيجية، من خلال السعي إلى مصادرة قضيتها، فتتحول إيران وثورتها إلى الجهة الوحيدة التي تتولى هذه المهمة، من خلال اتهام الدول الإسلامية والعربية بالتقاعس أو التخلي عن هذه القضية. وهو المشروع أو الرؤية التي تنبه لها مبكراً الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي ذهب في البداية إلى بناء علاقة مختلفة وعميقة مع الثورة الإيرانية، إلا أنه سرعان مع تراجع وانكفأ عندما لمس محاولات مصادرة القرار الفلسطيني الوطني المستقل ووضعه في سياق القرار الإيراني ومصالح طهران الإقليمية والدولية.

هذه الاستراتيجية المبكرة لطهران، كان من المفترض ألا تتحول إلى مادة يستخدمها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف لإظهار تطهرية بلاده في التعامل مع هذه القضية، عندما حاول القول إن بلاده دفعت أثماناً قرابة الخمسة عقود من أجل قضية تخص الدول العربية، لا علاقة لإيران بها، لأن سلوك ظريف وقراءته الناقصة التي تحاول تسويغ الالتفاف وتوجيه رسائل إلى الأطراف الدولية المعنية بمسألة العداء بين طهران وتل أبيب، لم تكن نيابة عن العرب، بل مشروعاً طموحاً للنظام الإيراني لبناء استراتيجيته الإقليمية وأخذ مكان على الخريطة الدولية.

إيران منذ بداية عهدها الإسلامي، سعت إلى توظيف كل ما تملكه من قدرات من أجل إنتاج مشروعها الخاص في الإقليم، وهو مشروع قد يختلف في أدبياته مع أدبيات العهد الملكي الشاهنشاهي، إلا أنه يلتقي معه في أهدافه وأبعاده الساعية إلى تحويل إيران لقوة مهيمنة ومسيطرة في الإقليم على حساب مصالح وسيطرة ودور الدول الفاعلة فيه. وذهبت إيران الإسلامية إلى خطوة أبعد من خلال تعديل مفهوم "العمق الاستراتيجي" للدولة المتعارف عليه في العلوم السياسية الذي يعرف أو يحدد وحدة الأراضي الوطنية والقومية للدولة والدفاع عنها وردع أي عدوان يهددها، وذهبت أيضاً إلى بناء مفهوم جديد يقوم على إيجاد مناطق فاصلة أو "حائلة" أو نفوذ خارج حدودها، وتحويل مفهوم الردع القومي وتمديده إلى خارج الجغرافيا الخاصة بها.

وهذه الرؤية في تعريف العمق الاستراتيجي، سمحت لإيران بتشكيل حال ردع خارج حدودها وبعيداً منها، حيث استطاعت على مدى العقود الماضية الحفاظ على الأمن القومي من خلال محور المقاومة، واستمرت حال الردع في ظل امتلاك طهران القدرة على التحكم بهذا المحور، وقد سمح إنجاز المحور لمرشد الثورة في التاسع من يناير (كانون الثاني) لعام 2024 أن يتحدث بثقة عن أسباب صمود إيران في مواجهة أعدائها على مستوى التقدم والقدرة وموقعها كقوة إقليمية، وأن يرد أسباب ذلك إلى "وجود قوى المقاومة في كل المنطقة، باعتبارها العمق الاستراتيجي لنظام الجمهورية الإسلامية".

المنعطف الذي أنتجته معركة "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة "حماس" ضد إسرائيل، وتالياً معركة الإسناد التي فتحها "حزب الله" على الجبهة اللبنانية، أدخلا المنطقة في منعطف جديد، ووضعا المشروع الإيراني ومحور المقاومة الذي تقوده أمام تحديات مختلفة، بلغت ذروتها مع انهيار النظام السوري وهرب بشار الأسد، مما جعل مفهوم الردع الإيراني بعيداً من حدوده الجغرافية أمام أزمة حقيقية، ترتبط باستمرارية جدواه بناء على المعطيات التي قام عليها سابقاً، بخاصة أن تراجع قدرة هذه القوى المشكلة للمحور والضربات التي لحقت بها أنهت مفهوم الردع، ووضعت الجغرافيا الإيرانية أو العمق الاستراتيجي الحقيقي للنظام الإيراني في مواجهة الاستباحة والعجز عن منع استهدافها مباشرة، وانتهت بتعرض هذا العمق لضربة قاسية في يونيو (حزيران) الماضي وضعت كل النظام ومشروعه أمام استحقاق الحفاظ على النفس والاستمرار والتصدي لأية زعزعة داخلية قد تطيح به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما تحاوله إيران في هذه المرحلة، هو العودة لنوع من الواقعية لاستيعاب هذه التطورات والأحداث وتداعياتها، ومحاولة قراءتها بصورة تساعدها في تجاوز الأخطار التي ترتبت عليها. وتنطلق في ذلك من التأكيد على أن القوى التي تشكل المحور أدت الدور التاريخي المرسوم لها، وأبعدت من إيران ونظامها احتمال التعرض لأي هجوم أو استهداف مباشر من خلال توازن الردع الذي فرض خلال العقود الماضية. وعليه لا يمكن الإقرار بأن هذه القوى أو هذا المحور قد تعرض لهزيمة. ولذلك فإن المرحلة المقبلة تفرض على إيران وعلى هذه القوى إعادة ترميم أوضاعها وتأهيل قدراتها واللجوء إلى استراتيجيات مختلفة. وبناء على هذه الحاجة أو الرؤية الجديدة التي من المفترض أن تتحول إلى استراتيجية المحور المنسقة مع التطورات الحاصلة، فإن طهران تحتل قلب هذا المحور ومنطلقاً له، بالتالي فإن الترميم وإعادة التأهيل لن يقتصرا على هذه القوى، بل من واجب إيران أن تقوم بذلك أيضاً في الداخل لأن حاجتها إلى ذلك أكثر إلحاحاً وضرورة من أي وقت مضى.

والاعتراف بخسارة النظام لقدرته على الردع بعيداً من حدوده، تبدو واضحة في السلوكيات التي يتعامل بها مع التطورات الإقليمية، بالتالي يسعى إلى الانتقال لاستراتيجية جديدة، تأخذ في الاعتبار هذه المستجدات، إضافة إلى خصوصيات كل طرف من قوى هذا المحور داخل المحيط الذي يعمل فيه، أي الجغرافيا الوطنية والموجبات التي تسهم في تشكيل مفهوم المقاومة. وهذا يعني الانتقال من استراتيجية وحدة الساحات إلى استراتيجية الساحات المنفردة التي تأخذ كل منها شروطها الخاصة التي تسمح بإعادة ترميم وتأهيل قدراتها بناء على الحاجة الوطنية. والساحتان اللبنانية والعراقية ستكونان الأكثر استعداداً لتطبيق الاستراتيجية الجديدة، فتستجيبان للتحديات التي تتعرضان لها والضغوط التي تعيشان فيها.

وهذا التحول في قراءة المشهد الذي بدأ بالتمظهر نسبياً، سيكون مدعوماً من الناحية السياسية والدبلوماسية من قبل إيران التي ستحاول العمل على بناء مظلة رسمية في التعامل مع القوى الإقليمية، من خلال إعادة تعريف مفهوم المقاومة في إطار الشروط التي تفرضها العلاقات والتعاملات على المستوى الإقليمي. والسعي إلى توظيف هذه المقاومة ومفاهيمها الجديدة في سياق خطاب إقليمي لخلق توازن وتعزيز موقف هذه الدول لمواجهة الأطماع الإسرائيلية التي تسعى إلى فرض هيمنتها على المنطقة.   

اقرأ المزيد

المزيد من آراء