Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البحث عن "جودة الحياة" يفتح ملف "ترشيد النسل" في السعودية

كيف أصبح إنجاب أكثر من طفلين "انتحاراً" بعد أن كان التوسع في الانجاب "واجباً دينياً"؟

تغيرات اقتصادية واجتماعية متسارعة في السعودية جعلت تحديد النسل يلقى اقبالاً ملفتاً. (وكالة الأنباء السعودية)

 

إلى وقت قريب يعتبر "تحديد النسل" أو حتى ترشيده من الملفات المحظور تناولها اجتماعياً في السعودية، جراء الاعتقاد بأنها من مسلمات دينية ينبغي أن لا تٌمس، إذ كيف يستقيم مع الايمان، إجهاض الولد أو قتله في الجينات "خشية إملاق"، والرزق مقسوم مهما تدنى دخل الأسرة وشحت الوظائف؟

لكن الانبعاث الذي شهدته البلاد في عهدها الجديد؛ انطلق بالأسئلة إلى نواح أخرى، بعد تحول جوانب رؤية 2030 الاجتماعية والاقتصادية إلى واقع على الأرض، فغدا البحث عن "جودة الحياة" والانفتاح الفكري، يدفعان إلى الجرأة أكثر بطرح تساؤلات من قبيل "هل أصبح تحديد النسل ضرورة وليس مجرد ترف النخبة"؟

هذا على الأقل ما أخذه باحث تربوي سعودي على عاتقه يدعى فهد الحربي، عندما أطلق من حسابه في "تويتر" فكرة، تطورت سريعاً لتصبح سجالاً وبثاً للشكوى والمعاناة ممن يعتبرون أنفسهم ضحايا العائلات الممتدة، والرافضين للفكرة برمتها باعتبارها تمس قيماً أخلاقية واجتماعية وحتى دينية، وما بين هؤلاء وأولئك، يطمح الحربي في حديثه مع "اندبندنت عربية" إلى أن تتطور الفكرة، لتصبح مبادرة تتبناها جهة مختصة، فـ"جميع خطط التنمية وأهداف جودة الحياة يمكن أن تتبخر إذا لم تؤخذ مسألة التدفق السكاني من دون وعي في الحسبان".

واجب ديني؟

وحكى أن تبنيه الموضوع كان "محاولة لتطبيع فكرة "تقنين الإنجاب" عند الناس، بعد أن كانت الغالبية تعتقد أن التوسع في الإنجاب هو واجب ديني. كل ما أحاول فعله هو إيصال فكرة أن هناك من يؤمن بتقنين الإنجاب وهم مسلمين صالحين مثل غيرهم".

ويقر الباحث بأنه لمس صدمة ورد فعل، لكنه لم يتفاجأ بها "فالرفض متوقع جداً، ويعني أن هناك عصف ذهني في عقل الفريق الرافض للفكرة، بينما في الماضي كانت الفكرة تُقابل بسخرية وازدراء، لكن الأن تغير الوضع، فهناك نظرة جدية ومحاولة تفنيد من الفريق الرافض".

 غير أن الثمرة التي ينتظرها فهد أكبر، وهي انطلاق "حملة اجتماعية بأهمية تقنين المواليد، فالمشكلة في ثقافة سائدة مولعة بالتوسع في الإنجاب، لدرجة أن الفرد الواحد لو كان غير مقتنع بها، فإن الدائرة الاجتماعية المحيطة به ستضغط عليه كثيرا ليرضخ، وهذا مؤلم جدا وتسبب بالكثير من الإرهاق المادي والنفسي، وهو من أسباب العزوف عن الزواج أحيانا".

وكانت الخطوة الأولى في السجال بدأت عندما تجرأ التربوي السعودي على تدوين القول بأن "فكرة إنجاب أكثر من طفلين إنتحار حقيقي وأن الموضوع ليس مجرد مادة ولكنه يختص بجودة القيمة التي تنوي تقديمها لهم". قبل أن يضيف إليها تدوينة ثانية وثالثة ولم يتوقف، ساخراً تارة ومقدماً معلومة حيناً وناقلاً بوح الموجوعين على الخاص حيناً آخر.  

روايات وسجالات

فهناك قصة العائلة الكبيرة، التي روى أحد أفرادها معاناتها، قائلا "نحن ما شاء الله عائلة كبيرة، 6 بنات و5 أولاد، ونعاني بشدة من الجفاف العاطفي والنفسي وعدم الاتزان، وصار 3 من إخواني لديهم اكتئاب حاد وعلاجات نفسية لا منتهية والبقية مضربين عاطفياً"، ثم تأتي رواية مختلفة تتحدث عن "13 شخصاً من أسرة واحدة، أبناء وبنات، ومع ذلك الأغلب تخصصات قوية وشهادات عليا وشخصيات قوية، وكل واحد تجده بمجال معين، وسمعتنا معروفة ومتماسكين وندعم بعضنا. هذا ليس تفاخراً لا والله، ولكنه رد على من يقول إنهم عائلة مضطربة بسبب العدد"!

لكن ضفة الشكوى سريعاً ما رجحت، بعد سيل قصص المعاناة المتكررة، خصوصاً من جانب ذوي الأسر التي تعاني فقراً أو جمع الرجل بين أكثر من امرأة. وبين النماذج حالة لإخوة ثمانية تذكر واحدة منهم أنها كانت "طفلة مهمشة حرفياً، فنحن ثمانية، ووالدي دائم الإنشغال وأمي كذلك، لم يسألني أحد قط ماذا بك؟ أحتاج شخصاً قريباً أشتكي إليه وأتحدث معه فلا أجد. لم أشعر بأني إنسانة إلا بعد ما تزوجت..إلخ"، ثم تضيف حالة أخرى "لاحظت كل المشاركات عندما يمتدحون التربية يقولون إنهم ناجحين في أفضل التخصصات، ولا يتحدثون عن الحالة الشعورية. النجاح في التربية أنك تُخرج إنساناً سوي النفس وتشبع جميع احتياجاته النفسية، ويكبر ومشاعره متوازنة، وليس مثل المتعارف عليه في مجتمعنا، من كون النجاح أن تصبح دكتوراً أو مهندساً أو ذو منصب رفيع"، وهكذا انطلقت العاصفة ولم تتوقف.

لكن المستشارة النفسية السعودية فايزة عبدالله، رفضت الربط بين أعداد أفراد الأسرة، والسعادة الاجتماعية والنفسية، واعتبرت التكوين الشخصي للأبوين العامل الأكثر تأثيراً. وذكرت في اتصال هاتفي مع "اندبندنت عربية" أن الأسر الممتدة قد تعاني أعباءً اقتصادية أكثر من غيرها، لكن من الناحية النفسية قد نجد أسراً صغيرة أقل انسجاماً من الكبيرة. بل لفتت إلى أنها لاحظت أن "بعض الأسر حين تنجب أكثر من ولدٍ تكتسب خبرة أفضل، وتدير حياتها بطريقة تغيب معها التحديات المتداولة"، وضربت على ذلك مثلاً بعددٍ من الأشخاص الذين وجدتهم يشتكون أحوالهم الاقتصادية وعدم قدرتهم على النهوض بأعباء الأسرة، في وقت ترى الأم تنفق أموالاً يمكن أن تضيف تحسينات كبيرة على العائلة في كماليات مثل "الماكياج"، أو الدخان بالنسبة إلى الأب، لتخلص من ذلك إلى أن "العبرة بالاشخاص وتفكيرهم وإدارتهم لحياتهم الزوجية والأسرية والاقتصادية، وتنظيمها وتحقيق أهداف جميع أفرادها بتقاسم الأعباء ومراعاة الأولويات، وليست العبرة بالطفلين أو ثلاثة أو أربعة".

أما الحربي الذي فتح الملف على مصراعيه، فلم يزد إلا إصراراً، فهو يعتقد أن "رفع مستوى جودة الحياة الذي ينشده الجميع هذه الأيام سيزداد صعوبة مع استمرار التوسع بالإنجاب، ذلك أن الموضوع ليس له علاقة بالوفرة المادية ابداً، وإنما علاقته بـ"الكواليتي" والقيمة التي يمكن تقديمها للأبناء مثل التعليم الجيد والرعاية الصحية والاكتفاء العاطفي، فحتى لو كنت مليارديراً فإنك لن تستطيع تقديم قيمة تربوية متكاملة لهم إذا كان عددهم كبير جداً".

العبرة بالكيف لا الكم

ولدى مناقشته بأن هناك من يرى بلاده تحتاج عدد سكان أكبر بوصفها قارة مترامية الأطراف وغنية بالموارد، يرد بأن "السعودية بحاجة للتوسع بالكيف في المواليد وليس بالكم، وجهة نظري أن فرداً واحداً يتم الاستثمار فيه جيداً يستطيع تقديم قيمة للوطن تساوي ما سيقدمه ١٠ أفراد لم يحصلوا على نفس التهيئة التي حصل عليها هذا الفرد".

غير أن الذي ربما غاب عن فهد والذين أخذتهم الحماسة لنصرة فكرته، هو أن مجموعة من العوامل في السعودية، دفعت إلى بلوغ مرام الباحث التربوي حتى قبل تدوين تغريداته، ففي آخر مسح إحصائي في المملكة المحافظة، وجدت الهيئة العامة للإحصاءات أن معدل الخصوبة بين السعوديات، انخفض إلى مستويات تتجه نحو المعدل الأوروبي في وقت وجيز، فبلغ المعدل الكلي للخصوبة سعودياً 2.4 في حين لا يزال في أعرق المدنيات الأوروبية بريطانيا 1.8، وفي عام واحد فقط انخفضت أعداد المواليد في البلاد 15ألف مولود، وهي نسبة هائلة في مجتمع كانت نسبة الخصوبة فيه إلى عهد قريب نسبياً تحوم معدلاتها حول 5 مغادرة نسبة أعلى قبل ثلاثة عقود تلامس السبعة، التي بقيت حتى اليوم فقط في النيجر ونظيراتها حسب إحصاءات البنك الدولي.

وبلغ عدد المواليد في السعودية نحو 587160 مولوداً في 2018، بمعدل 1608 مواليد يومياً، مسجلا انخفاضا بنحو 2.14 في المائة مقارنة بعام 2017 الذي بلغ عدد المواليد فيه 600 ألف مولود، حسب الزميلة "الاقتصادية".

مفاجآت تراجع النسل أخطر؟

إلا أن السعودية ليست الوحيدة في ذلك، بل هي الأفضل بين جيرانها الخليجيين في هذه الناحية، أو الأسوأ بالنسبة إلى رؤية الباحث الحربي، فمعدلات الخصوبة ظلت على مر العصور متلازمة مع رغد العيش وازدهار الحياة الاجتماعية، فتراوحت مشكلات الدول في النسل المتدفق في بلاد مثل مصر، إلى متأزمة بقلته في ألمانيا، وربما أيضاً في الامارات العربية المتحدة، التي انخفضت فيها النسبة إلى 1.4 بما قد يشكل تهديداً لتركيبتها الديموغرافية في نظر الباحثين في هذا الحقل.

وبغض النظر عن الوجهة الدينية التي تجرّم تحديد النسل، وتُسامح نوعاً ما في تنظيمه، فإن مخاوف الاستراتيجيين من شح النسل لا تقل عن خشيتهم من تدفقه، فهذا البروفسور السعودي رشود الخريف، ينظر إلى نتائج المسح التي أعلنت الانخفاض الحاد في الخصوبة، على أنها "تنذر بمشكلات وتحديات من نوع جديد".

وقال في ذلك الحين "حملت نتائج المسح الديموغرافي في عام 2016 مفاجآت كثيرة وكبيرة حول التغير السكاني في المملكة، لعل من أبرزها الانخفاض الكبير في معدلات الإنجاب (بالتحديد معدل الخصوبة الكلي). وليس جديدا، الانخفاض التدريجي لمعدلات الإنجاب على مدى العقود الماضية في المملكة وفي جميع الدول العربية، بما فيها اليمن التي تعيش مستويات معيشية وتعليمية متدنية، وتتميز بمعدلات خصوبة مرتفعة، نتيجة الزواج المبكر وانخفاض تعليم المرأة إلى جانب طبيعة القيم الريفية السائدة في اليمن التي تشجع على الإنجاب".

من 7 أطفال إلى 2.4 لماذا؟

وعلق على جزئية أن السعودية شهدت انخفاضا سريعا ليس إيجابياً في الوفيات فقط التي انخفضت إلى مستويات متدنية جداً، ولكن لحقت بها معدلات الخصوبة التي انخفضت من نحو سبعة أطفال في المتوسط للمرأة في منتصف الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم إلى 2.4 في عام 2016، وذلك بناء على المسح الديموغرافي الأخير الذي أجرته الهيئة العامة للإحصاء.  أما هو فتساءل "ماذا يعني هذا الرقم الصغير"؟

وأجاب "ببساطة شديدة، هو متوسط عدد المواليد الذين تنجبهم المرأة خلال سنوات إنجابها، كما هو متوقع بناء على معدلات الخصوبة العمرية الخاصة. وتجدر الإشارة إلى أن الاتجاه العام للخصوبة في العالم ومعظم الدول هو الانخفاض التدريجي. فعلى سبيل المثال، انخفضت الخصوبة على مستوى العالم من أربعة مواليد للمرأة في عام 1985 إلى 2.5 في عام 2015، وفي إيران انخفضت من قرابة ستة مواليد في عام 1985 إلى أقل من مولودين للمرأة (بالتحديد 1.8) في عام 2015، وبقي معدل الخصوبة الكلي في ألمانيا دون مستوى الإحلال طوال الفترة (1985 – 2015) دون تغيير يذكر على الرغم من بعض الجهود لرفع مستواه". السؤال المطروح، هل سيستمر معدل الخصوبة الكلي في المملكة في الانخفاض إلى أن يلامس مستوى الإحلال أم أنه سيكسر هذا المستوى، كما حدث في كوريا الجنوبية وإيران وكثير من الدول المتقدمة؟!

الإجابة عند الخريف هي "ربما، ولكن لا نعلم متى بالضبط، وهل سيستغرق ذلك وقتا طويلا؟ بناء على توقعات الأمم المتحدة، فإن الخصوبة في المملكة ستأخذ اتجاها متواصلا نحو الانخفاض التدريجي لتلامس مستوى الإحلال بحلول عام 2030 تقريبا، ولكن بناء على نتائج المسح الديموغرافي الذي أجرته الهيئة العامة للإحصاء في عام 2016، فإن معدل الخصوبة في المملكة – ربما- يلامس مستوى الإحلال قبل ذلك التاريخ".

المخاوف الأوروبية تتوعد السعودية؟

ولفت في المقالة التي نشرها في الزميلة "الاقتصادية" الصادرة عن المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، إلى أن ما يحدث في المملكة يذكره بما حدث في أوروبا إبان الثورة الصناعية، فقد حدث التحول الديموغرافي، نتيجة التغيرات التنموية، وليس بتأثير برامج تنظيم الأسرة آنذاك. وما أشبه اليوم بالبارحة، فما يحدث في المملكة من تحول يأتي بتأثير العوامل التنموية. فلم تصل إلى معدلات الخصوبة في المملكة إلى مستوياتها الحالية، إلا بتأثير بعض العوامل، مثل: تأخر سن الزواج من 20 سنة أو دون ذلك قبل ثلاثة عقود تقريبا إلى 26 سنة للرجال، و22 سنة للنساء في عام 2016، والتحاق الشباب من الجنسين بالتعليم العام والعالي أدى أن تأخير الزواج، وتقبل مفهوم الأسرة النووية الصغيرة. وبدلاً من أن يتفاءل البروفسور السعودي بمضي بلاده على خطى أوروبا على هذا النحو، حذر من هكذا تحول ودعا العرب والسعودية إلى محاولة عرقلته والتعلم من "تجارب الدول التي شهدت انخفاضا في معدلات الخصوبة دون مستوى الإحلال، مثل: اليابان ومعظم الدول الأوروبية، لتحديد الآثار المتوقعة من استمرار انخفاض معدلات الإنجاب من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، وقبل ذلك محاولة إحداث تباطؤ في درجة انخفاض معدلات الخصوبة في المملكة بما يشابه ما يحدث في مصر التي لم تنخفض فيها الخصوبة بمعدلات متسارعة على الرغم من وجود برامج تنظيم الأسرة".

وفي الوقت الراهن يمثل من يدخلون تحت دائرة الطفولة أي دون الـ19 نحو 40 في المائة من السعوديين، وهذه الفئة والتي تليها، بين ما يتفاءل به الكثيرون أمثال  ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي استند في برامج   رؤى التحول إلى أن الشباب في بلاده يمثلون الشريحة الأكبر، وهي ميزة تنافسية بالنسبة إلى الهيئة العامة للاستثمار، وبين المؤشرات في أطروحاتها التي تتوج بها دعوتها المستثمرين الأجانب، الذين يبحثون ضمن ما يبحثون عنه، عن بيئة غنية بقوى عاملة يمكن الاستثمار معها وفيها على المدى البعيد.

وتؤكد السعودية رسمياً أن الشباب يمثلون 67% من مجتمعها، لذلك تعتمد برامج من شأنها أن تحقق المساواة بين الجنسين وتسهم في تحقيق تطلعاتهم.

 

المزيد من تحقيقات ومطولات