Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مانيه رسم كليمنصو في لوحتين لم تروقا لنمر السياسة الفرنسية

لم يعجبه البورتريه فأرسله إلى متحف اللوفر ونسيه حتى عام رحيله

بورتريه كليمنصو في المتحف التكساسي (موقع متحف كمبل)

تقول الحكاية، والحكايات تعرف عادة ما تقول وتعنيه حتى وإن نُقلت في معظم الأحيان بصورة قد لا تكون دقيقة، إن السياسي الفرنسي جورج كليمنصو الذي كان يلقب بنمر السياسة الفرنسية، منذ بدايات خوضه عالم السياسة في صفوف اليسار الراديكالي وحتى من قبل أن يصل إلى منصب رئيس الحكومة، فيعتبر من أعظم الرؤساء الفرنسيين في العهود الجمهورية لا ينافسه في ذلك الموقع سوى اثنين جاءا من بعده هما شارل ديغول وفرانسوا ميتران، إذاً تقول الحكاية إنه حين جيء إليه بثاني بورتريه رسمه له صديقه الفنان إدوار مانيه خلال سنوات قليلة، نظر إلى اللوحة وتمتم بشيء من التوجس "لا أحب هذه اللوحة. يمكنكم وضعها في اللوفر". ونعرف طبعاً أن جدلية التعبيرات التي أُثرت عن كليمنصو منعت مانيه من أن يستشعر أي سوء أو إهانة في تعليق ذلك الصديق الذي كثيراً ما سانده ودافع عنه منذ بداية لقائهما، فهو اعتبر هذا الكلام مدحاً لا انتقاداً ومن الواضح أنه لم يكن مخطئاً.

تجاهل أم نسيان؟

مهما يكن من أمر كان من شأن هذا التعليق أن يزعجه لو أن كليمنصو قاله حين تأمل في بورتريه آخر كان مانيه قد رسمه له في الوقت نفسه تقريباً، أي بين العامين 1879-1880 وكان من حقه أن يقوله، أما بالنسبة إلى البورتريه الذي نتحدث عنه هنا والذي انتهى مصيره أن يعلق في اللوفر بالفعل، لينتقل بعد ذلك إلى متحف الأورساي حيث يعتبر اليوم من تحفه، فلا شك أن كليمنصو كان يمزح، بل بالأحرى كان يعني بجدليته الخطابية التي اشتهر بها، أن ذلك البورتريه المميز يستحق أن يعلق في مكان غير بيته أو مكتبه. في أعظم مكان يمكن أن تعلق فيه لوحة معاصرة. ومع ذلك لا بد أن نعود إلى الحكاية نفسها لنذكر كم أنها تتناقض على أية حال مع حكاية أخرى تتعلق باللوحة المذكورة. وتقول هذه إن كليمنصو فيما كان يقوم بزيارة إلى متحف اللوفر في عام 1929 أي قبل وفاته بشهور، استوقفته اللوحة نفسها فالتفت إلى مرافقيه مبدياً دهشته من وجود هذا البورتريه له في اللوفر متسائلاً عن السبب في ذلك، مذكراً بأنه يفضل عادة أعمال كلود مونيه على أعمال مانيه، مضيفاً "لكني لا أعرف هذه اللوحة مع أنها الأجمل!". وطبعاً لم يترك كليمنصو وقتاً للمرافقين كي يذكروه بأنه كان هو نفسه، وفي الأقل، قد أمر في عام 1907 بنقل لوحة "أوليمبيا" لمانيه نفسه إلى اللوفر بعدما كان عرضها الأول شكل فضيحة أقامت الدنيا ولم تقعدها في عام 1863!!

صداقة السياسي والفنان

حكايتان متناقضتان ربما لا تكون أي منهما صحيحة وربما تكونان معاً حقيقيتين، لكنهما تشيران معاً إلى تلك الصداقة التي ربطت بين الفنان والسياسي، وإلى ذلك الشعور بالامتنان الذي رافق مانيه طوال حياته تجاه الحماية التي وفرها له كليمنصو، وكان البورتريهان تعبيراً عن ذلك الامتنان علماً بأن مانيه رسمهما والسياسي الشاب جالس كموديل في محترفه، حتى طالت أيام التنفيذ فتخلى كليمنصو عن الجلوس في المحترف، ما أرغم الرسام على اللجوء إلى صور فوتوغرافية ساعدته على استكمال عمله على اللوحتين في وقت واحد تقريباً. والمدهش أن النتيجة جعلت لكل لوحة شخصيتها الخاصة وكأنهما تنتميان إلى زمنين متباعدين، تباعدهما الجغرافي في زمنهما هذا، إذ إن الأجمل بين اللوحتين ظلت تشغل مكانها في اللوفر حتى افتتاح الأورساي ونقلها إليه، في إطار نقل فنون القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الفرنسية إلى هذا المتحف المستحدث الذي بات من معالم باريس المهمة اليوم، فيما الثانية دارت في عدة أماكن حول العالم لتصل حيث هي اليوم، إلى متحف "كمبل آرت ميوزيوم" في فورت وورث، تكساس، حيث تعتبر من مقتنياته المهمة. ولعل المهم في الحكاية كلها تفرد مانيه بين الانطباعيين الفرنسيين من جيله بتكريس لوحتين لسياسي، بينما نعرف أن البورتريهات التي رسمها مبدعو هذا التيار كانت لبعضهم بعضاً ولمبدعين آخرين، وربما لزوجاتهم وأبنائهم وأحياناً لمقتني لوحاتهم محليين كانوا أو أجانب خصوصاً روسا، لكنهم نادراً ما رسموا سياسيين. وقد يكون أكثر لفتاً للنظر في بورتريهي كليمنصو أنهما صوراه وهو في عز ممارسة عمله السياسي.

بعيداً من الرغبات السياسية

ولكن، وكما أشرنا، من المؤكد تاريخياً أن مانيه لم يرسم كليمنصو لأنه سياسي، وبالتالي لم يتعامل معه تعامل كبار المبدعين منذ ساحق الأزمنة مع الحكام أو رجال السياسة لنيل رضاهم، أو حتى كما كانت الحال مثلاً مع أفلاطون وابن خلدون وابن رشد وغيرهم من مبدعين كانوا يتطلعون إلى ممارسة نفوذ سياسي ما على بلاط معين أو للقيام بدور سياسي، ولا حتى كنوع من تعامل يشبه تعامل الموسيقي هايدن مع الأمير إسترهازي أو تعامل فاغنر مع لودفيغ ملك بافاريا، بحيث يحظى الواحد منهما برعاية من صاحب النفوذ والمال. مانيه رسم كليمنصو كصديق وكمحب للفنون والثقافة، كان حين رسمه لا يملك سلطة حقيقية أو مالاً. وفي مقدورنا أن ننظر إلى هذا الأمر اليوم بوصفه نقطة في صالح كليمنصو نفسه. وهو الذي تعرّف يوماً على مانيه من خلال أصدقاء مشتركين من بينهم إميل زولا وبول موريس، ولكن بخاصة غوستاف مانيه شقيق إدوار الأصغر، الذي كان عضواً مثل كليمنصو في مجلس بلدية باريس بل حل مكانه في رئاسة المجلس، وكان ذلك حين اندلعت فضيحة لوحة "أولمبيا"، فسارع السياسي الراديكالي الذي كان معروفاً بحبه للفن وحدبه على المبدعين إلى التدخل لصالح مانيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رسم الذات من خلال الموديل

وهكذا نشأت تلك الصداقة التي وصلت إلى ذروتها عند بدايات سبعينيات القرن التاسع عشر حين أدى احتراق المبنى المخصص لبلدية باريس إلى انتقال المجلس إلى قصر اللوكسمبورغ، وهناك راح الرسام يراقب أداء كليمنصو وأسلوبه القوي والصلب في إلقائه خطبه العنيفة والمشاكسة. لئن كانت اللوحة التي يفترض أنها رسمت أولاً -أي تلك المعلقة اليوم في المتحف التكساسي- قد عبرت عن ذلك إلى حد ما من خلال وقفة كليمنصو وصلابة تلك الوقفة، فإن مانيه تمكن من التعبير أكثر عن مكانة صديقه السياسي بل ربما أكثر من ذلك عن المسار السياسي والنضالي الذي سيكون مساره، في اللوحة الثانية (لوحة "اللوفر"( ومن خلال ذلك عما يكاد يشبه شخصيته هو نفسه ما سيجعل أندريه مالرو يعلق على ذلك البورتريه لاحقاً بقوله "كان من الضروري لمانيه كي يتمكن من رسم بورتريه كليمنصو أن يجرؤ على أن يجعل من ذاته كل شيء في اللوحة، منكراً على كليمنصو أن يكون أي شيء فيها". فهل علينا أن نفترض هنا أن كليمنصو بذكائه الشديد وإحساسه القوي فهم هذا قبل أن يفهمه مالرو بسنوات عديدة، وأدرك أن مانيه، مثل كل مبدع صادق وحقيقي، إنما رسم ذاته من خلال ملامح السياسي، فاكتفى هذا بإبداء ذلك الموقف ليس المستهجن للبورتريه بل الزاعم أنه لا يتذكره من خلال إنكاره أنه يتذكر هذه اللوحة؟

وبقيت الصداقة

لسنا ندري طبعاً لكن هذه الفرضية تبدو منطقية حتى ولو أجمع النقاد والمؤرخون على أن ذلك البورتريه يمكن اعتباره واحداً من أجمل البورتريهات التي رسمها فنان كبير لسياسي يضاهيه مكانة، في الفترة الفاصلة بين القرن 19 والقرن العشرين في الأقل. ومهما يكن من أمر يمكننا ضمن منطق إبداعي ما أن نختم هذا الكلام هنا بالإشارة إلى أن الصداقة بين الرجلين بقيت مثالية، حتى وإن كان كليمنصو سيستنكف لاحقاً عن حسبان مانيه بين رساميه المفضلين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة