Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف غير ترمب الهند

هل يعيد التنمر الأميركي تشكيل السياسة الخارجية الهندية؟

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال لقائهما في واشنطن، في فبراير 2025 (كيفن لامارك/ رويترز)

ملخص

السياسة الهندية تتجه نحو توسيع شبكة شراكاتها عبر نهج "تعدد الاصطفافات" بعد أن أصبحت العلاقة مع الولايات المتحدة أقل استقراراً في عهد ترمب، فيما تسعى نيودلهي إلى موازنة ضغوط واشنطن وتحديات الصين مع الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي. وتبرز أوروبا كمساحة النمو الأهم للهند، مع ازدياد التعاون في التجارة والتكنولوجيا والدفاع، وسط تحولات دولية تدفع نيودلهي لإعادة صياغة علاقاتها الكبرى.

على مدار العقد الماضي، شهدت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة تقارباً متزايداً نتيجة اعتماد نيودلهي نهج الانحياز الحذر مع واشنطن، مع الحفاظ خلال الوقت ذاته على تجنب الانخراط في تحالفات رسمية ملزمة. وأثمر هذا النهج بالفعل، بحيث مكن الهند من جذب استثمارات أميركية كبيرة، وتوسيع أطر التعاون الدفاعي معها، وتعزيز التبادل التكنولوجي، إلى جانب ترسيخ شعور راسخ بأن الصداقة بين أكبر ديمقراطيتين في العالم ستستمر في التطور والنمو. ومع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض هذا العام، لم يبد صانعو القرار في نيودلهي قلقاً يذكر. فقد افترضوا أن واشنطن تدرك أهمية هذه الشراكة الاستراتيجية، وأن العلاقات الثنائية ستزداد قوة ومتانة، خصوصاً في ضوء الانسجام الواضح والتفاهم الشخصي بين ترمب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي.

لكن الهند تجد نفسها اليوم مضطرة لإعادة تقييم رهانها على الولايات المتحدة. فمنذ الصيف الماضي، حاد ترمب عن نهج الإدارات الأميركية السابقة، وسعى إلى ممارسة الضغط على الهند. فقد رفع خلال أغسطس (آب) الماضي الرسوم الجمركية على الواردات الهندية إلى 50 في المئة، في خطوة عقابية على مواصلتها شراء النفط الروسي. وأبرم ترمب سلسلة اتفاقات مع باكستان، جارة الهند ومنافستها التقليدية، مما أثار استياء المسؤولين في نيودلهي. وفي ما بدا رداً على هذه الخطوات، شارك رئيس الوزراء مودي في قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" التي عقدت داخل مدينة تيانجين الصينية خلال سبتمبر (أيلول) 2025، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جينبينغ، وأعطى حضوره انطباعاً بأن الهند تميل نحو الاصطفاف مع خصوم الولايات المتحدة. ومن المقرر أن يزور بوتين نيودلهي هذا الأسبوع، في زيارة قد تعزز الانطباع نفسه.

إلا أن هذا النوع من الإشارات لا يعني - كما يرى بعض المراقبين - أن الهند في طور التخلي عن استراتيجيتها الخارجية التي انتهجتها خلال الأعوام الأخيرة لمصلحة نهج جديد كلياً. بل على العكس، يبدو أن نيودلهي تسلك مسار ما بات يعرف في الأوساط الدبلوماسية الهندية بـ"تعدد الاصطفافات" Multialignment، وهو نهج يقوم على تعزيز العلاقات مع دول عدة خلال الوقت نفسه، حتى وإن كانت مصالح بعض تلك الدول متعارضة.

لكن على رغم التوتر الذي شهدته العلاقات بين الهند والولايات المتحدة هذا العام، تظل واشنطن الشريك الأهم بالنسبة إلى نيودلهي، وإن أصبح هذا الشريك أكثر تقلباً وأحياناً أكثر إرباكاً. خلال الوقت نفسه، ستواصل الهند تعزيز شبكة علاقاتها مع القوى المتوسطة ذات القدرات الاقتصادية والتكنولوجية المتقدمة، مثل أستراليا واليابان وسنغافورة ودول الخليج. لكن الساحة التي قد تحقق فيها السياسة الخارجية الهندية أكبر المكاسب تظل أوروبا. فعلى رغم أنها لا تشكل بديلاً كاملاً للولايات المتحدة، فإنها تبرز كشريك يمكن الوثوق فيه، ويتمتع بقدرات تكنولوجية متقدمة ويتقاسم مع الهند المخاوف نفسها حيال ممارسات الإكراه الصيني، ويتبنى سياسة خارجية أكثر ثباتاً واستقراراً من تلك السائدة حالياً في واشنطن. ومن خلال اعتماد صيغة متجددة من تعدد الاصطفافات، يمكن لنيودلهي أن تتعامل بمرونة وحنكة مع تقلبات السلوك الأميركي والسلوك الصيني العدائي، خلال وقت تحافظ فيه على هامش الاستقلال الاستراتيجي الذي كثيراً ما شكل حجر الزاوية في عقيدة سياستها الخارجية.

كيف تدار سياسة تعدد الاصطفافات

جاءت أبلغ ردود الهند على الضغوط الأميركية خلال الصيف الماضي، عندما قام رئيس وزرائها ناريندرا مودي بزيارة للصين. فقد حملت الصور التي جمعته مع كل من شي جينبينغ وفلاديمير بوتين رسائل واضحة، أبرزها الرغبة في إعادة ضبط العلاقة مع العاصمة الصينية خصوصاً. ورأى بعض المراقبين الغربيين في قرار مودي خلال أغسطس الماضي دعوة بوتين إلى نيودلهي خلال ديسمبر (كانون الأول) الجاري، مؤشراً إلى انعطافة هندية أوسع نحو خصوم الولايات المتحدة.

إلا أن هذا التفسير لا يعبر بدقة عن النية الحقيقية لنيودلهي. فمع تدهور العلاقات الهندية الأميركية، تسعى الهند بدلاً من ذلك إلى التغلب على الأزمة بحذر، وليس التخلي عن حساباتها الاستراتيجية الأساس التي دفعتها في المقام الأول إلى التقارب مع الولايات المتحدة. فقد جرى في الواقع التخطيط لزيارة مودي للصين قبل أشهر، ولم تكن بمثابة رد فعل على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترمب، بل محاولة لترميم علاقة متضررة للغاية مع بكين، بعد عام من الهدوء النسبي على الحدود المتنازع عليها بين البلدين. ما سعت إليه نيودلهي كان إعادة بناء الروابط المتضررة بحذر، لا فتح صفحة جديدة من الاصطفاف مع بكين، إذ رفض مودي بصورة لافتة حضور العرض العسكري الذي دعا إليه الرئيس الصيني الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.

وبوجه عام، لا يختلف جوهر السياسة الهندية تجاه الصين كثيراً عما تعتمده دول أخرى منذ عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فهي تقوم على إدارة الخلافات وتجنب الأزمات مع بكين، مع السعي خلال الوقت نفسه إلى الحفاظ على علاقات مستقرة مع واشنطن. كذلك، ينبغي عدم المبالغة في تفسير دلالة زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنيودلهي هذا الأسبوع. فموسكو لا تزال شريكاً ذا أهمية للهند التي تعتمد إلى حد كبير على الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع لفترة زمنية إضافية. وأيضاً نيودلهي ليست في عجلة من أمرها لتقليص علاقاتها مع روسيا، خصوصاً في ظل قلقها من التقارب المتزايد بين موسكو وبكين. ومع ذلك، فإن حدود هذه الشراكة واضحة المعالم. فشراء الهند غواصات ألمانية خلال أغسطس الماضي، يعكس استراتيجية نيودلهي الرامية إلى تنويع مصادر التسليح. وعلى امتداد الأعوام الـ15 الماضية، شهدت السياسة الدفاعية الهندية انخفاضاً تدريجياً في الاعتماد على المعدات العسكرية الروسية.

وعلى رغم العلاقات التاريخية الطويلة التي تجمع بين نيودلهي وموسكو، فإن روسيا لا تقدم للهند كثيراً في مجالي رؤوس الأموال الاستثمارية أو التكنولوجيا المتقدمة، وهما عنصران أساسيان لتحقيق الطموحات التنموية طويلة المدى للهند. لذا، يدرك القادة في نيودلهي أن مساحة نمو هذه الشراكة محدودة، وأن مستقبلها الاستراتيجي الحقيقي هو في مكان آخر.

من وجهة نظر نيودلهي، سيظل هذا المستقبل قائماً على تعدد الاصطفافات، وهو توجه يعكس فهماً واقعياً للبيئة الاستراتيجية الهندية. فالصين تبقى التحدي الأكبر، وروسيا (كشريك للهند) أصبحت ورقة قوة متناقصة الأهمية، فيما تحتاج الهند لاستثمارات اقتصادية وتكنولوجيا متقدمة لتسريع وتيرة نموها، ولقدرات عسكرية أقوى لحماية نفسها داخل محيط إقليمي معقد. وانطلاقاً من هذه المعطيات نشأ ميلها نحو الولايات المتحدة خلال القرن الـ21، وكذلك تعميق شراكاتها مع كل من أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، ومع عدد من دول الشرق الأوسط وأوروبا.

من هنا، فإن حملة الضغوط الأخيرة التي يمارسها الرئيس الأميركي على العاصمة الهندية لا تغير هذه الحقائق الأساس. ومعضلة نيودلهي اليوم تشبه إلى حد كبير معضلة كثير من شركاء الولايات المتحدة وحلفائها في عهد دونالد ترمب - أي كيف تُعوِّض ما أصبحت الولايات المتحدة أقل استعداداً لتقديمه؟ يتعين على الهند من جهة أن تبحث عن مصادر بديلة للتكنولوجيا والتعاون الدفاعي والشراكات الاقتصادية، ومن جهة ثانية أن تستمر في إدارة علاقاتها المعقدة مع كل من بكين وموسكو.

ستنظر الهند إلى الولايات المتحدة بحذر بعد الاضطرابات التي شهدها هذا العام

 

يُفترض أن يكون مسار علاقات الهند مع الصين وروسيا واضحاً. بالطبع يمكن أن يحدث بعض الانفراج في العلاقات بين نيودلهي وبكين، لكنه سيكون محدوداً للغاية بسبب واقع التنافس الإقليمي القائم بين البلدين. على سبيل المثال، قد تفكر نيودلهي في تخفيف بعض القيود على دخول المنتجات والخدمات الصينية إلى سوقها المحلي، التي كانت فرضتها بعد الاشتباكات الحدودية خلال عام 2020، أو رفع الحظر عن تطبيق التواصل الاجتماعي الصيني "تيك توك" كمبادرة حسن نية.

مع ذلك، تبقى الأخطار التي تشكلها الصين على الهند حقيقية للغاية، بما في ذلك النزاع الحدودي الذي لم يحل بعد، واستغلال الصين لسلاسل التوريد التي تسيطر عليها إلى حد كبير. وستسعى الهند إلى الحفاظ على علاقة مستقرة مع بكين، من دون أية أوهام بإقامة شراكة عميقة معها. خلال الوقت نفسه، ترغب الهند في الحفاظ على علاقات متينة مع روسيا، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى ضمان استمرار حصولها على قطع غيار للمعدات العسكرية الروسية التي يستخدمها الجيش الهندي، ولمنع روسيا من أن تصبح معزولة إلى درجة أن تصبح دولة تدور في الفلك الصيني.

إدارة العلاقة مع واشنطن مسألة أكثر تعقيداً. فحتى في ظل الاضطرابات الراهنة بين الجانبين، من المرجح أن تظل الولايات المتحدة الشريك الأهم للهند في مجالات التكنولوجيا والاستثمار. ويواصل البلدان التعاون في مجالات حيوية، فعلى سبيل المثال يعمل "المكتب الأميركي للتكنولوجيات الحيوية والناشئة" U.S. Office of Critical and Emerging Technologies - الذي أنشئ أخيراً - مع نظرائه في الهند على تبسيط شراكات البنية التحتية لـ"الذكاء الاصطناعي".

في المقابل، تهتم مؤسسات "وادي السيليكون" بصورة كبيرة بالهند، إذ قدمت واشنطن لنيودلهي قائمة مطولة من القضايا التنظيمية لحلها بما يسهل على الشركات الأميركية الاستثمار داخل مراكز البيانات في الهند. وزار الرئيس التنفيذي لشركة "أنثروبيك" داريو أمودي كلاً من نيودلهي وبنغالور خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على أمل افتتاح مكتب للشركة في الهند. وستشارك مجمل الشركات الكبرى للتكنولوجيا الأميركية خلال فبراير (شباط) المقبل في قمة رئيسة لـ"الذكاء الاصطناعي" تعقد في الهند، يستضيفها رئيس الوزراء مودي.

الأمر نفسه ينسحب على شركات الأدوية الهندية التي تتطلع إلى الاستثمار داخل الولايات المتحدة على رغم التهديد الذي تمثله زيادة الرسوم الجمركية، وذلك في محاولة لتقليل اعتمادها على الموردين الصينيين. وبدأت شركات هندية أيضاً تقليص وارداتها النفطية من روسيا، بعد فرض عقوبات أميركية على شركتين روسيتين كبيرتين نهاية أكتوبر الماضي.

يشار إلى أن الرئيس الأميركي - في خضم هذه التوترات - هنأ رئيس وزراء الهند بذكرى عيد ميلاده خلال سبتمبر الماضي، ولا يزال ترمب يصفه بـ"الرجل العظيم" و"الصلب للغاية". ومن المتوقع أن يُستكمل الجزء الأول من اتفاق التجارة بين الهند والولايات المتحدة، الذي جرى التفاوض عليه بين الجانبين على مدى أشهر، بحلول نهاية هذا العام أو مطلع العام المقبل.

مع ذلك، ستتعامل الهند مع الولايات المتحدة بحذر بعد الاضطرابات التي شهدتها هذا العام. فقد أصبحت نيودلهي تتساءل - ولديها ما يبرر ذلك - عن مدى موثوقية الولايات المتحدة. ويثير قلقها التقارب المتنامي بين إدارة الرئيس ترمب وباكستان، التي باتت واشنطن تنظر إليها كشريك مفيد على نحو متزايد، إذ يمكن لإسلام آباد على سبيل المثال أن تبعث بقوات حفظ سلام إلى قطاع غزة، أو أن تساعد في تسهيل اتفاقات المعادن الحيوية في آسيا الوسطى. وعبر ترمب مراراً عن إعجابه بالقادة المدنيين والعسكريين الباكستانيين، واستقبلهم في البيت الأبيض ضمن مناسبات عدة هذا العام. وهذه الخطوات لا يسهم أي منها في تعزيز العلاقات بين الهند والولايات المتحدة.

نداء أوروبا

انطلاقاً من هذه الخلفية، يصبح التحول نحو أوروبا خياراً منطقياً ومبرراً بالنسبة إلى نيودلهي. فعلى مدى عقود، لم تبلغ العلاقات بين الهند وأوروبا مستوى الإمكانات التي كانت متاحة لها، خصوصاً عند مقارنتها بالتقدم المتسارع الذي حققته الهند لجهة توثيق شراكتها مع الولايات المتحدة. وتعد أوروبا من أكبر الشركاء التجاريين لنيودلهي، في حين يشكل الحجم الضخم للاقتصاد الهندي واتساع قاعدة مستهلكيه، عامل جذب أساس لدول القارة.

هذا الواقع دفع "مجلس الاتحاد الأوروبي" إلى اعتماد "أجندة استراتيجية جديدة بين الاتحاد والهند" خلال أكتوبر الماضي، تركز على تعزيز الشراكات في مجالي التكنولوجيا والاستثمار بين الطرفين. ولا تزال كل من الهند والاتحاد الأوروبي على التزامهما العمل في موضوع تغير المناخ، حتى مع وجود خلافات بينهما على مستويات خفض الانبعاثات. وعلى رغم أن الهند حافظت على علاقات متينة مع دول مثل فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، فإن تواصلها مع دول أوروبية مؤثرة أخرى - على غرار ألمانيا - ومع مؤسسات الاتحاد الأوروبي عموماً، ظل محدوداً نسبياً حتى فترة قريبة.

لكن هذا الوضع بدأ يتغير بالفعل. فقد أسفرت الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها رئيس الوزراء ناريندرا مودي ووزير الشؤون الخارجية سوبرامانيام جايشانكار، لأوروبا، عن إنشاء "مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والهند" EU-India Trade and Technology Council، وهو إطار مؤسسي يهدف إلى توثيق الروابط بين الجانبين. وقامت رئيسة "المفوضية الأوروبية" أورسولا فون دير لاين بزيارة للعاصمة الهندية هذا العام، برفقة وفد كامل من المفوضين الأوروبيين، في خطوة غير معتادة تعكس الرغبة في تعزيز التعاون ضمن مجموعة واسعة من القطاعات.

يذكر أن الموقف الذي اتخذته الهند من الحرب في أوكرانيا - برفضها إدانة روسيا ومواصلة شراء النفط الروسي - كلف نيودلهي خسارة عدد من أصدقائها داخل أوروبا. غير أن "الصحوة الاستراتيجية" التي شهدتها دول أوروبا منذ عام 2022، وتعزيز قدراتها العسكرية بصورة كبيرة من خلال زيادة إنفاقها الدفاعي عقب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، جعلا منها شريكاً أكثر صدقية في نظر الهند، وأصبحت أوروبا اليوم تمتلك مقومات تجعلها شريكاً أمنياً أكثر صدقية أيضاً، سواء من خلال مبيعات الأسلحة أو عبر التعاون في المجالات الناشئة مثل الفضاء والأمن السيبراني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، يشعر المسؤولون في الهند وأوروبا بالقلق من الصين. فبالنسبة إلى الجانب الأوروبي، تعد الممارسات التجارية الصينية بدءاً من الدعم الحكومي الضخم للشركات والنقل القسري للتكنولوجيا والإفراط في الإنتاج، بمثابة تهديدات وجودية لقاعدته الصناعية. أما مخاوف الهند فلا تقتصر على النزاعات الحدودية غير المحسومة والمنافسة الاستراتيجية داخل منطقة جنوب آسيا، بل تمتد أيضاً إلى اعتمادها الاقتصادي الخطر على الصين في مجالات التصنيع والمعادن النادرة والتكنولوجيا الخضراء وغيرها من القطاعات، وهي بدورها ملفات تثير قلقاً واسعاً في بروكسل. ويبرز التعاون في التكنولوجيا - ولا سيما في مجال "الذكاء الاصطناعي" - كإحدى الفرص الرئيسة أمام الجانبين.

ضمن هذا الإطار، يمكن لأوروبا أن تقدم خبراتها في مجالات متخصصة وحيوية أخرى. فالهند وأوروبا بإمكانهما التعاون بصورة مثمرة في مجالي الطاقة المتجددة والحوسبة الكمومية، وهما مجالان لا تتعاون فيهما الولايات المتحدة والهند. وتخطط المختبرات الأوروبية ومراكز الحضانة الهندية لإنشاء "ممر للتكنولوجيا الحيوية" من شأنه تسهيل الاستثمار المشترك والتصنيع.

ويقدم "مجلس التجارة والتكنولوجيا" على رغم انطلاقته البطيئة إطاراً مؤسسياً لدفع التعاون قدماً. بالطبع، لا تزال هناك عقبات كبيرة. فخلال سبتمبر الماضي، طرح الاتحاد الأوروبي أجندة جديدة لتعزيز العلاقات الثنائية مع الهند، تضمنت توسيع التعاون في مجالي الدفاع والتكنولوجيا. وكاد إطلاق هذه الأجندة يتعثر عقب مشاركة الهند في مناورات عسكرية مشتركة أجرتها مع روسيا وبيلاروس، مما يذكر بالحساسيات الأوروبية المستمرة في شأن أوكرانيا.

مع ذلك، من المتوقع أن يصار إلى إتمام اتفاق تجاري جديدة طال انتظاره، وذلك قبل القمة المرتقبة داخل العاصمة الهندية خلال يناير (كانون الثاني) 2026، إلى جانب اتفاقات جديدة في مجالات التعاون الأمني والهجرة والطاقة - وصممت هذه الأخيرة لإغراء الهند بوقف الاعتماد على النفط والغاز الروسيين. وتهدف المناقشات إلى ترسيخ قاعدة اقتصادية لشراكة استراتيجية أوسع. ومن المرجح أن يضطر كل من مودي وفون دير لاين للتدخل شخصياً بهدف تسهيل تجاوز العقبات التي قد تعوق إتمام هذه الصفقات.

المفارقة الكبرى

تواجه كل من أوروبا والهند تحديات متشابهة قد تشكل دافعاً قوياً لتعزيز التعاون بينهما. فأي من الجانبين ليس في موقع يمكنه من الاعتماد على الولايات المتحدة كما كانت الحال عليه في السابق، فيما يسعى كل منهما إلى إقامة شراكات جديدة، تضمن حماية مصالحه من التقلبات الأميركية المفاجئة. حتى قبل ستة أشهر فحسب، كان يبدو أنه مقدر للهند أن تعمق تحالفاتها بصورة أوثق مع الولايات المتحدة جزئياً، لدرء أي عدوان صيني محتمل في المستقبل. غير أن حملة الضغوط التي يشنها الرئيس الأميركي تدفع الآن بنيودلهي إلى تبني سياسة تعدد الاصطفافات مجدداً، ليس بدافع أيديولوجي بل كخيار عملي وضروري يفرضه الواقع السياسي. والمفارقة الكبرى تكمن في أن هذا النهج يفضي تماماً إلى النتيجة التي كان يسعى دونالد ترمب إلى تجنبها: هند أكثر تنوعاً في تحالفاتها، وأكثر انخراطاً في شراكات متعددة، وأقل عرضة للرضوخ للضغوط الأميركية القاسية.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025

جيمس كرابتري هو زميل زائر في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"

رودرا تشوداري هو مدير "مركز كارنيغي الهند"

اقرأ المزيد

المزيد من آراء