Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رجب طيب أردوغان... العثماني الأخير

 بدأ صعوده منذ أكثر من عقدين: رئيس وزراء منذ 2003 ثم رئيس للجمهورية منذ 2014 بعد تعديل دستوري منحه سلطات شبه مطلقة

ينفي أردوغان مراراً أن يكون هدفه "أسلمة" المجتمع (اندبندنت عربية)

ملخص

قدّم رجب طيب أردوغان نفسه باعتباره مهندس مرحلة سياسية واقتصادية جديدة في تركيا، إلا أن تصريحاً مبكراً له يظل الأكثر تعبيراً عن نهجه "الديمقراطية مثل القطار تنزل منه عندما تصل إلى مبتغاك"

لم ينسَ الأتراك صباح الـ21 من مايو (أيار) 2003، البرلمان صامت تقريباً وكل زاوية من زواياه مشحونة بالتوقع، كأن الجدران نفسها تتنفس ببطء، مترقبة انفجار الكلمات.

فجأة، يظهر رجب طيب أردوغان، عيناه تحرقان الحضور بنظرات حادة، تحدّياً وغضباً كامناً، كجمر لم يخمد، وكأنهما تقولان "أنا هنا لأعيد كتابة التاريخ".

يلوّح بيديه بحركة محسوبة ودقيقة، يقترب جسده من المنصة وينحني قليلاً، يهمس لكل فرد على حدة، فتشعر الكلمات بأنها تدخل إلى الأذن ثم تنتشر في الجسد كله، وأحياناً يتوقف فجأة، الصمت نفسه يملأ القاعة، يمتص كل صوت، يقرأ نبض كل قلب، ويحوّل الانتظار إلى وشوشة توتر مشحونة قبل أن تتفجر الكلمة.

 

 

"تركيا جديدة تنهض من بين أنقاض الأزمات"، قالها بصوت متقد، يتقلب بين العاطفة والحزم، بين الارتفاع والانخفاض، بين الصوت الحاد الذي يصفع الهواء والصوت الخافت الذي يخترق الأذن مباشرة.

الكلمات لم تنقل فقط معنى، بل صنعت شعوراً حيّاً، كأن كل حرف يضع حجر أساس لمستقبل الدولة كما يراه: دولة قوية منظمة حاضنة لملايين "الأصوات المهمشة"، معبّرة عن حلم شخص صعد من حي فقير ليصبح مرآة لتاريخ الأمة.

ابن قاسم باشا الشعبي، الذي باع السميط في الشوارع لمساعدة أسرته، حمل معه صرامة الحياة وحب المواجهة منذ طفولته، وتجربة النجاة اليومية التي صاغت شخصيته: مزيجاً بين الكاريزما الشعبية والانضباط الصارم، بين صخب الحماسة وهدوء الاستراتيجية.

 

 

من تلك اللحظة، بدأ صعوده الذي امتد أكثر من عقدين: رئيس وزراء منذ 2003، ثم رئيس للجمهورية منذ 2014 بعد تعديل دستوري منحه سلطات شبه مطلقة. خلال هذه الأعوام أطلق مشاريع ضخمة غيّرت وجه المدن الكبرى، إذ أعاد هيكلة الاقتصاد وحقق استقراراً سياسياً لم تشهده تركيا لعقود.

 

"تركيا جديدة تنهض من بين أنقاض الأزمات"، قالها بصوت متقد، يتقلب بين العاطفة والحزم، بين الارتفاع والانخفاض، بين الصوت الحاد الذي يصفع الهواء والصوت الخافت الذي يخترق الأذن مباشرة.

 

 

قدّم رجب طيب أردوغان نفسه باعتباره مهندس مرحلة سياسية واقتصادية جديدة في تركيا، إلا أن تصريحاً مبكراً له يظل الأكثر تعبيراً عن نهجه "الديمقراطية مثل القطار… تنزل منه عندما تصل إلى مبتغاك"، عبارة سرعان ما أصبحت مرجعاً لدى معارضيه الذين يرون أنه فهم صناديق الاقتراع بوصفها وسيلة لا غاية.

لكن خلف هذه الإنجازات، توسُّع نفوذه ضيّق المساحات أمام المعارضة، وتحول القضاء والإعلام إلى أدوات لضبط اللعبة السياسية، بينما أصبح خطاب "الخادم الأمين للشعب" سلاحاً للاستقطاب، واستثمار الانقسامات الاجتماعية والدينية لتحقيق المكاسب، وتحويل كل نقاش أو احتجاج إلى ساحة صراع.

أردوغان رجل متقلب الانفعالات سريع الغضب أحياناً، قادر على حشد الجماهير بعاطفة مشحونة، ثم يهدأ فجأة، صامتاً، يترك أثر صمته في نفوس خصومه قبل أن يعود ليطلق كلمات حادة كالسكاكين.

ابتساماته تختفي فجأة، ونبرته تتقلب بين الحزم والتهديد، وحركة يديه تصبح أداة لتقوية كل كلمة، لتوجيه التحذير، أو لتأكيد الوعد.

 

 

وفي لحظة الانقلاب الفاشل، ظهر عبر شاشة هاتف محمول، صوته يرتجف أحياناً بالغضب والحماسة، عيناه لا تفارقان الكاميرا، وحركته باليد تشير إلى كل تركي بأن مصيره مرتبط بالقوة التي يحملها، وكأن كل قرار سياسي أصبح بيده مباشرة.

إنجازاته الاقتصادية والتنموية رفعت من مستويات البنية التحتية، ووسّعت آفاق المدن الكبرى، لكنها تتقاطع اليوم مع أزمات مالية خانقة، وتضييق على الحريات، وتصاعد انتقادات لمركزية السلطة وغياب آليات رقابة فعّالة.

شعبيته القائمة على مزيج من الوعد بالاستقرار والرخاء، وخطاب استقطاب دائم، تُبقي الإحساس الدائم بوجود "أعداء داخليين"، بينما خصومه يرونه حاكماً صارماً، لا ينسى خصومه، ويحوّل السلطة إلى مرآة لطموحاته وإرادته الصارمة.

بهذا المزج بين الدراما والانفعال، بين القوة والسيطرة، صار حكم أردوغان مرآة لتناقضات تركيا المعاصرة: دولة صاعدة، وشخصية استثنائية تركت بصماتها على كل زاوية في السياسة والمجتمع والاقتصاد.

 

ابن قاسم باشا الشعبي، الذي باع السميط في الشوارع لمساعدة أسرته، حمل معه صرامة الحياة وحب المواجهة منذ طفولته، وتجربة النجاة اليومية التي صاغت شخصيته: مزيجاً بين الكاريزما الشعبية والانضباط الصارم، بين صخب الحماسة وهدوء الاستراتيجية.

 

إنه الرجل الذي صعد من حي فقير إلى القمة، وحوّل حياته الخاصة إلى مشروع دولة، ورسم الجمهورية الحديثة على صورة طموحاته وكاريزمته، بما فيها من قوة وصراع، صرامة وحماسة، حتى أصبح اسمه مرادفاً لعقدين من تاريخ تركيا المعاصر، حيث الحب والخوف يتجاوران في ذاكرة شعبه، لكنه بالتأكيد لا يستطيع تجاهل أثره.

تضييق الحريات

يحظى الرجل بدعم صلب في الأناضول المحافظة، حيث تنظر إليه كزعيم أعاد الاعتبار للهوية الإسلامية في الحياة العامة، في المقابل، تتهمه أحزاب المعارضة بتبنّي خطاب فوقي وإقصائي، وأن حكمه فتح الباب أمام آلاف الدعاوى القضائية التي رفعها محاموه ضد سياسيين وصحافيين ونشطاء لمجرد انتقادهم له عبر الإعلام أو على وسائل التواصل. وتصنف تركيا تحت حكمه كأكبر سجن للصحافيين في العالم، بحسب منظمات حقوقية دولية.

 

 

لم يتوقف أسلوبه الحازم عند حدود الداخل التركي، فخلال زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة اعتدى حراسه على متظاهرين معارضين، فيما وجد مقدم برنامج ساخر ألماني نفسه أمام القضاء بعد شكوى مباشرة من الرئيس التركي.

شكّلت انتخابات يونيو (حزيران) 2015 أول انتكاسة لحزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه، إذ خسر غالبيته البرلمانية، أظهر أردوغان لاحقاً رفضاً لتشكيل حكومة ائتلافية، ليدعو إلى انتخابات مبكرة في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، محققاً انتصاراً معززاً أعاد له الحكم منفرداً.

بلغت مسيرة أردوغان نقطة تحول حاسمة في يوليو (تموز) 2016 حين نفّذ ضباط في الجيش محاولة انقلاب فاشلة، نجا أردوغان بفارق دقائق بعدما دهمت قوات كوماندوس الفندق الذي كان يقيم فيه.

وردّ على ذلك بإعلان حالة الطوارئ وشروعه في أوسع حملة تطهير في تاريخ الجمهورية: أكثر من 200 ألف شخص طُردوا أو اعتُقلوا، من بينهم أكاديميون وقضاة وصحافيون وضباط وجمهور واسع من المعارضين.

بعد الانقلاب، انتقل سريعاً إلى إعادة هندسة النظام السياسي، ففي استفتاء 2017، نجح بفارق ضئيل في تمرير دستور جديد يحوّل البلاد إلى نظام رئاسي تنفيذي واسع الصلاحيات، على رغم معارضة نصف الناخبين.

 

 

في المقابل، ينفي أردوغان مراراً أن يكون هدفه "أسلمة" المجتمع، مؤكداً التزامه بالعلمانية. غير أن السياسات التي نُفذت في عهده تركت أثراً واضحاً: إدراج مضامين دينية بصورة أوسع في المناهج، وإلغاء تدريس نظرية التطور، ورفع الحظر عن الحجاب في مؤسسات الدولة، وظهور الشرطيات المحجبات للمرة الأولى.

وفشل في تمرير تشريع لتجريم الدعارة، ودعا إلى "مناطق خالية من الكحول"، ما فسّره معارضون بأنه توجه نحو فرض قيم محافظة على المجال العام.

ويرى خصومه في "القصر الأبيض" الذي شيد بأنقرة (بكلفة 615 مليون دولار و1100 غرفة) رمزاً لطموحه السلطوي، لكن المؤيدين يصفونه بأنه تعبير عن "تركيا القوية" التي يطمح أردوغان لإعادتها إلى الساحة الدولية.

استفاد أردوغان طويلاً من ازدهار اقتصادي لافت بين 2002 و2015، حين بلغ متوسط النمو 4.5 في المئة سنوياً، وتحولت البلاد إلى قوة صناعية وتصديرية مهمة، وتمكّنت حكومته من كبح التضخم التاريخي الذي تجاوز 100 في المئة في التسعينيات.

غير أن الأعوام الأخيرة حملت تراجعاً حاداً في قيمة الليرة وارتفاع التضخم مجدداً، مما أعاد الأوضاع الاقتصادية إلى واجهة الانتقادات.

سياسة خارجية هجومية

لم يتردد أردوغان في تحويل السياسة الخارجية إلى منصة شعبوية، فقد هاجم إسرائيل بشدة بسبب سياستها تجاه الفلسطينيين، وكسب بذلك رصيداً شعبياً محلياً وإقليمياً، وفي سوريا دعم المعارضة ضد بشار الأسد، لكنه رفض مساعدة الأكراد في مواجهة تنظيم "داعش"، مما أثار خلافات واسعة مع الغرب.

على رغم ذلك، نجح في لعب دور الوسيط الدولي، خصوصاً خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، حين أسهم في اتفاق إعادة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود عام 2022، واستضاف مفاوضات بين موسكو وكييف.

 

 

في سياق متصل، استثمر أردوغان في صراع الحضارات بين الغرب والعالم الإسلامي، مقدّماً نفسه كمدافع عن الأمة في وجه "العداء الغربي"، وبلغ هذا الخطاب ذروته خلال تحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد عام 2020، حين قال "كانت الحرب العالمية الأولى مصممة لتكون معركة للاستيلاء على الأراضي العثمانية وتقاسمها، في عصر تهتز فيه أسس النظام العالمي، سنحبط أولئك الذين يحلمون بالحلم نفسه بالنسبة إلى جمهورية تركيا... نحن نمزق سيناريوهات أولئك الذين يريدون محاصرة بلدنا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من خلال تحقيق رؤية أكبر بكثير... لأولئك الذين يفاجئهم صعود تركيا... مرة أخرى كعملاق استيقظ من نومه الذي دام قرناً من الزمان، نقول: لم ينته الأمر بعد".

 

يحظى الرجل بدعم صلب في الأناضول المحافظة، حيث تنظر إليه كزعيم أعاد الاعتبار للهوية الإسلامية في الحياة العامة، في المقابل، تتهمه أحزاب المعارضة بتبنّي خطاب فوقي وإقصائي، وأن حكمه فتح الباب أمام آلاف الدعاوى القضائية التي رفعها محاموه ضد سياسيين وصحافيين ونشطاء لمجرد انتقادهم له عبر الإعلام أو على وسائل التواصل.

 

 

يرى باحثون أن ما يُعرف اليوم بـ"الأردوغانية" لم يعد مجرد قومية محافظة، بل هو خليط من الشعبوية الإسلامية، ونظريات المؤامرة.

لقد خلق أردوغان مساحة لأيديولوجيته من خلال استغلال "انعدام الأمن والقلق والمخاوف والشعور بالضحية والغضب والعواطف والضغينة والانتقام وعقلية الحصار والمشاعر المعادية للغرب ونظريات المؤامرة والعسكرة والجهاد وتمجيد الاستشهاد والقومية الإسلامية والأممية" لدى الشعب.

 

 

يعتبر أردوغان نفسه صانع صفقات على الطاولة الدولية، فهو يحتفظ بعلاقات مع بوتين وزيلينسكي وترمب في آن واحد، ويقول محللون إن عودة الأخير إلى البيت الأبيض تمنحه هامشاً أوسع، في وقت ينصرف فيه الغرب عن انتقاد ملف الحريات في تركيا.

تسير السياسة الخارجية التركية اليوم على نهج يمزج بين الطموح الاستقلالي والضرورات الاقتصادية المتفاقمة، فعلى رغم الضغوط الداخلية، تواصل أنقرة جهودها لترسيخ موقعها الدولي وتوسيع هامش مناورتها بين الشرق والغرب.

ويبرز الشرق الأوسط بوصفه ساحة نموذجية لهذا التحوّل، حيث يدفع الاقتصاد مسار التقارب مع الخليج، فيما فرضت حرب غزّة تجميد التطبيع مع إسرائيل وأعادت تركيا إلى دبلوماسية نشطة متعددة الاتجاهات.

وفي موازاة ذلك، تحاول أنقرة الحفاظ على توازن دقيق في مثلث علاقتها بروسيا والغرب: تعاون محسوب مع موسكو من دون الانخراط في شراكات دفاعية جديدة، مقابل تحسّن تدرجي في العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة.

 

 

وتكتسب وزارة الخارجية بقيادة هاكان فيدان وزناً أكبر في صياغة السياسات بلغة أكثر مهنية. أما تبنّي مفهوم "العالم التركي" فيفتح الباب أمام فرص جديدة لكنه يهدّد بخلق احتكاكات مع روسيا وإيران والصين.

وعلى رغم هذا المشهد المعقّد، يظلّ الخط الناظم للسياسة التركية ثابتاً: تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية وتوسيع الدور الإقليمي في عالم يتغيّر بسرعة. ويجمع محللون على أن موقع تركيا الجيوسياسي يمنحه أوراق قوة استثنائية: دولة تمتد بين آسيا وأوروبا، العضو المسلم الوحيد في "الناتو"، وصاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف.

 

 

نقد داخلي… وقلق متصاعد

يرى علماء سياسيون، مثل بيرك إيسن من جامعة سابانجي، أن تركيا تشهد "ضغطاً وقمعاً متفشيين" ضد المعارضة والأكاديميين والإعلام، ومع ذلك يقول إن البلاد "لم تتحول بعد إلى نظام استبدادي كامل"، لأن مساحة من النقد ما تزال موجودة، ولو تتقلّص تدرجاً.

لكن آخرين، مثل الباحثة غونول تول، يؤكدون أن أردوغان "خطا خطوات واسعة نحو بناء نظام شبيه بالنموذج الروسي"، يقوم على صناعة خصومه بنفسه وإضعاف المؤسسات، في ظل انصراف المجتمع الدولي إلى أزمات أخرى.

 

 

 

محاولة انقلاب 2016

لم تكن الساعات التي عاشتها تركيا ليل الـ15 من يوليو 2016 مجرد اضطراب سياسي عابر، بل لحظة فارقة بدّلت ملامح الجمهورية، ودفعت البلاد إلى مسار جديد لا تزال تداعياته حاضرة في كل تفصيل من تفاصيل الحياة السياسية والأمنية.

ففي ليلة واحدة، تحولت تركيا إلى مسرح مفتوح لصراع على السلطة، تحركت فيه وحدات من الجيش لمحاولة إسقاط الحكم، فيما واجهتها مؤسسات الدولة وكتل شعبية واسعة، ليخرج البلد مع فجر اليوم التالي وخريطته السياسية أعيد رسمها بالكامل.

ارتباك في الساعات الأولى

قرابة الساعة الثامنة والنصف مساءً، بدأت المؤشرات الأولى لوجود تحرك غير اعتيادي، أُغلقت جسور إسطنبول الرئيسة، وانتشرت وحدات عسكرية في بعض الشوارع، بينما حلّقت طائرات حربية على ارتفاعات منخفضة فوق أنقرة، في مشهد ذكّر الأتراك بانقلابات سابقة.

كانت خطة الانقلابيين واضحة: السيطرة على مراكز الدولة الحساسة واعتقال الرئيس رجب طيب أردوغان وتعطيل قيادة الجيش والاستيلاء على وسائل الإعلام الرسمية لإعلان "مجلس السلام" كسلطة انتقالية.

 

استثمر أردوغان في صراع الحضارات بين الغرب والعالم الإسلامي، مقدّماً نفسه كمدافع عن الأمة في وجه "العداء الغربي"

 

ومع أن وحدات شاركت بالفعل في هذه الخطط، فإن أبرز عنصر فيها، عملية اعتقال الرئيس، فشل في لحظاته الأولى.

 

 

هاجمت قوات خاصة الفندق الذي كان يقيم فيه أردوغان في مدينة مارماريس، وأطلقت النار والقنابل في محاولة لاعتقاله، غير أن الرئيس كان غادر قبل دقائق قليلة إثر بلاغ وصل للأجهزة الأمنية. العملية التي كانت من المفترض أن تكون محور التحرك، انهارت قبل أن تبدأ فعلياً، وحرمت الانقلابيين من أكبر ورقة ضغط.

العاصمة تحت النار

في أنقرة، عاش السكان واحدة من أكثر لحظات العاصمة توتراً، جرى قصف مبانٍ حكومية، واحتجز رئيس الأركان خلوصي أكار، وسيطر جنود على مبنى التلفزيون الرسمي TRT حيث بُث البيان الأول للانقلاب.

لكن السيطرة على الإعلام لم تكتمل، إذ بقيت قنوات خاصة تبث على الهواء، ووُجهت رسائل مضادة من مسؤولين في الحكومة، بما في ذلك ظهور أردوغان لاحقاً، لتتحول المعركة إلى سباق بين روايتين: رواية الانقلابيين التي حاولت فرض واقع جديد، ورواية الحكومة التي سعت إلى إثبات أن الحكم ما يزال قائماً.

من كان خلف العملية؟

تشير التحقيقات التركية إلى أن المحاولة دُبرت داخل إحدى أوسع الشبكات نفوذاً في الدولة خلال العقود الأخيرة: تنظيم فتح الله غولن.

 

 

منذ الستينيات، عمل التنظيم على بناء نفوذ تعليمي ودعوي، وتغلغل عبره في أجهزة الأمن والقضاء والجيش، وعلى رغم تحالفه السابق مع حكومة العدالة والتنمية، فإن القطيعة عام 2013 فتحت الباب لمواجهة مفتوحة انتهت بمحاولة الانقلاب.

وتكشف تفاصيل الخطة عن اجتماعات مغلقة بين السادس والتاسع من يوليو في أنقرة، وإشراف مباشر من عادل أوكسوز، أحد أبرز "الأئمة المدنيين" في التنظيم، ومشاركة ضباط كبار داخل المؤسسة العسكرية، ومراجعة الخطة مع غولن في الولايات المتحدة قبل يومين من التنفيذ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت ساعة التنفيذ الأصلية محددة عند الثالثة فجراً، لكن بلاغاً استخبارياً كشف نية اختطاف رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، مما دفع الانقلابيين إلى تقديم ساعة التحرك، خطوة ارتجالية شكلت نقطة ضعف قاتلة.

لماذا فشل الانقلاب؟

1. انهيار القيادة العسكرية للانقلاب

لم تنضم القيادة العسكرية العليا للحركة، غياب رئيس الأركان وقادة القوات الأساسية أفقد الانقلابيين القدرة على إدارة المشهد وتوحيد الوحدات المشاركة.

2. ظهور أردوغان في اللحظة الحرجة

ظهور الرئيس في مداخلة هاتفية عبر "سي إن إن تورك" في الساعة 00:24 شكّل تحولاً حاسماً، دعا المواطنين للنزول إلى الشوارع، وأثبت أنه لم يقع بيد الانقلابيين، وهو ما أطاح الرواية التي حاولوا تثبيتها.

3. حضور شعبي لم يشهده أي انقلاب سابق

تدفقت حشود كبيرة إلى الشوارع في إسطنبول وأنقرة، وواجه مدنيون الدبابات على جسور المدينة، كان ذلك أول تحرك شعبي مباشر يفشل محاولة انقلاب في تاريخ الجمهورية الحديثة.

4. بقاء الإعلام خارج السيطرة

على رغم السيطرة على التلفزيون الرسمي، فشل الانقلابيون في إخضاع بقية المنابر، استمرار البث المباشر وحضور المسؤولين على الهواء أحدثا شرخاً فورياً في صورة الانقلاب.

5. ارتباك التوقيت وسوء التنسيق

تقديم ساعة التنفيذ أربك الوحدات الانقلابية التي تحركت قبل اكتمال الخطة، تحركت بعض الأطقم دون حماية، بينما انتظرت أطقم أخرى أوامر لم تصل، مما أنتج فوضى داخلية أسهمت في انهيار العملية.

 

 

مع فجر الـ16 من يوليو، بدأ الانقلابيون في الاستسلام، استعادت القوات الحكومية السيطرة على قاعدة أقنجي، وأُطلق سراح رئيس الأركان، وأعلنت الحكومة رسمياً إحباط المحاولة.

بلغ عدد القتلى 265 شخصاً، بينهم مدنيون وعسكريون، في واحدة من أكثر الليالي دموية منذ عقود.

ما بعد الانقلاب

باتت تركيا مختلفة، إذ أطلقت السلطات عمليات واسعة شملت اعتقال أو فصل عشرات الآلاف، في الجيش والشرطة والقضاء والجامعات ومؤسسات الدولة، وأُغلقت مدارس وجامعات محسوبة على تنظيم غولن. وتقول المعارضة إن بعض هذه الإجراءات امتد إلى معارضين لا علاقة لهم بالتنظيم.

 

 

وفي 2017، أُقرت تعديلات دستورية نقلت البلاد إلى النظام الرئاسي، مُنحت بموجبه صلاحيات تنفيذية وقضائية أوسع للرئيس، وأُلغيت وظيفة رئيس الوزراء، واعتُبر التحول نقطة تحول مركزية في صياغة النظام السياسي الجديد.

وأُعيد تنظيم المؤسسة العسكرية على نحو جذري، نقلت الوحدات لسلطة وزارة الدفاع، وجرى تغيير في القيادات وإعادة صياغة العقيدة العسكرية، بما يحدّ من تدخل الجيش في الشأن السياسي.

في المقابل، توترت العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب رفضها تسليم غولن، بينما انتقد الاتحاد الأوروبي إجراءات ما بعد الانقلاب، لكن الحكومة اعتبرت هذه الانتقادات "تدخلاً"، مؤكدة أن ما جرى كان تهديداً وجودياً للجمهورية.

شكلت محاولة انقلاب 2016 نقطة تحول عميقة في تاريخ تركيا، فهي لحظة أعادت تحديد دور الجيش، ورسخت سلطة سياسية جديدة، وأطلقت حملة إعادة بناء شاملة داخل مؤسسات الدولة.

وبعد تسعة أعوام، لا يزال ذلك الحدث مفتاحاً لفهم تركيا الحالية، سواء في سياستها الداخلية، أو مؤسساتها الأمنية، أو تموضعها الإقليمي والدولي.

 

 

نظام رئاسي

أحدثت المحاولة الانقلابية هزة في المجتمع التركي نتيجة حملة الاعتقالات والإقالات، إذ اعتقل عشرات الآلاف من الأتراك وفصلوا من وظائفهم، وفي الوقت ذاته تلاشت آمال تركيا في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وأصبحت تركيا أكثر انقساماً، من الناحية السياسية، من ذي قبل.

يعد أردوغان أقوى زعيم شهدته تركيا منذ مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك، وقد انتخب رئيساً للدولة عام 2014 بعد 11 عاماً قضاها في رئاسة الحكومة، ولا يزال حتى الآن في هذا المنصب.

وعلى رغم أن منصب رئيس الدولة كان يعد تقليدياً منصباً فخرياً، فقد كانت للرجل نوايا أخرى.

 

 

فأردوغان، الشخصية المهيمنة على المشهد السياسي التركي، كان يحلم منذ أمد بعيد بتوطيد سلطته من طريق تعديل الدستور بحيث تتحول تركيا من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي، نظام يلغي منصب رئيس الحكومة ويسمح له بترسيخ قبضته على البلاد.

وبالفعل، وافق الناخبون الأتراك في استفتاء أجري في الـ16 من أبريل (نيسان) 2017، على توصيات أردوغان وإصلاحاته المقترحة.

 

يعتبر أردوغان نفسه صانع صفقات على الطاولة الدولية، فهو يحتفظ بعلاقات مع بوتين وزيلينسكي وترمب في آن واحد، ويقول محللون إن عودة الأخير إلى البيت الأبيض تمنحه هامشاً أوسع، في وقت ينصرف فيه الغرب عن انتقاد ملف الحريات في تركيا.

 

وخيّم شبح المحاولة الانقلابية على معركة الاستفتاء، إذ وصف أردوغان المصوتين بـ"لا" بأنهم "متواطئون مع الانقلابيين"، بينما تردد الكثير في انتقاد الحكومة نتيجة حالة الطوارئ التي فرضت عقب المحاولة.

ورأى المعارضون أن منح صلاحيات واسعة لرئيس البلاد بحيث يجمع بين يديه سلطات كبيرة سيحوّل نظام الحكم إلى نظام حكم الرجل الواحد من دون أن تكون هناك ضوابط قانونية لمساءلة الرئيس عن سياساته وممارساته.

 

 

ويضيف المعارضون أن قدرة الرئيس على إقامة علاقات مع حزب سياسي، وفي هذه الحالة حزب العدالة والتنمية الذي أسهم في تأسيسه وقيادته، ستنهي أي فرصة في ضمان حياد الرئيس.

وافق الناخبون على التعديلات الدستورية التي تضمنت إلغاء منصب رئيس الوزراء وتعيين الرئيس لكبار المسؤولين من وزراء ونواب للرئيس ومنحه حق التدخل في النظام القانوني للبلاد وفرض حالة الطوارئ.

وفي يونيو (حزيران) 2018 فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية ثانية في انتخابات رئاسية اعتبرت منعطفاً مفصلياً في الحياة السياسية للأتراك.

وبهذه النتيجة حصل على تفويض سياسي من الشعب التركي لتغيير ملامح النظام السياسي في البلاد للمرة الأولى منذ قيام الجمهورية التركية على يد أتاتورك.

دخل أردوغان هذه الانتخابات طالباً حصر معظم السلطات التنفيذية بين يديه ومنحه صلاحيات غير مسبوقة في النظام السياسي الذي أقره الناخبون الأتراك في التعديلات الدستورية في استفتاء 2017.

عوامل النجاح

تعود انتصارات أردوغان السياسية في جزء كبير منها إلى التأييد الشعبي الذي يتمتع به بسبب انتصاره للقضايا الإسلامية.

ففي بلدة ريزه الواقعة على ساحل البحر الأسود، وهي البلدة التي ينحدر منها الرئيس التركي، تشرق صورة كبيرة لرجب طيب أردوغان على حرم الجامعة التي تحمل اسمه، لا يوجد شيء يصف مفهوم "عبادة الفرد" مثل إطلاق اسم زعيم على مؤسسة وهو لا يزال على قيد الحياة.

وتعد المنطقة القلب النابض للقومية التركية، الجانب المحافظ والمتدين من تركيا الذي كان يعاني التهميش لعقود حتى وجد ضالته في رجب طيب أردوغان.

 

 

فقد عانى الكثير من سكان هذه المنطقة الإهمال من جانب النخبة العلمانية القديمة التي بنت الجمهورية التركية منذ نشأتها عام 1923 حسب المفاهيم التي جاء بها مؤسس تركيا الحديثة أتاتورك، وهي مفاهيم علمانية تتطلع إلى الغرب وتتنكر للشرق الإسلامي.

وكان مسلمو الأناضول يشعرون وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، إذ كان يطلق عليهم لقب "الأتراك السود" مقارنة "بالأتراك البيض" من الطبقة البرجوازية.

ومنعت نساء "الأتراك السود" من ارتداء الحجاب في المؤسسات والدوائر الرسمية، حتى جاء أردوغان، المسلم المحافظ، كانت زوجة أردوغان أول قرينة رئيس حكومة ترتدي الحجاب، وألغت حكومة أردوغان الحظر على ارتداء الحجاب عام 2013.

وكان لأصول أردوغان المتواضعة في تخوم البحر الأسود وطفولته التي قضاها في منطقة قاسم باشا الفقيرة في إسطنبول أثر كبير في منحه قدرة على التواصل مع الناخبين العاديين، إذ يشعر مؤيدوه بأنه صوتهم.

وفي الوقت ذاته، تحولت تركيا من وضعها السابق كبلد فاشل اقتصادياً عند بداية الألفية الثانية إلى بلد يعد من أقوى الاقتصادات الـ20 في العالم.

 

 

وبعد الانهيار الاقتصادي الذي مرت به عام 2001، والذي شهدت فيه البلاد تضخماً مزمناً وانخفاض سعر العملة إلى 1.5 مليون ليرة مقابل الدولار، تمكن أردوغان من اكتساب سمعة طيبة لكفاءته الاقتصادية.

تحسنت حياة الأتراك اليومية بفضل المشاريع الكبرى التي نفذتها حكومة أردوغان، من مدارس إلى مستشفيات وطرق ومشاريع بنية تحتية، أما الأتراك المتدينون، الذين طالما شعروا بالتهميش من جانب النخبة العلمانية فقد زاد نفوذهم، وتحررت تركيا من سطوة العسكر الذين كانوا في السابق يتصرفون بلا وازع.

شبهات فساد

تتوالى الفضائح والمزاعم حول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعائلته، وكشفت تحقيقات صحافية دولية ومحلية عن شبكة واسعة من النفوذ المالي والسياسي المتشابك، تشمل أبناءه، ورجال أعمال مقربين، ومستشارين سياسيين، وتمتد أنشطتهم إلى قبرص وأوروبا وملاذات ضريبية.

وتشير هذه الملفات إلى منظومة فساد منسقة، حيث تتداخل مصالح مالية ضخمة مع السلطة السياسية، مما يطرح تساؤلات جدية حول شفافية الحكم واستقلالية القضاء في تركيا.

فضيحة مناقصة مطار أنطاليا

في إطار أول الملفات البارزة، كشف علي يشيليداغ، المطلع السابق على دوائر أردوغان، عن مخطط فساد ضخم بقيمة مليار دولار يتعلق بمناقصة تشغيل حقوق مطار أنطاليا، التي يعود تاريخها إلى عام 2007.

 

 

وأوضح يشيليداغ أن المناقصة تم التلاعب بها لمصلحة شركة İçtaş – Çeçen بعد استبعاد منافس شرعي، Çelebi Holding، بطرق غير قانونية، مما أدى إلى تقديم شكاوى جنائية ضد الرئيس وأطراف مقربة منه.

وتظهر هذه القضية كيف يمكن للسلطة التنفيذية التركية التدخل في مشاريع كبرى لتحقيق مكاسب مالية لأطراف محددة، مما يعكس نمطاً مستداماً من المحسوبية واستغلال السلطة.

شبكة الأموال في قبرص وشهادات كميل أونال

أحد أبرز التحقيقات الدولية يخص شهادة كميل أونال، المدير المالي السابق لرجل الأعمال القبرصي هلل فاليالي، الذي كشف عن وجود شبكة ضخمة لغسيل الأموال ودفع رشاوى شهرية تصل إلى 15 مليون دولار لمسؤولين كبار، بينهم شخصيات مرتبطة مباشرة بعائلة أردوغان.

وأوضح أونال أن فاليالي اشترى عقارات من عائلة سيرم، المقربة من الرئيس، بأسعار مبالغ فيها مقابل حماية سياسية، مشيراً إلى تسجيلات ابتزازية تضم شخصيات بارزة، وأن نجل سيرم، ياسين إكرم سيرم، عُيّن سفيراً في شمال قبرص لاسترداد هذه الأشرطة.

وتجدر الإشارة إلى أن أونال قُتل في هولندا عام 2025، في ظروف يعتقد أنها مرتبطة بكشفه هذه المعلومات الحساسة، مما يسلط الضوء على خطر هذا النوع من الفساد.

 

 

 

الفساد العائلي ونشاطات بلال أردوغان

يشمل الفساد المزعوم عائلة الرئيس بصورة مباشرة، لا سيما نجله بلال أردوغان، الذي ارتبط اسمه بعدد من الفضائح الاقتصادية والسياسية:

تهريب النفط والاتجار مع "داعش": تشير اتهامات إلى تورطه في تهريب النفط من مناطق العراق وسوريا المحتلة عبر تنظيم "داعش"، مما دفع وسائل إعلام محلية إلى إطلاق لقب "وزير نفط داعش" على نجل الرئيس.

2- مشاريع تجارية غير شفافة: يمتلك بلال حصصاً محدودة في مجموعة BMZ للنقل البحري والبناء، وتكشف الوثائق أن أنشطته التجارية غالباً ما تتم عبر شركات واجهة أو صفقات غير معلنة.

3- صفقات رشوة دولية: كشفت تحقيقات خاصة لوكالة "رويترز" عن محاولة شركة سويدية-أميركية، Dignita Systems AB، دفع عشرات الملايين من الدولارات كرشاوى للحصول على احتكار منتجاتها في السوق التركية، مع إدراج بلال أردوغان في مجلس إدارة شركتين وهميتين لإتمام الصفقة، مما أدى إلى تحقيقات أولية في الولايات المتحدة والسويد حول انتهاكات قوانين مكافحة الرشوة.

4- تحقيقات سابقة وغسيل أموال: عام 2016، أجرى ممثلو الادعاء الإيطاليون تحقيقاً في غسيل أموال بحق بلال، قبل أن يتم إسقاط القضية لاحقاً بسبب نقص الأدلة، بينما زعمت روسيا أنه استفاد من تجارة النفط عبر الحدود مع "داعش"، وهو ما نفاه بلال رسمياً.

 

 

تسريبات داخلية ومؤامرات إعلامية

في سياق محاولة تدارك الأضرار الإعلامية والسياسية، سربت مذكرات داخلية من مدير الاتصالات في الرئاسة التركية، فهرتين ألتون، توجيهات للإعلام والبرلمانيين الموالين لتشويه مزاعم الفساد، وتصويرها على أنها مؤامرة أجنبية.

هذه المذكرة تعكس استراتيجية واضحة للسيطرة على السرد الإعلامي وتحويل أي فضيحة إلى أداة سياسية، بما يوضح حجم شبكة النفوذ التي تسيطر على السلطة والصورة العامة للرئاسة.

ملاذات ضريبية

تُظهر وثائق من تحقيقات مثل "Offshore Corruption in Turkey" وPanama Papers تورط مجموعة كبيرة من رجال الأعمال المقربين من أردوغان في شركات وحسابات في ملاذات ضريبية.

وتكشف هذه الوثائق أن هذه الشبكات تُستغل للاستثمار في مشاريع ضخمة تمنحها الدولة، مما يربط بين النفوذ السياسي والمكاسب المالية بصورة مباشرة، ويطرح تساؤلات حول تداخل المال بالسلطة.

استغلال السلطة

يشير خبراء إلى أن هيمنة أردوغان على القضاء ووجود قضاة موالين، يسهلان عملية الإفلات من المحاسبة، وتقارير الاستخبارات التركية (MIT) تشير إلى وجود فساد داخل الجهاز القضائي.

هذا الواقع يعزز الانطباع بأن منظومة الفساد داخل تركيا لا تقتصر على الجانب المالي فقط، بل تمتد لتشمل النفوذ السياسي وإقصاء الخصوم، مما يشكل تهديداً لاستقلال المؤسسات والديمقراطية.

امتداد النفوذ السياسي

لا يقتصر تأثير شبكة الفساد في المال فقط، بل يمتد إلى السياسة وصراعات الخلافة داخل النظام التركي، فبعد انسحاب رئيس الوزراء السابق أحمد داود أغلو، تم تعيين برآت ألبيرق، زوج ابنة أردوغان ووزير الطاقة الحالي، ليحل محله ويؤكد ولاءه لسياسة أردوغان، مما يعكس استراتيجية متكاملة للحفاظ على النفوذ العائلي والسيطرة على مفاصل الدولة.

 

 

كل هذه الملفات المحلية والدولية تشير إلى منظومة متشابكة من النفوذ المالي والسياسي لعائلة أردوغان، تشمل مشاريع مشبوهة وصفقات دولية واستخدام شركات وهمية وغسيل أموال، إلى جانب محاولات السيطرة على الإعلام والمؤسسات الرسمية.

وتجعل هذه الشبكة من العائلة قوة اقتصادية وسياسية متماسكة، وتطرح تحديات حقيقية أمام الشفافية والحوكمة في تركيا، وتثير تساؤلات حول حدود الفساد واستقلال القضاء في الدولة التركية المعاصرة.

المولد والنشأة

ولد رجب طيب أردوغان في الـ26 من فبراير (شباط) 1954 في حي قاسم باشا، أحد الأحياء الشعبية بمدينة إسطنبول، لكنّ أصوله تعود إلى مدينة ريزا الواقعة شمال شرقي تركيا على البحر الأسود.

 

تعود انتصارات أردوغان السياسية في جزء كبير منها إلى التأييد الشعبي الذي يتمتع به بسبب انتصاره للقضايا الإسلامية.

 

 

والدته هي تنزيلة ووالده هو أحمد أردوغان، وهو بحار بدأ حياته العملية بإسطنبول في إدارة الشؤون البحرية حتى تقاعده، كان معروفاً بتدينه ووفائه ومواظبته على صلواته، وشدة تعلقه بالبحر لدرجة اتخاذه إياه سبيلاً لطريقه إلى أداء مناسك الحج عام 1958، له أخ يصغره بأربع سنوات اسمه مصطفى، وأخت تصغره بـ12 سنة.

تعلّق أردوغان بكرة القدم منذ نعومة أظافره، وبقي يلعبها وأخذت معظم وقته في مراحله الدراسية الأولى حتى بلوغه 26 سنة، عندما وقع الانقلاب العسكري يوم الـ12 من سبتمبر (أيلول) 1980، وعلى رغم طموحه في فترة الطفولة بأن يصبح لاعباً لكرة القدم، فإن الأقدار شاءت أن ينحو منحى السياسة.

 

 

تزوج من أمينة أردوغان عام 1978 وأنجبا أربعة أبناء وهم أحمد براق وإسراء وسمية ونجم الدين بلال، وقد كانت أمينة آنذاك رئيسة ثانية لجمعية "السيدات المثاليات"، وهي جمعية أسستها مع شعلة يوكسال في حي إسكودار بإسطنبول، وهناك تعرف عليها أردوغان قبل أن يعرض عليها الزواج.

الدراسة

درس أردوغان المرحلة الابتدائية في مدرسة قاسم باشا وتخرج فيها عام 1965، وقد لاحظ أساتذته تميزه وتألقه في المدرسة للحد الذي دفع مديرها إلى استدعاء والده وتوصيته بالحرص على إكمال ابنه تعليمه إلى أعلى مستوى يمكن أن يصل إليه.

فأكمل أردوغان المرحلة الثانوية في ثانوية إسطنبول للأئمة والخطباء، وحصل فيها على منحة الإقامة المجانية، وتخرّج فيها عام 1973، وكان من طلبتها المتفوقين ولاعبيها الرياضيين، حيث لعب كرة القدم والكرة الطائرة.

 

 

خلال دراسته في الثانوية شكلت المدرسة عاملاً مهماً وداعماً لمسلكه السياسي، إذ فهم فيها طبيعة البيئة التركية وخصائصها، وعرف كيفية التعامل معها واحترام عاداتها وقيمها الأخلاقية، وبرز آنذاك أيضاً أسلوبه الخطابي البليغ، فقد كان يجذب المستمعين بكلماته وخطبه المؤثرة.

كانت رغبة والده أن يدرس ابنه في مدرسة داخلية ليكون أكثر نظاماً وانضباطاً، وكانت هذه المدرسة توفر عطلة أسبوعية لزيارة العائلة، لكن أردوغان كان يستثمرها في العمل بائعاً للسميط والماء في شوارع إسطنبول لكسب المال، وكان ينفق ما جمعه لشراء الكتب إلى الحد الذي مكنه من تكوين مكتبة كبيرة وهو ما يزال في أولى مراحل دراسته.

حصل أردوغان أيضاً على شهادة الثانوية العامة بعد اجتياز اختبارات المواد الإضافية، ثمّ التحق بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة مرمرة، وتخرج فيها عام 1981.

التجربة الرياضية

بدأ أردوغان هوايته الرياضية بلعب كرة القدم منذ المرحلة الابتدائية، وزاد تعلقه بها في مرحلته الإعدادية والثانوية، حتى انتقل إلى نادي "جامع ألتى" الرياضي، بعدما جذب الأنظار إليه بخفة حركته وموهبته الكروية، وقدم له مسؤولو النادي عرضاً بالانضمام إليه مقابل ألف ليرة شهرياً.

أطلق عليه أصدقاؤه "الإمام بكينباور"، وهو لقب استلهموه من تكوينه في مدرسة الأئمة، وأضافوا إليه اسم نجم المنتخب الألماني لكرة القدم في ثمانينيات القرن الماضي فرانس بكينباور، الذي حاول أردوغان آنذاك محاكاة أسلوب لعبه.

 

 

وفي عام 1975 انتقل أردوغان إلى نادي "هيئة الترام والأنفاق بإسطنبول" وبقي يكسب من كرة القدم، وكان والده يظن أن تعلقه بالكرة عارض كغيره ممن هم في سنه، ولم يلحظ تدرجه الاحترافي إلا بعدما عرض عليه نادي "إسكي شهير" الانتقال للعب ضمن صفوفه، فلم يأذن له واعتبر ذلك مضيعة للوقت.

وقد صرح أردوغان فيما بعد بأن والده تسبب في فقده كثيراً من الفرص المشابهة، وعبّر عن تحسره لضياع إحدى الفرص التي جاءته من نادي "فنار باهشته"، بعد الأداء الاحترافي الذي أظهره في المباريات النهائية للهواة في إسطنبول، فقد عرض عليه المدير الفني للنادي الانتقال، وطلب أردوغان مهلة يومين لإقناع والده، لكنه لم يفلح.

التجربة السياسية

تولى رجب دوراً بارزاً في الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك والمنظمات الشبابية، وعندما كان في سن مبكرة انخرط في حزب "السلامة الوطنية" الذي تأسس عام 1972 بزعامة نجم الدين أربكان.

ثم أصبح عضواً في حزب "الرفاه" ثم "الفضيلة"، اللذين أسسهما أربكان إثر موجات الحظر التي كانت تطاول أحزابه، بفعل التضييق على الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية.

 

 

وفي عام 1976 انتُخِب رئيساً للمنظمة الشبابية لحزب "السلامة الوطني" في منطقة باي أوغلو التابعة لمدينة إسطنبول، وفي العام نفسه تولى رئاسة جناح الشباب عن محافظة إسطنبول كاملة.

عاد رجب طيب أردوغان إلى الحياة السياسية بقوّة مع تأسيس "حزب الرفاه" عام 1983، وأصبح رئيس الحزب في فرع "باي أوغلو" في إسطنبول عام 1984، ثم رئيساً للحزب في مدينة إسطنبول، وعضواً في اللجنة الإدارية للقرارات المركزية لحزب الرفاه عام 1985.

تولى منصب رئيس حزب "الرفاه" في إسطنبول عام 1985 وكان عمره آنذاك 30 سنة، ورشحه الحزب لعضوية البرلمان في انتخابات 1987 و1991، لكن الحظ لم يحالفه في المرتين، ثم ترشح لرئاسة بلدية إسطنبول يوم الـ27 من مارس (آذار) 1994 وفاز بها، ومنها كان الانطلاق نحو الصعود في السلم السياسي.

أثناء توليه إدارة حزب الرفاه في إسطنبول، أولى عناية للنشاط النسائي السياسي، فدخلت النساء معترك السياسية والعمل الميداني المرتبط بها.

 

 

حقق خلال فترة رئاسته البلدية إنجازات نوعية أكسبته شعبية كبيرة في تركيا، لكن هذا لم يمنع خضوعه للمحاكمة من قبل محكمة أمن الدولة عام 1998، وسجنه بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.

وإضافة إلى السجن منع من الترشح للانتخابات العامة والعمل في الوظائف الحكومية، وجاء الحكم بسبب اقتباسه في أحد خطاباته الجماهيرية أبياتاً لشاعر تركي يقول فيها مساجدنا ثكناتنا/ قبابنا خوذاتنا / مآذننا حرابنا / والمؤمنون جنودنا/ هذا هو الجيش المقدس الذي يحرس ديننا.

لكن هذا الحكم القضائي لم يوقف طموحاته، بل نبهه إلى صعوبة الاستمرار في نهج أربكان، فبعد حظر حزب "الفضيلة" انشق مع عدد من الأعضاء من بينهم عبدالله غل وشكّل معهم حزب العدالة والتنمية عام 2001.

 

 

ومنذ البداية أراد أردوغان أن يدفع عن حزبه شبهة استمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامي الذي أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة، فأعلن أن "العدالة والتنمية" يحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية.

قاد أردوغان حزب العدالة والتنمية إلى احتلال الصدارة في المشهد السياسي التركي، فحقق الفوز في الانتخابات التشريعية عام 2002 وحصل على 363 مقعداً في البرلمان، وهو ما مكنه من تشكيل حكومة مدعومة بغالبية برلمانية ساحقة.

وبسبب تبعات الحكم القضائي الذي منعه من العمل في الوظائف الحكومية، لم يتمكن من ترؤس الحكومة في البداية، فتولى رئاستها عبدالله غل حتى الـ14 من مارس2003، إذ تولى الرئاسة أردوغان بعد إسقاط الحكم عنه في ذلك التاريخ.

 

 

وفي الانتخابات التشريعية عام 2007 تمكن حزب العدالة والتنمية من الحصول على غالبية مقاعد البرلمان بنسبة 46.6 في المئة من أصوات الناخبين، وحصل في انتخابات 2011 على الغالبية للمرة الثالثة بحوالى 50 في المئة من أصوات الناخبين.

وفي الـ10 من أغسطس (آب) 2014 فاز في أول انتخابات رئاسية ينتخب فيها رئيس جمهوري تركي بالانتخاب المباشر، وحقق الفوز في الجولة الأولى متقدماً على منافسيه فيها، فصار الرئيس الـ12 في تاريخ تركيا.

وعقب اعتماد التعديل الدستوري في استفتاء الـ16 من أبريل 2017 وتمهيد الطريق لإمكانية انتماء رئيس الجمهورية إلى حزب سياسي، أعيد انتخاب رجب طيب أردوغان في المؤتمر الاستثنائي الثالث، الذي عقد يوم الـ21 من مايو 2017، رئيساً لحزب العدالة والتنمية.

زانتخب رئيساً للجمهورية مجدداً بنسبة 52.59 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الـ24 من يونيو 2018.

على المستوى الداخلي حققت تركيا في ظل حكمه نهضة اقتصادية كبرى، وحاول خلال فترته في السلطة التركيز على نهجه الوسطي وحرص على التأكيد على أن حزبه "ليس حزباً دينياً بل هو حزب ديمقراطي محافظ"، ودأب على انتقاد من قال إنه "استغلال الدين وتوظيفه في السياسة".

وفي سياسته الخارجية سجل مواقف شهيرة من القضايا العربية، فقد غادر منصة مؤتمر دافوس الاقتصادي أمام الكاميرات احتجاجاً على عدم إعطائه الوقت الكافي للرد على الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في شأن الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009.

اقرأ المزيد

المزيد من بيوغرافيا