Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض باريسي لفنان غادر الثورة إلى حضن الإمبراطور

ديفيد رسم نابليون ليس بوصفه مجرد قائد عسكري بل مادة درامية قابلة للتضخيم فبات الفن يؤسس للسلطة السياسية من خلال تمجيد صورة الزعيم

"تتويج نابليون" (1817) (غيتي)

ملخص

مهما يكن من أمر فإن العلاقة بين ديفيد ونابليون لم تكن مجرد علاقة فنان براعيه، بل كان هناك قدر لا بأس به من الإعجاب الشخصي، لكنه يتضافر مع قدر آخر من الحذر السياسي. فديفيد كان يعرف أن الأزمنة تتغير وأن دعمه نابليون ليس خياراً جمالياً فحسب، بل كان خياراً وجودياً. أما نابليون فكان يرى في ديفيد فناناً قادراً على صياغة صورة لا يمكن لدعاة عودة النظام القديم أو أنصار الجمهورية من خصومه المباشرين، منافستها.

على رغم أن قطاعاً عريضاً من جمهور الفن الفرنسي وقع دائماً بالنسبة إلى نظرته إلى الفنان جاك لوي ديفيد (1748 - 1825)، منذ القرن الـ18 وحتى العقد الأول من القرن التالي له، تحت تأثير العبارات السيئة التي أوردها في حقه الأديبان المؤثران الأخوان غونكور، وفحواها أن "أسوأ رسامي المعارض الشعبية أبداً لم يحولوا فنهم إلى ما يضاهي هذه القباحة وهذا الغباء"، نظرت فرنسا إلى ديفيد ليس فقط بوصفه واحداً من أهم فناني أوروبا، بل كمهندس بصري لعصر كامل. وهو أمر سنتحرى مدى صدقيته من جديد، من خلال المعرض الكبير الذي ينظمه متحف اللوفر الباريسي الكبير لأعمال هذا الفنان الذي ارتبط اسمه أكثر ما ارتبط، بالتمثيل على العلاقة بين الفن والسياسة من خلال علاقته بنابليون بونابرت في مراحل متعددة من تسلط هذا الزعيم والقائد العسكري والسياسي الكبير على مقدرات فرنسا وأجزاء كبيرة من العالمين الأوروبي والمتوسطي.

وإذا كان اسم ديفيد يقترن بالتصوير النيو كلاسيكي على المستوى الفني، فإنه يقترن بالتالي، على المستوى التاريخي، باسم أساسي هو اسم نابليون، لكن العلاقة بين الفنان وبين أهم شخصية سياسية في فرنسا بعد الثورة من الصعب أن تفهم ضمن حدود ما يتعلق برعاية أهل السلطة التقليدية للفن والفنانين، بل تتجاوزها إلى دور ديفيد في تشكيل صورة نابليون كما أرادها هذا لنفسه، صورة البطل والمصلح ثم الإمبراطور الممسك بزمام التاريخ.

والحقيقة أن ديفيد، وقبل أن يصبح رسام نابليون كان رسام الثورة وشارك بفاعلية في الحياة السياسية خلال عهد اليعاقبة، ورسم لوحات مثل "اغتيال مارا" التي تعد أيقونة بصرية في خدمة الخطاب الثوري. ونعرف أن هذا الماضي السياسي قد أعطى الفنان شرعية فنية ورمزية عند بونابرت الذي كان في حاجة إلى رسام يجيد صناعة الأسطورة كما يجيد رسم التفاصيل. غير أن انتقال ديفيد من الثورة إلى خدمة الإمبراطورية لم يكن انقلاباً في الولاء، بقدر ما كان امتداداً لمنطقه الفني.

فالنيوكلاسيكية التي اعتمدها تقوم على تمجيد البطولة والانضباط والقيم الرومانية القديمة، وهي القيم نفسها التي أراد نابليون أن يضع ذاته في صلبها. وكان ديفيد يعرف هذا، ويدرك أن اللحظة المقبلة ستحتاج إلى صياغة بصرية جديدة لا تقل قوة عن الصياغة التي رافقت الثورة.

الإمبراطور كأسطورة

والحال أن نابليون لم يكن مجرد قائد عسكري في نظر ديفيد، كان مادة درامية قابلة للتضخيم، رجلاً يصنع التاريخ ويسعى لكتابته في الوقت نفسه. وهنا كان دور ديفيد حيوياً: لقد فهم ما الذي يريده سيده وعرف كيف يقدم له صورة تتجاوز الواقع نحو المثال. فمثلاً في لوحة "نابليون يعبر جبال الألب" تظهر براعة ديفيد في صناعة الأسطورة بأكثر مما يفعل تصويره للواقع. في هذه اللوحة لا يقدم عبور بونابرت الحقيقي للجبال، والذي لم يكن في الواقع أكثر من ركوب متواضع على بغل، بل تقدم عبور الفاتح الذي يواجه الطبيعة بثبات. يرفرف الرداء الذي يرتديه في الريح، ويستند القائد على صهوة جواد هائج، ويشير إلى الأمام بثقة المتحكم بالمصير. ويكتب ديفيد على الصخور أسماء هانيبال وشارلماني، في إشارة رمزية إلى أن نابليون إنما يواصل سيرة الفاتحين الكبار.

 

بهذا لا يعود بونابرت مجرد جنرال ناجح، بل أصبح في عين الجمهور وريثاً لتاريخ الإمبراطوريات. وتبلغ علاقة ديفيد بنابليون ذروتها في لوحة "تتويج نابليون" "إحدى أضخم لوحات القرن الـ19 وأكثرها طموحاً"، في نظر المؤرخين. في هذه اللوحة لم يكن على ديفيد أن يرسم مشهد التتويج فحسب، بل إن يعيد تركيب مشهد ميلاد الإمبراطورية. ولقد بدا المشهد مركباً في نهاية الأمر، بعناية شبه مسرحية، حيث نرى نابليون في لحظة ديناميكية يمسك فيها التاج بيده، لا ليتوج نفسه فحسب، بل ليمنح الشرعية الإلهية للكيان الجديد الذي يؤسسه.

في صدارة الحدث

هنا، على عكس لوحات التتويج الكلاسيكية، حيث يكون الملك مستسلماً للطقس الكنسي، يضع ديفيد نابليون في صدارة الحدث كفاعل لا مفعول به. حتى البابا ببوس السابع الموجود في اللوحة، يبدو أقرب إلى شاهد صامت، منه إلى مرجع يمنح السلطة. وبهذا التكوين يكثف ديفيد الفكرة الأساسية لنابليون: السلطة تكتسب بالفعل والإرادة، لا بالطقوس الدينية وحدها. أما جماليات اللوحة كالضوء واستخدامه وتوزيع الشخصيات والخلفية المبهرة، فهي هنا لتخدم هدفاً سياسياً واضحاً: تحويل التتويج الملكي إلى سرد ملحمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه ديفيد يكمن في التوفيق بين رغبة نابليون في تمجيد نفسه، وبين التقاليد الفنية النيوكلاسيكية التي كانت تأبى سلوك درب المبالغة في أية صورة من الأشكال، لكن الفنان نجح حقاً في تقديم لوحة تفلت من الوقوع في فخ الدعاية المباشرة، بل تستفيد من رموز الماضي لتؤسس خطاباً سلطوياً جديداً... ويقيناً أنه لن يكون من المغالاة القول هنا، إن كثيراً من الصور التي نعرفها اليوم عن نابليون تعود إلى ديفيد وليس إلى المؤرخين المعاصرين. فالصورة، وبخاصة إن كانت في عصر ما قبل الصورة الفوتوغرافية، كانت الوسيلة الأساسية لترسيخ الحكم. لقد فهم نابليون هذا الأمر جيداً، مدركاً أن التحكم في المخيلة الجماعية جزء من التحكم بالبلاد والعباد.

بين الزعيم والفنان

مهما يكن من أمر فإن العلاقة بين ديفيد ونابليون لم تكن مجرد علاقة فنان براعيه، بل كان هناك قدر لا بأس به من الإعجاب الشخصي، لكنه يتضافر مع قدر آخر من الحذر السياسي. فديفيد كان يعرف أن الأزمنة تتغير وأن دعمه نابليون ليس خياراً جمالياً فحسب، بل خياراً وجودياً. أما نابليون فكان يرى في ديفيد فناناً قادراً على صياغة صورة لا يمكن لدعاة عودة النظام القديم أو أنصار الجمهورية من خصومه المباشرين، منافستها. وعلى رغم ذلك ظل ديفيد فناناً ذا استقلالية نسبية، لم يكن مجرد منفذ لأوامر سياسية، بل كان يمتلك تصوراً خاصاً لكيف يجب أن يظهر نابليون أمام العالم. كان يريد أن يراه كما يرى الأبطال القدامى الذين درسهم في روما: رجل دولة، قائد جيش وحامي مصير. لذا لم تخلص العلاقة من التوتر، وبخاصة حين كان الإمبراطور يطلب من الفنان إجراء تعديلات لا يمكن لهذا الأخير القبول بها بسهولة.

المزيد من ثقافة