Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مرحبا دولة"... خدش الحياء السياسي على الشاشة

المسلسل اللبناني رفع سقف انتقاد السلطة والمؤسسات الأمنية في الدراما وفضح الطائفية ونجومه حققوا شعبية استثنائية في مصر

"مرحبا دولة" دراما لبنانية استقطبت الجمهور المصري (مواقع التواصل)

ملخص

المسلسل اللبناني السياسي الساخر "مرحبا دولة" حقق نجاحاً كبيراً، بموازنة بسيطة وبفريق من الممثلين المغمورين أو الذين كانوا مغمورين، حيث يتناول العمل موضوعات مثل الطائفية والتبعية السياسية، ويستعرض فساد رجال الشرطة في لبنان بل ويطرح تساؤلات حول سيادة الدولة، في المقابل أيضاً يبدو العمل متأثراً بشدة بالدراما والفنون المصرية بشكل عام

يحضر المسلسل اللبناني "مرحبا دولة" في مشهد الدراما هذه السنة، وكأنه استفاقة تأخرت كثيراً، إذ يعد حدثاً كبيراً على مستوى الفكرة والتناول وسقف الحرية، وقبل ذلك النص والأداء. يعده كثر مسلسل العام السياسي في العالم العربي، بعد وقت طويل من الركود في هذا الجانب، فقد نجح صناعه في نقل حرية ورشاقة و"تجاوز" عالم الـ"ستاند آب كوميدي" إلى حقل الدراما المعروضة على المحطات التلفزيونية التي تدخل البيوت، مع محاولات طفيفة للتشذيب بما تتحمله الشاشات.

هذا الفن الذي تصنفه كثير من المؤسسات في المنطقة أحد فنون الهامش التي لا تتسع لها قوالب وعقول الهيئات الرقابية، بالنسبة إلى أبناء الجيل الحالي متنفساً ومنفذاً بديلاً، لكن نجوم هذا العمل الذي وجد صدى كبيراً، لا سيما في مصر، نجحوا في أن يحولوا فنون الهامش البديلة إلى صدارة الموقف، بموهبة وحضور وذكاء مدعوم بالاطلاع والثقافة، وقبل كل ذلك التخلص من الآفة التي باتت تحاصر كثيراً من التجارب أخيراً وهي "الرقابة الذاتية" المسؤولة عن تشويه أعمال مبدعين عديدين على رغم عنهم رضوخاً للمناخ السائد.

منطقة لم يقترب منها إلا نادراً في الدراما العربية، لا سيما على النحو الذي شاهدناها في العمل، إذ يتطرق السيناريو الذي كتبه وأخرجه وأدى بطولته أيضاً محمد دايخ إلى موظفين يمثلون الدولة في قسم شرطة صغير، بلا إمكانات تقريباً، هم يمثلون السلطة نفسها بكل مشتملاتها وأمراضها، قسم الشرطة أو الفصيلة، يصبح مسرحاً ثرياً لأحداث واستعراض علاقة المواطن بمن يحميه أو بمن يفترض أن يحميه!

تشهد العبثية ذروتها في طريقة تعامل موظفي الفصيلة مع الجرائم التي تردهم يومياً وبعضها شديد الغرائبية وأخرى شديدة البساطة، ومع ذلك يرتبكون أمامها وفي كل مرة يبدو أنهم لا يتبعون لوائح أو كتيباً معيناً للتصرف القانوني، إنما يرتجلون دوماً ويبتكرون حلولاً، وكأنه لا أحد يحاسبهم، رشوة، وعنف مفرط تجاه المتهمين، وأحكام أخلاقية، ومع ذلك لا يتمادى السيناريو أبداً في منطقة اللوم والهجوم، على طائفة أو جهة، فلا أحد سينجو من المساءلة في هذا النص، الذي تقدم حلقاته على طريقة "يا عزيزي كلنا لصوص"، فإذا كان الجهاز الرسمي فاسداً بكل مؤسساته بما فيها القضاء كما يشير أحد المتهمين "الواصلين" بالحلقات، فإن المواطن نفسه الذي يعتنق الطائفية وليس الأديان متورطاً أيضاً!

تجربة جريئة وتبرؤ من "الفتنة"

المسلسل على مدى موسمين حظي بمشاهدة واسعة، لكن مع التدقيق الشديد الذي رافق الضجة التي أحدثها العمل في موسمه الثاني اضطرت المحطة العارضة إلى وضع تنويه في بعض حلقاته للتبرؤ من أي اتهامات بالانتقاص من الأديان قد توجه إلى فريق العمل، إذ جاءت الحبكة معتمدة على التصارع والتناكف بين القس والشيخ في قرية رف الحمام، التي دارت بها الأحداث بعد نقل مقر الفصيلة.

المسلسل الذي شوهدت كل حلقة ملايين المرات عبر "يوتيوب"، حيث يعرض مجاناً، نجح بموازنة متواضعة وبلاتوهات تصوير محدودة للغاية مستوحاة من الفضاءات المسرحية حيث يعلم أبطاله جيداً كيف يصولون ويجولون في مساحات قليلة قوية التأثير والسحر، وطاقم تمثيلي لم يكونوا معروفين بصورة جيدة عربياً، والكثير من المقدرة على التقاط مشاعر وقضايا الناس، أن يحرج قائمة طويلة من أصحاب المشروعات الدرامية الذين لا يحسنون الاستماع إلى شكوى الجمهور في هذه المنطقة المضطربة، فيغردون بلغة أخرى، وكأنهم يخاطبون مواطناً من الفضاء.

 

بالعودة إلى محمد دايخ فقد كانت له تجارب تلفزيونية برامجية ساخرة سابقاً مثل "تعا قلو بيزعل"، الذي يعد بمثابة إرهاصة لفكرة "مرحبا دولة" بصورة عامة، لكنه أيضاً قدم دراما جادة وتراجيدية، إن جاز التعبير، مثل مسلسل "تشويش"، وفيلم "هردبشت"، إضافة إلى تجارب مسرحية لافتة وعروض كوميديا بصحبة جناحيه اللذين يحلق بهما حسين قاووق وحسين دايخ، وهما من بين أهم عناصر المسلسل، إضافة إلى محمد عبدو في دور فاروق السوري، ومهدي دايخ في شخصية بيضون وزوزو ياسين بدور مرزوق، لذا فجميعهم كانوا مدينين لهذا العمل بأن منح موهبتهم ما تستحقه.

الطائفية والنازية على طريقة "ماذا لو"

المسلسل استعرض كثيراً من القضايا الشائكة بطريقة "ماذا لو"، وأبرزها ماذا لو عاد شبح الحرب الأهلية في لبنان من جديد؟ محذراً من دون ثرثرة من مغبة تغذية الاستقطاب الحادث بالمجتمع، كما دأب العمل على كسر الجدار الرابع بصفة مستمرة، وهي صفة أخرى جاءت من عالم العروض الكوميدية، حيث يتحدث بطله دوماً إلى الكاميرا ليوضح موقفاً ما بشكل سريع، مخاطباً الجمهور في لقطات لماحة، وشديدة الجرأة فيخرج المشهد لا تنقصه العبثية ولا الصدقية في نفس الآن، فالتوتر والارتباك هنا يشبها الواقع الاجتماعي السياسي ليس لبنانياً فحسب، لكن كثيراً من المناطق المحيطة.

 

يكشف العمل من طريقته المفضلة في انتقاد الظواهر السلبية، وهي الحديث عنها ببساطة ومن دون مواربة، ففاروق السوري يصبح لقبة وكأنه سبة، يتعرض للتنمر والاضطهاد والعنصرية، لأنه يتحدث اللهجة السورية بسبب نشأته حتى لو كان لبناني الجنسية، وكذلك يعاني اللبناني نفسه أيضاً صورة نمطية سلبية وتعميمات فاضحة، فيما هو يقاتل يومياً على رغم عنه بحثاً عن منفذ أمل أو مكسب أو متعة ما. كذلك لم تسلم الطوائف الدينية والحزبية من الصفعة الدرامية. انتقادات لاذعة وقاسية لاستغلال الشعب بحجة الدين والوطنية، بينما يجري التشكيك في سيادة الدولة نفسها وكونها سيدة قرارها بلا مواربة!

وفي حين أن الريس عاطف هو المحرك الرئيس للأحداث بأداء مبهر وسلس، يحضر بدري العس نجماً ساطعاً يخطف الكاميرا والأسماع بعبارته الشهيرة "مرحبا ريس كيف الحال شو الأخبار كله تمااام"، إنها الشخصية الأكثر عبثية وبهجة وقتامة، الشرطي العنيف الباحث عن مجد "ألماني"، الذي يعلق صورة هتلر وأيقوناته النازية بوضوح في قسم الشرطة، ويعده نموذجاً مثالياً، إذ إن طريقة العسكري بدري في تخطي كل تلك الأزمات هي العنف، الذي يصل ذروته بالتعبير عن أمنيته بأن يطيح الشعب كله، ويقضي عليه، لأنه لم يعد قابلاً للإصلاح.

فرص مستحقة ونجومية عابرة للحدود

هذا المنطق المغلوط شديد الشذوذ يعبر عن سخرية سوداء من الفشل المتكرر في تحقيق أي إنجاز اقتصادي أو سياسي أو مجتمعي وفقاً لما يرى أبطال العمل، وبأداء يحمل بعض ملامح الفنان المصري محمد سعد في دور "كتكوت أبو الليل" في الفيلم المصري الذي عرض قبل نحو عقدين من الزمان، بات حسين قاووق واحداً من أهم أذرع النجاح في هذا العمل، ومعه حسين دايخ "زهير" الذي يمثل كثيراً من العضلات، ويحاول أن يعثر على مخه بين حين وآخر، فيما بيضون صوت العقل الهادئ كان ينبغي أن يكون حضوره أكبر من هذا، لا سيما في الموسم الثاني، ومثلما تميزت شيرين الحاج "عبير" كعنصر تماثي أساس وحيد في الموسم الأول، جاءت ترف التقي بشخصية أعمق تأثيراً، حيث شكلت ثنائيتها مع الريس الدرامية عنصراً لافتاً في الحلقات، وأثبتت التقي ابنة النجمة صباح الجزائري أنها ربما وجدت نفسها أخيراً لتخرج طاقتها الفنية من خلال شخصية حادة خفيفة الحضور مثل شخصية ليلى صاحبة المقهى.

هذا المسلسل الذي التف حوله الجمهور وأعاد للدراما السياسية وهجها ذكر المشاهد بأن هناك نوعاً مختلفاً من القصص أكثر واقعية حتى لو كانت فكاهية وكاريكاتيرية، وأن المسرح السياسي مشروع يمكن أن يعاد إحياؤه من جديد بألوان فنية شتى قد تكون عروضاً درامية على الخشبة أو عبر الشاشات، كما منح صناعه خلف وأمام الكاميرا مساحة كانوا يستحقونها بجدارة، تمثلت في استقبال حار لجولتهم الممتدة منذ أسابيع طويلة "لفي بينا يا دنيا"، التي تنفد تذاكرها فور طرحها، مثلما حدث خلال محطتهم المصرية.

 

وفي ما يتعلق بعنوان الجولة نفسها، فمن الواضح التأثر الكبير بالإنتاجات الفنية المصرية، إذ اختاروا اسم الجولة من أغنية المطربة الشعبية بوسي التي كانت محطة انطلاقتها، فيما حضورهم المصري شهد حفاوة من الجماهير الذين توافدوا وملأوا المسرح، إضافة إلى النجوم الذين حرصوا على الاستمتاع بالعرض الكوميدي الاجتماعي السياسي، بينهم نيللي كريم وأحمد فهمي ومصطفى غريب، ومصطفى خاطر ومحمود الليثي، وغيرهم.

لكن التأثر بالثقافة المصرية كان واضحاً منذ أول لحظة في شارة الحلقة الأولى، التي اختاروا لها الموسيقى التصويرية لمسلسل الجاسوسية الأشهر "رأفت الهجان" التي وضعها عمر الشريعي للعمل الذي أدى بطولته محمود عبدالعزيز ويوسف شعبان وأخرجه يحيى العلمي نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

ترحيب مصري 

وخلال الأحداث يردد الفنانون الأغنيات المصرية بصورة مستمرة لعبدالحليم وأم كلثوم وتامر عاشور وحكيم، وقد أصبحت رغبتهم في ضرب محمد رمضان مثار تندر كبير، كذلك لم يفتهم إرسال تحية لصناع فيلم "إبراهيم الأبيض"، فيما كانت ذروة هذا التأثر في الحلقة الرابعة من الموسم الثاني، التي تحولوا فيها للهجة المصرية بصورة مفاجئة بعد إصابتهم بلعنة الفراعنة، مع كثير من المشاهد الأيقونية التي تحولت إلى ميمز اجتاحت حسابات المصريين على السوشيال ميديا، إذ قلما ما يتأثرون بعمل كوميدي بغير لهجتهم إلى هذه الدرجة.

التقدير الذي رافق صناع "مرحبا دولة" أينما حلو لا يمكن اختصار أسبابه بسهولة، قد يكون بعض منها امتلاكهم ناصية هذا الحس الساخر بمرارة، وهذه النباهة في التندر على الخطايا التي يرتكبها المسؤولون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن الضرورة الدرامية حتمت أن يكون السيناريو منصفاً في قصف الجبهات، وأن يقسم إدانته على الجميع، فالكل مدان وفاسد وفي حاجة إلى التقويم على طريقة "يا عزيزي كلنا لصوص"، فبدا أبطاله وكأنهم يتبادلون مقعد محامي الشيطان في ما بينهم.هذه التجربة التي بدت شديدة النضج ليست وليدة المصادفة فهي تأتي نتاج خبرات مسرحية مستمرة وثقافة عامة قوية ورأي حر جعل صناع المسلسل في مهب الاتهامات والقضايا وبالطبع تهمة التحريض ضد المؤسسات الدينية وقيم المجتمع على رأس القائمة.

لكن هذا التجرؤ على وجه التحديد هو الذي صنع خصوصية وزخم التجربة، وجعل نجومها يلمعون مع أول فرصة للظهور الكبير، ومع ذلك لا يزالون يفضلون مخاطبة محبيهم بصورة أكبر عبر الإعلام البديل على المنصات بعيداً من المؤسسات الرسمية الصارمة القواعد، فمن يتحمل أن يحمل ضيفه كل هذا البريق والذهن الحاضر الذي لا يتردد في السخرية من المقدم نفسه إذا ما جاءت أسئلته ساذجة أو في غير محلها، وهي أمور تتكرر كثيراً حتى في أشهر برامج الحوارات المدعومة مؤسساتياً، كذلك من سيحتمل أن يضع في برنامجه كل هذا الكم من صافرات كتم السباب؟! وهي عادة فريق المسلسل المستمدة من فضاءات العروض الحية المباشرة البعيدة من أعين الرقباء.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون