ملخص
في روايته "حامل مفتاح المدينة"، يرصد الكاتب المصري المقيم في نيويورك أسامة علام، رحلة نفسية لطبيب بيطري مهاجر، يسعى خلالها لاستعادة التوازن الداخلي والعثور على الخلاص، عبر إحياء قيم إنسانية اغتالتها الحداثة.
في نيويورك التي لم تتوقف عن إعادة تعريف ذاتها: مدينة المهاجرين ذات الروح المتعددة، مدينة المفارقات، والممكن، واللامعقول، تتحرك شخوص رواية "حامل مفتاح المدينة" (دار الشروق – القاهرة) للكاتب المصري "أسامة علام". تراوح أجواء الرواية بين الواقعية والفانتازيا. وتدور أحداثها حول طبيب بيطري مصري "شهاب"، ينتقل للعمل في نيويورك. يستأجر شقة في أحد أحياء المدينة، ثم يكتشف أن بإمكان مفتاحها فتح كل الأبواب، ليدرك أن خلف كل باب منها، ثمة قصة، ووحدة، وشخص يحتاج إلى المساعدة.
يتكشف مع بداية السرد، قرار الكاتب، اللجوء للاقتصاد الفني، والتخلي عن كل صور الزخرفة السردية، والولوج المباشر- منتهجاً أسلوب السرد الذاتي- إلى قلب الأحداث، لضمان جذب القارئ، وتشويقه، وربطه بالنص منذ اللحظة الأولى. فشرع سرده بالإشارة إلى رغبة مالك الشقة في التخلص السريع من مفتاحها، كتوطئة لما سيقود إليه هذا المفتاح من مشكلات. كما مهد عبر وصف المفتاح، إلى غلالة من فانتازيا تغلف اللاحق من الأحداث، "اللافت للنظر قليلاً وسبب غرابة المفتاح هو، أنه قديم جداً ومنحوت عليه اسم المدينة (نيويورك) بحروف محا بعضها الزمن وكثرة الاستعمال. من أيام اكتشفت مصادفة أن المفتاح يفتح كل شيء تقريباً، باب العيادة، باب محل المقهى المجاور للعيادة، باب شقة الجيران المقابل لشقتي، وحتى الخزانة الكبيرة غالية الثمن التي في العيادة".
مفارقات ودلالات
لم يتوقف دور الوصف على تعزيز الفانتازيا، أو بناء المشاهد البصرية، وإنما وظفه الكاتب في دعم التوتر الدرامي وتحريك الأحداث. وطوعه كأداة جمالية، أسهمت في تشكيل البنية الرمزية داخل النص. واستثمر دلالاته لتمرير مفارقات درامية وتأملات فلسفية. فعمد مع تسلل بطله لبيت جاره العجوز إلى وصف البيت، وما يحويه من مظاهر الفخامة والثراء، والروائح المتناقضة بين الطيب والسيئ، وزجاجة العطر المهشمة. ووصف ما يحويه الحائط من صور، تجسد ذكريات الجار في شبابه. وتوثق وسامته والتفاف الحسناوات حوله، وتبرز ما كان له من هيبة وقوة. وأتاح الوصف في هذا الموضع السردي، تمرير مفارقة درامية تكشفت مع عثور البطل على جثة جاره متحللة. إذ تجاور ماضي الرجل وحاضره، سعادته وشقاؤه، قوته وضعفه، شبابه الصاخب الذي قضاه محبوباً، محاطاً بالآخرين، وموته الصامت مكبلاً بالوحدة والانتظار.
وحملت هذه المفارقة رؤى وجودية أحالت إلى عبثية الحياة أمام حتمية الفناء، وزيف الثراء أمام هشاشة الوجود. كذلك بدت الدلالات الرمزية ذاتها، في وصف المطعم الفخم بحي تسكنه غالبية من الطبقة المتوسطة والمهاجرين "كوينز"، إذ أحال الوصف إلى مفارقة مكانية، أبرزت بدورها تناقضات المجتمع، الهوة الطبقية، واختلال التوازن الاجتماعي داخل المدينة. وأحال وصف المدينة إلى القلق، الكبت، وضياع المعنى تحت قشرة الحداثة "نيويورك مدينة لا تنام حرفياً، مدينة تمشي على أعصابها، مدينة سريعة الاشتعال والغضب، على رغم أن الكل هنا يدير المعارك بالصياح والصوت العالي من دون أن يلمس العدو".
لمحات معرفية
إلى جانب الوصف الحسي لنيويورك، استدعى الكاتب بعض المعارف حول جغرافيتها وتسميتها التفاحة، تركيبتها السكانية، نزوع أهلها لحمل السلاح، وكذلك مشكلاتها الاجتماعية، "يستشيرونني في مسائل طبية أحاول حلها بأدوية من عيادتي البيطرية، لأنهم بلا تأمين صحي في بلد لا يعالج الفقراء، سوى في الحالات الطبية الحرجة" ص 138. كما استدعى معارف قانونية تتصل بقانون الولاية، ومعارف تاريخية حول مقاطعة كيبيك الكندية. وتمكن عبر هذه المعارف من تعزيز صدقية وواقعية عالمه الروائي، ودعم تماسكه.
كذلك استدعى حمولات معرفية عن الحيوانات مثل الدببة والأفيال، واتسق استدعاء تلك المعارف مع مهنة البطل التي بررت أيضاً حضور الحيوان، فانتازياً وواقعياً، وتوظيفه لتمرير مزيد من المفارقات والرموز والقضايا، وفضح النفاق الإنساني والاجتماعي، وازدواجية المجتمع الذي يدعي الرفق بالحيوان بينما لا يعبأ بالبشر، "هؤلاء الذين يدعون أن الحيوانات تعذب في السيرك لا يعرفون عن حياتنا شيئاً. جمعيات الرفق بالحيوان تتحدث عن الألم والعقاب في أثناء التدريب، تتحدث أيضاً عن الحبس والأقفاص الضيقة، لكنهم يصفقون بفرح لي عندما ألف معلقة من شعري في حبل، بعيدة عشرات الأمتار عن الأرض، من دون أن يتحدث أحدهم عن الألم الذي يحدث لي عندما أسقط" ص 90. وكما كان الحيوان جزءاً من مفارقة كشفت التعاطف السطحي، واستخفاف البشر بعضهم بآلام بعض، كان أيضاً جزءاً من مفارقات حملت دلالات أخرى.
أحالت مفارقة تعاقب موت "أنطوان" وولادة الأشبال في السيرك، إلى ديمومة الحياة وصيرورتها على رغم كل تناقضاتها الصارخة. وهي القضية الفلسفية الأبرز، التي طرقها الكاتب مراراً، صراحة وضمناً، فتجلت في كراهية للمدينة وحب لسكانها، زحام الروائح وتجاور الثمين منها والرخيص، الطيب والقبيح، امتلاك أحد الشخوص الثانوية "ماكس" لجسد عملاق ووجه طفولي، وملاصقة بذلة العزاء، لبذلة المهرج داخل خزانة واحدة.
الأنا والظل
على رغم بروز المستوى الخارجي للصراع، الذي اندلع بين "فرنسيسكا"، وأفراد عائلة "نزار"، ومرة أخرى بينهم وبين ابن فرنسيسكا "ميتيريتو"، وبين العاملين بالسيرك وقوانين الولاية. وبدا أيضاً في طبائع سكان المدينة سريعي الغضب والاشتعال، فإن الصراع الداخلي كان أشد وقعاً وحضوراً، بخاصة في دواخل البطل الذي تأرجح بين أناه وظله، بين التزامه بالقواعد الاجتماعية، وشهوة الفضول التي دفعته للمغامرة، واستخدام مفتاحه العجيب في التسلل إلى بيوت الآخرين. بين عقله الذي يعي مأزق معالجة لبؤة السيرك، وعاطفته التي دفعته للتورط فيما يخالف قانون الولاية. بين إقدامه على المساعدة، ونأيه بنفسه، أو ندمه عند تعرضه للخداع. ولم يتجل الظل النفسي لدى البطل وحده، بل ظهر لدى بعض الشخوص الثانوية، فبدا في أكاذيب "أنطوان" وخداعه، في حب المال، الذي دفع بأبناء نزار لممارسة ألوان من القسوة على أبيهم، وعلى فرنسيسكا، وابنها، وفي غضب "ميتيريتو" المكبوت، ونقمته على الجميع، بعدما فقد أمه وماله، وعاش حياة البؤس والتشرد.
وعبر عوالم الأنا والظل، رصد الكاتب عديداً من الإشكاليات ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، مثل التقدم بالعمر، الوحدة، الفقد، والحنين، الموت الرحيم، عنصرية الرجل الأبيض، التشدد وعدم قبول الآخر، الأجندات الإعلامية والدعائية الموجهة، التفاوت الطبقي، الرأسمالية وتروسها التي تسحق المهمشين. كما طرح قضية الهوية، وانتماء أبناء المهاجرين لمجتمعهم الجديد، لا لآبائهم، "يكمل بحسرة هو ابن أميركا وليس ابنه. يعلم أنه لا سلطة له عليه، هذا ما يعلمونه هنا للأولاد والبنات في المدرسة بعيداً من عيون الأب والأم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسفر طرح هذه القضايا، ومحاولة الكاتب الغوص في أغوار النفس الإنسانية، عن بروز أطياف من الحنين، للماضي والوطن والجذور، لألوان من الفنون أوشكت على التواري والاندثار، مثل عروض السيرك، وعرائس الماريونيت، لحياة بكر لم تفسدها الحداثة، ولم ينل منها الفقد، والمرارة، والغضب. لكن "علام" حرص على أن يستدعي إلى جانب النوستالجيا للماضي، نزوعاً حكمياً، يسوغ الواقع الراهن ويوطنه، فأبرز حقيقة الحب التي لا تنتهي بالتقادم، وطبيعة الحياة التي لا يمكن وسمها بكونها قاسية جداً، أو طيبة للغاية.
نافذة على اللاوعي
عمد الكاتب لسبر أغوار النفس الإنسانية، تارة عبر المونولوغ الداخلي، وتارة عبر الرسائل الورقية، التي أتاحت لأحد الشخوص الثانوية "ميتيريتو/ المشرد"، مساحة واسعة من البوح. وعكس عبر بنائها التقليدي طيفاً آخر من أطياف النوستالجيا والحنين. وعمد إلى بترها واستكمال مضمونها في رسائل تلتها، للدفع بجرعات من التشويق إلى النص. وبرر هذا الحضور التقليدي للرسائل، فقر المشرد، وعدم قدرته على امتلاك هاتف نقال. أما أحلام "شهاب" فكانت نافذة على اللاوعي، تكرر فيها ظهور والده، فبدا حضوره الأول كصدى روحي لمحاولات البحث عن معنى. وأحال إلى شعور البطل بالوحدة، والإنهاك النفسي، ورغبته في بلوغ التوازن الداخلي من خلال استدعاء مرجعياته، واستعادة قيم غائبة عن واقعه المضطرب. ومهد هذا الحلم لممارسة البطل خلاصه الفردي عبر مساعدة الآخرين.
كذلك كان حلمه في بداية السرد بدبين ضخمين يتصارعان بوحشية، بينما دب صغير يجري معه بعيداً من المعركة، فيشعر تجاهه بالمسؤولية، ويحاول إنقاذه، إشارة رمزية مهدت لحالة الصراع الداخلي، التي رافقته طوال رحلة السرد، والتي انقسم خلالها بين عقله وعاطفته، وربما ماضيه وحاضره، أو قيمه وغرائزه. وإشارة في الوقت نفسه لمحاولاته الحفاظ على براءته، أو جانبه الطفولي، ونزوعه البطولي، الذي دفعه في اللاحق من الأحداث، للاستجابة لكل من سأله العون. أما الحلم الأخير الذي عاد فيه الأب مبتسماً وفخوراً، ثم تحول إلى حمامة بيضاء فردت جناحيها وطارت، فأحال إلى بلوغ الشخصية المحورية غايتها في تحقيق التوازن، واكتمال رحلتها الداخلية. وفضلاً عن دور الأحلام في كشف المكبوت، وتوظيف الكاتب لها كأداة إضاءة باطنية، كانت رافداً للفانتازيا، إذ سمحت بخلخلة المنطق والبنية الزمنية. وأسهم تضافر الخيال مع النفس الواقعي للسرد، في إبراز ثيمة رئيسة، تمثلت في إحياء قيم إنسانية، مثل التعاطف، ومساعدة الآخر، لا كخيار أخلاقي، وإنما كضرورة وجودية.