Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طانيوس شاهين… من فلاح ثائر إلى شخصية روائية

رواية تاريخية تسترجع أبرز ثورة شعبية ضد الاقطاع عرفها لبنان في القرن الـ19

التعليم تحت السنديانة في قرية لبنانية في القرن التاسع عشر (سوشيل ميديا)

ملخص

"طانيوس شاهين، ماذا فعلت لأستحق هذا؟" رواية للكاتب اللبناني حسان الزين (1969) صدرت حديثاً عن دار رياض الريس. ولعل هذه الرواية التاريخية تثبت أن هذا النوع الفرعي، من الاتجاهات الروائية، لم ينقض ما دام الإنسان يحتاج دوماً إلى مساءلة ماضيه، والإضاءة على جوانب منه جديرة بمعاودة النظر والاعتبار منها لتغيير ما يمكن تغييره، إحقاقاً لكرامة الإنسان، ونقضاً للتمييز الطبقي بين المواطنين.

يقول جورج لوكاش، في مستهل كتابه عن الرواية التاريخية ما مفاده: "أن المرء حين يلتفت إلى الماضي، فما يهمه بالضرورة، هو انتقاد ما لم يكن معقولاً على ضوء فلسفة الأنوار. والثابت أن استعادة الماضي، في الرواية التاريخية عندنا، في المشرق العربي، منذ أن درجت أواسط القرن الـ19، مع سليم البستاني، ومن بعده العلامة جرجي زيدان، لم تخالف الغاية المشار إليها أعلاه، وعنيت بها، الاعتبار من دروس الماضي، والتركيز على القيم الإيجابية المستفادة منها، لبناء الحاضر والمستقبل، على نحو سليم.

لئن كان الكاتب اللبناني حسان الزين انضوى، بروايته "طانيوس شاهين، ماذا فعلت لأستحق هذا؟"، في سلك نوع الرواية التاريخية العام، من حيث اختيار موضوعها ومادتها التاريخية الموثوقة، أي أشمل ثورة يقوم بها الفلاحون في جبل لبنان، ضد الإقطاع، منتصف القرن الـ19، فإنه تميز عن كتاب الرواية التاريخية من مواطنيه الراحلين، باشتغاله على الفن الروائي بذاته كما انتهى إليه في العشرية الثالثة من القرن الـ21، واعتباره مكونات الرواية وأساليبها مهمة بمقدار المعلومات التاريخية التي قضى ثلاثة أعوام كاملة يتقصاها من المراجع التاريخية العائدة إلى تلك المرحلة. وهذا لعمري ما لم يعمل به كتاب الرواية الرواد، فعلى سبيل المثال، جعل سليم البستاني من إشارات مكانية ضئيلة إطاراً لروايته كافيا، في ظنه، لجريان الأحداث فيها، في حين ضخم الحوارات بين الملكة وأبنائها، وبنتيها، وبين شخصيات معينة لهم، لإثبات وجهات نظر أخلاقية بحتة، ترتبط بحب الوطن، والوفاء للملكة، والاعتزاز بالغنى الحضاري المشرقي، وإن أفضى مسار الأحداث إلى احتلال الإسكندر الكبير مدينة تدمر، واقتياد الملكة زنوبيا أسيرة ذليلة إلى روما!

الحكاية الأصلية

يتفق المؤرخون على أن ثمة شخصية واقعية سجل وجودها في تاريخ لبنان الحديث، أواسط القرن الـ19، يدعى طانيوس شاهين، وهو رجل عامي من آل سعادة، وقد عرف بطانيوس شاهين، نسبة إلى أبيه الذي قتله بشارة جفال الخازن، من إحدى العائلات الإقطاعية السبع بجبل لبنان، بحجة التجرؤ على تحيته، وتجاوزه حدود اللياقات الاجتماعية، كون شاهين فلاحاً، والآخر إقطاعياً. وذلك بأن دعي شاهين إلى شرب القهوة المسمومة في دار الأخير، الخازن. والحال أن أحداث الرواية تكاد تكون سيرة الآخر وبلسانه، وإن يكن زمنها مقتصراً على الجزء الحاسم من تاريخ هذه الشخصية، من الطفولة، إلى الفتوة، والشباب، فصعود نجم المكاري طانيوس شاهين، وتمكنه من توثيق صلاته بالناس الفقراء من بلدته ريفون، ومن سائر القرى والبلدات التي كان يمر بها ناقلاً الأمانات ومتاجراً، إن اقتضى الأمر، حتى كثرت موارده، واطمأن لحاله. وأياً يكن من أمر زواجه متأخراً، وعدم إنجابه أولاداً لعلة في أحد الزوجين، فإن مقتل أبيه ظلماً، على يد أحد الإقطاعيين، وعيشه مأساة يتمه صغيراً، حفرا في نفسه طويلاً، وحفزاه على الانتقام له، حالما يصير ذلك مناسباً. وحدث أن فرض الحاكم العثماني على الأمراء دفع ضريبتين في الآن نفسه، أوجبت على الأمراء أن يلزموا الإقطاعيين (المقاطعجية) استيفاء هاتين الضريبتين من العامة، الفقراء والمعدمين، والغارقين في الديون، فوق ما يعانونه من استبداد الإقطاعيين، وتمييزهم الطبقي البغيض.

عندئذ، تعالت أصوات العامة، على رغم حملات التهديد التي أطلقها المقاطعجيون، ورجالهم من عائلتي الخازن وحبيش الإقطاعيتين. ونهض طانيوس شاهين لملاقاتهم، وتنظيم صفوفهم، وحضهم على مواجهة الإقطاعيين، بما ملكت أيديهم من أسلحة، ومن حجة في الرأي، والمطالبة بأن يكون المأمور (أي الوسيط بين الحاكم والعامة) من الأهالي، لا من آل الخازن. ولكن سيرة البطل الشعبي كان لا بد لها أن تنتهي على نحو أقل مأسوية من مصير أبيه، ولكن على قدر من الخيبة كبير. إذ أقدم وكيل السلطنة يوسف بك كرم على مهاجمة طانيوس شاهين، في عقر داره، لإعادته إلى الطاعة. ومع هذا كله أتاحت ثورة طانيوس شاهين القضاء على النظام الإقطاعي في جبل لبنان، لا سيما لدى الموارنة، وبدعم من رجال الدين المتنورين (البطريرك بولس مسعد)، ومن المتعلمين الذين تعاظمت أدوارهم في المجتمع المدني اللبناني، لمنتصف القرن الـ19.

إحياء البطل روائياً

ولكن الوثيقة التاريخية لا تصنع بطلاً، ولا تجعل واقعاً مستعاداً من التاريخ ينبض حياة، وإن ضمنت للكاتب قدراً كبيراً من الأمانة والموثوقية. إنما هي الرواية السيرة (الآخر) التي ينهض لها الكاتب حسان الزين، ويبثها من هذا الخليط الذكي، بين سمات الشخص الواقعية وشذرات كلامه المنقولة عبر سجلات التاريخ، وبين السيناريوات القابلة للتصديق، والمتخيلة، التي من شأنها أن تكمل الفراغات التي تخلفها مدونات التأريخ في انتقائيتها، مرفقة بمناجاة (حوارات ذاتية) تكشف عن طوايا نفسه، مما يجعله كائناً حياً، صاحب فعل وانفعال، وقدرة على مواجهة مصيره، والمساهمة في تحويل مصائر الفلاحين والفقراء من بشر مستعبدين، وخاضعين لتحكم الإقطاعي بالأرض وبفلاحيها.

وأياً يكن مقدار الموثوقية، وهي عالية، في المدونات التاريخية عن شخص طانيوس شاهين، فإن الكاتب حسان الزين أفلح في جعله كائناً، بطلاً ينجذب إليه العامة، في كل مناسبة، لا سيما في الوقفات في وجه رجال الإقطاع، وفي سيرة ترفعه المعروفة وحبه لوالدته وإخوانه وعمله المضني، وهو فتى، في سبيل إعالتهم بعد مقتل أبيه على يد رجال الإقطاع. وهذا شأنه، في علاقته مع الأب اللعازاري ديبير، رئيس دير عين طورا، الذي أبدى حرصه على الموارنة بعامة، من دون الإشارة إلى عائلة الخازن الإقطاعية، وشأنه كذلك في دعمه إقامة الأخويات في القرى، وحسن تواصله مع شيوخ الشباب حيث عينوا، وحضه الأهالي على تعيين من هم أقدر وأشجع على مواجهة رجال الإقطاع، حتى تحقيق المطالب...

حوارات وأمثال

على أن الشيق في الرواية ذلك الجهد الذي بذله الكاتب الزين في اختلاق الحوارات الكثيرة التي جرت بين الشخصية الرئيسة طانيوس شاهين وشخصيات تتفاوت مقاماً ودوراً على امتداد الرواية، من الصبية لوسيا التي صارت زوجته لاحقاً، إلى صالح صفير وهابيل العقيقي وناصيف الخوري شيوخ الشباب (أي ممثلو العامة المحليون) في كسروان، فإلى الأب دبيير الراهب اللعازاري الفرنسي، مروراً بالبطرك (البطريرك) بولس مسعد المنتخب من الأهالي بعدما كان انتخاب البطاركة يحصر في العائلات الإقطاعية السبع، ويقال إنه كان مؤيداً للثورة ضد الإقطاعيين، ومعترضاً على تنكيلهم بأبناء رعاياه الموارنة من الفلاحين والفقراء. وأخيراً، الحوار القاسي والشديد الذي دار بين طانيوس شاهين ويوسف بك كرم الموكل من السلطنة العثمانية القضاء على ثورة الفلاحين، وإعادة الأمور إلى نصابها في الجبل، بعدما عمت الفوضى، وساد التفلت من العقاب، وعمت السرقات بسبب ضيق الحال لدى الغالبية العظمى من الناس.

واللافت في الحوارات هذه أن الكاتب يجهد في استعارة ألسنة المتكلمين، حيناً بالمحكية، وباللهجة الكسروانية تحديداً، أحياناً، لإضفاء الطابع المحلي والواقعي على المحادثة. هذا إذا كان الحوار مباشراً بين شخصين أو أكثر. أما المناجاة، أي الحوارات التي كان يجريها الراوي العليم والوحيد (شاهين) مع ذاته فقد أتت، في غالبيتها بالفصحى القريبة من العامية، ومنها يستعير الكاتب (على لسان الشخصية) بعضاً من التعابير وكثيراً من الأمثال. ولئن نتفق مع الكاتب في تصوره أن طانيوس شاهين الشخصية "العامية"، ما كان يمكن له أن يكون ثقافة ويراكم خبراته الإنسانية إلا عبر لجوئه إلى المخزون الأخلاقي الجماعي الماثل في الأمثال والحكم، فإننا نتساءل عن لزوم استخدامها في كل مفصل، أو مشهد سردي من سيرة البطل. وأياً يكن الأمر، فقد أدت الأمثال وظيفتها، في استكمال صورة الشخصية النموذجية واعتبار صاحبها رجلاً عامياً مدركاً أبعاد تصرفاته ومتفاهماً مع محيطه وجماعته التي تشاركه الخزين الحكمي نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل من حسنات الرواية التاريخية، التي استأنفها حسان الزين، أنها تبسط للقراء غير المتخصصين كثيراً من الوقائع السياسية التي كانت لا تزال متشابكة ومتداخلة في حينه، وقد أعطي للكاتب أن يختزلها، ويقدمها مبسطة وخالية من المصطلحات السياسية. وخير دليل على ما نقول، اضطرار الكاتب إلى تخصيص فصل أو مشهد عنونه بـ"القشة" حيث عرض أهم الأحداث في جوار ريفون، بلدته، في قلب قائمقامية الموارنة، بدءاً من زلزال عام 1836، أول شهر يناير (كانون الثاني)، وما أحدثه من أضرار، وحملة المير بشير لجمع الشباب في أعمال السخرة، وفرض إبراهيم باشا ضرائب عديدة لا يقوى على تحملها السكان الانجبارية أي المساكين الفقراء. وفي الأثناء، تناهى إلى سمعه أن بعضاً من الدول الأوروبية تعمد إلى تدبير إطاحة نظام إبراهيم باشا، من مثل النمسا، وإنجلترا وبروسيا، بمساعدة الدولة العثمانية (العصملية)، وأن إبراهيم باشا عازم على إدخال الشباب المسيحيين في النظامية، أي الجيش النظامي، لرد العدوان المتوقع على حكمه جبل لبنان. ويترتب من هذا الأمر أن المير بشير، وهو ظل إبراهيم باشا ووكيله الضارب بسيفه في القائمقاميتين، سيستشعر بزوال سلطانه. هذا عدا عن بروز التدخلات الأجنبية في الواقع السياسي لجبل لبنان، تبعاً لنظام "تنظيمات" الذي سمح لكل دولة أجنبية أن تحمي إحدى الطوائف، لا سيما فرنسا وإنجلترا والروسيا.

وبعد أن اطمأن الكاتب من اكتمال إحاطته بالإطار السياسي الذي كان يغلف المشهد الكسرواني، حيث اللاعب الرئيس فيه طانيوس شاهين، سمح لنفسه بأن يطلق يده في توقيع الفصول التي يحكي فيها الراوي مراحل تحقيق ثأره من الإقطاعيين، وإنجاز ثورته عليهم، على يد الفلاحين من أبناء كسروان، الثورة التي نزعت من هؤلاء امتيازاتهم في الملكيات، وفي فرض أحكامهم على الناس، في مناسبات الزواج، والعلاقات العامة، وتطبيق قيود التمييز الطبقي، وفرض استبدادهم في الهرمية الاجتماعية، وغيرها، نزعاً لا رجعة فيه. علماً أن ثمة يداً أخرى، بل أياد رفدت تلك الثورة، ويشير إليها الكاتب خطفاً، وهم المتنورون، والمتعلمون الخريجون من مدارس عين ورقا، وغيرها كثير، ومن الرهبان والكهنة الصاعدين من الطبقة الفقيرة، والكتاب وغيرهم.

حدود الخطاب

وثمة أمر آخر ربما مالت إليه قدرة الكاتب حسان الزين، التخييلية والفكرية، في افتراضه أن طانيوس شاهين، إذ استوعب الأفكار الثورية الواصلة إليه، عبر ترجمات الصحافة من الفرنسية، لا سيما تلك المتعلقة في حق الفلاحين في تملك الأرض التي كثيراً ما عملوا على حراثتها وزراعتها والعناية بها. ولكن المدقق في تواريخ الثورات والانتفاضات الفلاحية في بلدان البحر الأبيض المتوسط، يجد أن جبل لبنان كان سباقاً في هذا المجال، بسبب عامل التوعية الثقافية وموجة التعليم الغامرة جبل لبنان، منذ منتصف القرن الـ18، ومؤتمر اللويزة، وشعور عامة الموارنة بضرورة التحرر من قيدين: الذمية، والإقطاعية، ليصيروا متساوين مع مواطنيهم في الدولة العثمانية العلية، بعد إقرار قانون "تنظيمات" الذي يتساوى بموجبه جميع مواطني الدولة العثمانية.

وأياً يكن الأمر، فإن أفكار الثورة الفرنسية كانت قد بلغت فعلاً أسماع الخاصة عند اللبنانيين، عبر الصحافة والترجمة والتعليم التي نشطت بداية القرن الـ19، وكانوا تواقين إلى مثلها، لا سيما فكرة الأخوة والمساواة والحرية. ولربما كانت تسمية فلاحي جبل لبنان الإخوانيات (أي فرق الفلاحين المتآخين في ما بينهم) من قبيل الاحتكام إلى فكرة الأخوة، كما وردت شعاراً من ثلاثة مع الثورة الفرنسية.

وأياً يكن، فإن رواية "طانيوس شاهين: ماذا فعلت لأستحق هذا؟" لكاتبها الباحث، قد تكون خير بداية لموجة أدبية تستنهض التاريخ، من جديد، على ما شرع به الأديب حسان الزين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة