Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خريطة المشرق العربي رسمتها أقدام النازحين لا الحدود

لم تعد الهجرة عرضاً من أعراض الحروب بل صارت أداة لتغيير الواقع السكاني وبناء كيانات متجانسة

كان التهجير منذ مطلع القرن الـ20 يتكرر بصور متعددة بسبب الكيانات السياسية غير المستقرة (أ ف ب)

ملخص

شهد المشرق العربي منذ سقوط السلطنة العثمانية سلسلة هجرات كبرى أعادت تشكيل هويته الديموغرافية. فمن تهجير الأرمن والفلسطينيين إلى النزوح الجماعي للسوريين واللبنانيين والعراقيين، تبدو المنطقة كأنها خريطة تُرسم بالبشر لا بالحدود.

كرت سبحة تهجير الشعوب والأقليات والقوميات في دول المشرق العربي عبر العقود منذ تهجير الفلسطينيين من أرضهم بدءاً من عشرينيات القرن الـ20، ليحل محلهم مهاجرون يهود من أنحاء العالم، وهاجر اللبنانيون بموازاتهم على دفعات منذ المجاعة، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى العقدين الأخيرين منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحتى اليوم. وهاجر السوريون إبان الحرب السورية إلى دول مجاورة كما سبق وفعل الفلسطينيون، فباتت بلدان مثل لبنان والأردن خليطاً من المواطنين الأصليين مع الفلسطينيين والسوريين، وهاجر العراقيون على دفعات أيضاً إلى الولايات المتحدة وأوروبا. لهذا، تبدو دول المشرق العربي ومعها إسرائيل دولاً ومجتمعات لا تستقر على هوية وطنية معينة بسبب موجات الهجرة والتهجير منها وإليها، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم في خلط الشعوب ببعضها بعضاً.

 

دخل المشرق العربي منذ انهيار السلطنة العثمانية مطلع القرن الـ20 في نفق طويل من التفكيك السياسي والديموغرافي، رسمت ملامحه اتفاقية سايكس بيكو التي يمكن تسميتها بلحظة ميلاد الدول الجديدة والهجينة عبر الخرائط، التي لم تعبأ بالتوزيع العرقي والإثني والديني لشعوب دول هذه المنطقة، فنشأت دول هجينة من طوائف وقوميات متنافرة، حتى إن بعض الطوائف في سوريا ولبنان رفضت في البدء هذه الدول الجديدة المرسومة بعقلية استعمارية انتدابية تهدف إلى زرع الألغام الاجتماعية والسياسية في قلب كل كيان سياسي جديد، وكل كيان مع الدولة الجارة. ولو اعتبرنا أن واضعي اتفاقية سايكس بيكو لم يقصدوا خلق خريطة غير مستقرة لدول المشرق العربي، فإن ما حدث منذ الاتفاقية يظهر أن دول المشرق العربي لم تتمكن حتى اليوم من أن تصبح دولاً منجزة ومكتملة النمو، بل ويمكن القول إنها تتحول بسرعة إلى دول فاشلة كما هي حال لبنان وسوريا والعراق، أما فلسطين وإسرائيل فيمكن ربطهما بتلك الدول عبر موضوع التهجير، إذ إن اتفاقية سايكس بيكو الفوضوية تسببت، من بين ما تسببت، بتكوين كيانات قائمة على التهجير، وكان التهجير الأول للأرمن بواسطة السلطنة العثمانية عند نهاية الحرب العالمية الأولى.

قبل وبعد "سايكس بيكو"

كانت السلطنة العثمانية اعتمدت نظام "الملل" الذي وفر قدراً من الاستقرار عبر السماح للطوائف بإدارة شؤونها الداخلية، لكن ما تلاه من تقسيم بعد الاستقلال كرس الأنظمة الجديدة القائمة على الهويات الطائفية في التعليم والإدارة والجيش، مما حوَّل التعايش إلى تقاسم للسلطات.

وكان التهجير منذ مطلع القرن الـ20 يتكرر بصور متعددة بسبب الكيانات غير المستقرة، والتي تشهد كل عقد نوعاً من أنواع الحروب، سواء في داخلها أو مع الخارج. وبدأت موجات التهجير الكبرى مع المجازر العثمانية بحق الأرمن (1915-1917) الذين لجأوا إلى حلب وبيروت وعمان والقاهرة، وشكلوا جزءاً من نسيج تلك المدن. ثم جاءت نكبة فلسطين عام 1948 التي هجرت أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى الدول المجاورة، ليضطروا إلى حياة اللجوء الطويلة في مخيمات تفتقر إلى أبسط شروط العيش في لبنان وسوريا والأردن، وفي داخل فلسطين نفسها بمخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واليوم يعيش قرابة 5.9 مليون لاجئ فلسطيني في ظروف قاسية، وسط تقلص موارد وكالة "الأونروا". وبات لبنان الأعلى عالمياً من حيث نسبة اللاجئين إلى عدد السكان، مما يعني أن شعوب هذه المنطقة لم تستقر إلا على أنقاض نكبة سابقة، ولم تبن دولة إلا على قاعدة الاختلاط القلق بين المواطن ومن جاء ليصير لاجئاً مقيماً، ومقيماً مهمشاً. وأسهمت الحروب الأخيرة بين إسرائيل وجوارها في خلق موجات هجرة جديدة وأعادت خلط الفسيفساء مرة أخرى، ربما بصورة لا عودة فيها. ولكن هذه الحروب القاسية لم تعف إسرائيل نفسها من موجة هجرة معاكسة بعد حرب أكتوبر 2023، حين ارتفعت أعداد المغادرين من النخبة التقنية والتعليمية وبلغ عددهم أكثر من 40 ألف إسرائيلي خلال أقل من عام. وفي إيران أيضاً وللمرة الأولى منذ الحرب الإيرانية-العراقية، نزح بسبب الضربات الإسرائيلية على طهران خلال يونيو (حزيران) الماضي أكثر من 100 ألف شخص داخلياً.

حرب نتنياهو والواقع الجديد

من يتتبع تصريحات نتنياهو يرى أنه يصر على إعادة هندسة المنطقة على أساس "دول متجانسة" حول إسرائيل، أي دول طائفية وإثنية تضعف من احتمال تحالفها ضد إسرائيل لاحقاً. وهذا الواقع الراهن لو حُقق فإنه يشبه اتفاقية سايكس بيكو ولكن بطريقة جديدة. أي ليس عبر تقسيم الأرض بل عبر تفكيك المجتمعات وبناء كيانات جديدة على أنقاض القديمة، ويُعاد توزيع السكان وفق ما يسمى سياسة "سوق القطيع" herding the herd، إذ ينقل البشر وفق حاجات الخرائط والمصالح الاقتصادية الدولية والإقليمية، وليس وفقاً لرغبة الشعوب نفسها.

 

وهذا يدل، وفقاً لعلم السياسة الذي يدرس نظرية "سوق القطيع"، على أن قضية اللاجئين ليست عرضاً جانبياً للحروب، بل نتيجة متعمدة في كثير من الأحيان، فقد تحولت الحروب إلى أدوات ووسيلة لتنفيذ مخططات سكانية. ونُفذت مثل هذه المخططات في سوريا عبر تهجير السكان السُّنة من بعض المناطق مثل داريا والقصير والغوطة إلى إدلب أو خارج البلد، مقابل توطين عائلات موالية للنظام أو للحرس الثوري الإيراني. وفي العراق هُجر السُّنة من بعض المناطق التي استعادتها القوات الشيعية بعد دحر "داعش"، لتحول تلك المدن إلى نقاط نفوذ مذهبية، مما يعني إلغاء المجتمعات المختلطة التي يمكن أن تنتج هوية وطنية جامعة، وإنشاء كيانات سكانية متجانسة يسهل حكمها والتحكم بها لترسيخ الخرائط الجديدة، خدمة لمشاريع الهيمنة الإقليمية أو العالمية، وخلقاً لأمر واقع ديموغرافي لا يمكن الرجوع عنه.

ففي سوريا التي تمثل النموذج الأكثر قسوة، هُجر ما يقارب 6.8 مليون لاجئ خارج البلاد و6.7 مليون نازح داخلي، وكان هذا النزوح بدأ قبل الثورة مع تسلط حزب البعث، لكنه تفجر بعدها ليتحول إلى كارثة ديموغرافية وضغوط هائلة على دول الجوار. فمنذ تسلم حزب البعث السلطة عام 1963 بدأت حملة تعريب في الشمال الشرقي السوري، واستُهدفت الأقليات القومية والدينية. وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 تسارعت عمليات التهجير من مناطق مثل حماة والرستن والغوطة، حيث تمت إعادة توطين موالين للنظام في ما بدا أنه هندسة ديموغرافية ممنهجة.

هذا النمط من التغيير السكاني لا يقتصر على سوريا، بل يمكن رصده داخل لبنان خلال الحرب الأهلية (1975–1990)، وفي العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وفي فلسطين منذ نكبة 1948. ففي لبنان هاجر بين عامي 1975 و1990 نحو مليون لبناني، ووقع في العراق بعد عام 2003 تهجير طائفي واسع، ثم شهد لبنان بعد عام 2019 موجة هجرة جديدة تراوحت ما بين 400 و600 ألف مهاجر جديد. وفي قطاع غزة ومنذ خريف 2023 نزح من 1.9 مليون داخلياً، أي 90 في المئة من السكان.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير