Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسم الوعود الانتخابية في العراق: مئات الأسئلة ولا جواب واحدا

شعارات وهمية وطائفية تتغذى على حوائج مشروعة للناخبين في ظل أزمة معيشية تقابلها سخرية جماعية

يشكو عراقيون من وجود منهكة بسبب غياب الخدمات بينما تتواصل الوعود الانتخابية (رويترز)

ملخص

حكمت محكمة جنح الأعظمية قبل أيام بحبس 4 مدانين بشراء بطاقات ناخبين في بغداد فيما لم تكتف مفوضية الانتخابات بالتحذير بل سجلت مئات المخالفات وفرضت غرامات واسعة هذا الموسم الانتخابي للبرلمان العراقي.

"كانت الوعود تعلق على الجدران وتنسى. اليوم تخرج نحوي من شاشة هاتفي: نائب محتمل يعد بتعيين ابني، وآخر يتبنى تعبيد شارعنا بصيغة أمر، وثالث يتعهد بماء لا يملح وكهرباء لا تنقطع. أفتح الفيديو فأرى نبرة مدروسة، ثم ألتفت إلى النافذة، الطريق نفسه محفور، المدرسة مزدحمة، والمستشفى يطلب دواء أحضره معي. صرت أخاف من المواسم الانتخابية، تتكاثر فيها الكلمات كما تتكاثر اللافتات، ويزداد قلقي".

تقول الباحثة هبة أحمد، إن السخرية عند الناس صارت وسيلة لالتقاط الأنفاس وسط وعود لا يملكون طريقة لقياسها، متمنية انتهاء هذا السباق الانتخابي في العراق سريعاً، حفاظاً على صحتها النفسية من الخروج كل يوم مبكراً ورؤية الشعارات والوعود والصور التي ستسقط وتختفي ليلة الاقتراع.

مع اقتراب الانتخابات التشريعية العراقية المقررة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، تتدفق وعود المرشحين مصقولة على الشاشات كأنها خطط إنقاذ فورية، كهرباء "دائمة"، ماء "عذب"، تعيينات "جاهزة"، وطرق "تعبد خلال أسابيع". لكن على الأرض وبحسب ما يرى المواطنون، يتقدم مشهد معاكس، أهوار يابسة، دجلة يموت من الجفاف، ونزاعات سياسية تطيل الإنهاك العام. مقاطع تعد بما لا يدخل ضمن صلاحيات مطلقها، وتجبر على تكوين لغة على السوشيال ميديا، لاذعة تسهم بالسخرية من الطرق السياسية التي باتت مستهلكة بحسب رؤية الفرد العراقي ولا تغني من يأس مستمر على مدار سنين طويلة.

خريطة وعود بلا صلاحيات

"هذه الانتخابات مرآة العراق بعد 2003، عشوائية وجشع وعدم اكتراث وصل إلى ذروته. أشاهد الطقس نفسه كل أربعة أعوام، تدوير للأسى بوجوه قديمة وأحزاب متنفذة تمتلك سلاحاً يكمم الاعتراض. حتى الوجوه التي ظنناها مختلفة التحقت بقوائم كانت تقف ضدها، أو انسحبت، أو غيرت اتجاهها"، وفق ما تقوله الباحثة العراقية هبة أحمد.

وتمضي في حديثها لـ"اندبندنت عربية" مؤكدة أن البرامج الانتخابية لا أثر لها على الأرض، فمدينتها ابتلعتها "البوسترات العملاق"، تنافس على حجم الصورة لا على مضمون الخطة. وتضيف، "أخرج مع أصدقائي فنشعر بضيق حقيقي. ما يعرض اليوم: وعود فردية وامتيازات موسمية... تعيين ورعاية وإنجاز معاملة وبطانية وكلف جراحة وخطاب يعامل الناس كطوابير محتاجة، لا كمجتمع يستحق بنى تحتية وتعليماً وصحة وماء وهواء وتقدماً علمياً. يتغذى الخطاب على هوية دينية وطائفية ويترك الوطنية خارج المشهد".

 

وتؤكد مقاطعتها الانتخابات، فهي لم تر اسماً أو قائمة أو حتى حملة انتخابية تستحق صوتها. وحتى إن وُجد خيار جيد، فإن تجربة أعوام من العشرة الطويلة مع البرلمان العراقي علمها أنه سيحاصر ولن ينجز. "كل ما أريده الآن أن تنتهي الحملة وترفع الصور من الشوارع. أعصاب الناس استنزفت: تشويش الـ’جي بي أس’ ترك الجميع في فوضى، شح دجلة نراه بأعيننا، ولا بيان يطمئن الناس بكلمة مسؤولة. يحزنني أن أرى مدناً منهكة بسبب غياب الخدمات، مثل السماوة والديوانية، تهتف لمن لم يغير واقعها منذ أعوام. وعلى رغم أن الخطاب الانتخابي العام محمل بشعارات "النزاهة"، لكن الوقائع تقول العكس تماماً".

كانت محكمة جنح الأعظمية حكمت قبل أيام بحبس أربعة مدانين بشراء بطاقات ناخبين في بغداد وفق المادة 32 من قانون الانتخابات. أما مفوضية الانتخابات بدورها لم تكتف بالتحذير بل سجلت مئات المخالفات وفرضت غرامات واسعة هذا الموسم. المتحدثة باسم مفوضية الانتخابات جومانة الغلاي أكدت تغريم قرابة 400 مرشح قبل موعد التصويت، بينها عشرات الحالات لبدء الدعاية قبل موعدها.

وأعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات اعتماد 7,768 مرشحاً. وخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رصدت مخالفات تراكمية، منها نحو 350 مخالفة في المراحل المبكرة، مع غرامات تراوحت ما بين 2 و10 ملايين دينار تستقطع من التأمينات.

سخرية الجمهور

يتعامل صانع المحتوى العراقي علي ريدها مع الانتخابات بفيديوهاته الساخرة باعتبارها أداة تواصل مدني ومقاومة سلمية للبيئة السياسية، إذ يتحول الفضاء الرقمي إلى مادة نقد يعبر بها الناس عن ضيقهم وموقفهم. جمهوره، بحسب متابعته، يبحث عن فسحة من الضحك على واقع سودوي.

يقول ريدها إن السياسيين لكي يتحكموا بالمجموعات، يصنعون عدواً وهمياً، ثم يقنعوه أنه العدو الذي يجب محاربته، ولهذا تبقى نسبة صغيرة من جمهورهم متماسكة. من يتأمل صور المرشحين في الشوارع ويركز على ما بين الكلمات سيلاحظ نوعاً من التحريض وإيحاء بأنهم يمثلون جهة بعينها، وهنا يعلق "موقفي أن ما يحدث حلقة تتكرر منذ 20 عاماً، فلا جديد يقدم ولا قديم يحاسب".

"المشهد أشبه بسيرك انتخابي سياسي شعبي. السياسيون يتعاملون مع الناس كأداة للاستخدام والاستغلال، والناس تتعامل مع السياسيين بوصفهم مادة ساخرة وميمز ومنشورات تتهكم بعضها على بعض"، وفق صانع المحتوى، الذي يؤكد أن السياسي يعلق صورته في الشارع بالأسلوب القديم، فيعجز أحياناً حتى عن تثبيت لافتة تليق، ثم المواطن ينشر الصورة على السوشيال ميديا ويعلق براحة.

وردود الفعل هذه حقيقية، في وجهة نظر علي، فدور المواطن ليس انتقاصاً من فعله بل إن الخيارات أمامه محدودة. أما السياسي فيخشى أقل تعليق ساخر، فيملأ الشارع بالصور. وفي زمننا الترويج لا يحتاج صوراً معلقة في الشوارع كما يفترض، غير أن الماكينة الحزبية مجبرة على ذلك لأنها لا تملك غيره.

 

"الضحك عندي ليس يأساً ولا رغبة في الهرب. الضحك شكل من أشكال المقاومة... أستخدمه لمواجهة هذه البيئة وهذا الوضع المؤذي، وأعبر به من دون ذريعة تستعمل لمحاسبتي على رأي. مواد الفيديو عندي تأتي تحت عنوان العشوائية، ولا أملك شرحاً أطول من ذلك، الفكرة أن أضع المرآة أمام ما يقال ويعلق. أنا أنقل الحقيقة المرة، وأنا مع طرف الناس دائما"، هكذا يرى علي تجربته الساخرة.

ويضيف، "الجمهور حفظ خطابات السياسيين قبل أن تقال. السياسيون نسخ مكررة أردأ من سابقاتها، ومع كل دورة تظهر نسخة أضعف من نائب كان سيئاً أصلاً. جزء كبير من الناس غير مهتم بالسياسة لأنه شبع من تكرارها على هذا النحو منذ 20 عاماً. الذين يتابعونني يبحثون عمن يرى الجانبين ويختصر ما يريدون قوله، وهذه الرسائل تصلني دائماً: أنت تختصر ما نشعر به ونريد التعبير عنه".

وعود وهاشتاغات

الناس يتابعون موسم وعود المرشحين وهو يرتفع مثل فقاعة، ويستيقظون كل صباح على واقعة جديدة تغذي السخرية وتثقل اليقين بأن ما يعرض للكاميرا لا ينفذ، ولم ينفذ منذ أكثر من 20 عاماً فكيف بقدرة قادر سيتحقق بأقل من شهر؟!". يقول الناشط المدني أحمد صلاح، إن مرشحي الانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة لا "يتوبون" من تكرار نفس سيناريو الوعود، الذي بات مثيراً للضحك حتى من قبل الأجيال الجديدة، التي لم تلحق على مشاريعهم السابقة، والتي لم يتحقق منها حتى وعد واحد.

ويشير صلاح إلى أنه رغم الابتكارات الخطابية في حملاتهم، تنتهي في مصب ومجرى واحد من وعود مطاطية متكررة يعاد تدويرها بشكل سنوي.

ويؤكد أن خطاب الحملات جر الشعارات إلى ضيق الهوية وعزز من الطائفية، مبيناً أن هذه الوعود تدار منذ دورات متتالية على وتر واحد: إنقاذ الجماعة الواحدة أو المذهب. وتقدم الخدمة كتعهد حماية للأقربين، ويصنع خصماً من العدم يهدد بقاء الطرف الآخر، فيتعهد المرشح الحراسة لهذه الفئة.

ويقول، "خرج أحد المرشحين وهو يردد قبالة جوقة من الحشود بعبارات طائفية، إن أحد المذاهب في خطر، وإن عليهم الانتخاب لأي من يكن لحماية المذهب من حرب مذهبية قادمة". عوضاً عن ذلك، فإن شعارات صور حملاتهم الانتخابية، كانت معبئة ومخزنة بالتعزيز الطائفي والعنصري، مفردات ووسوم مثل "بغدادي" و"بغداد لأهلها"، ونداءات "أمة" و"لا تضيعوها" تبرهن بالدليل أن الغاية ليست خدمة البلاد على حد سواء، إنما المصالح الشخصية تتسلق على حساب المواطنة والسلم والأمن المجتمعي والديني".

ويؤكد أن هذه الشعارات تعيد تعريف المدينة أو البلاد باعتبارها ملكية لفئة، وتحول الخدمة العامة إلى امتياز هوية، وتدفع الناخب إلى الاصطفاف دفاعاً عن جماعته، وتغطي على السؤال الأهم، ما البرنامج الذي يخدم الجميع والبلاد من الانهيار؟ الانتخابات عقد مواطنة ومسؤولية مشتركة، المجتمع في حاجة إلى لغة حقوق ومساواة وليس نداءات تشعر جزءاً من الناس أنهم ضيوف في مدينتهم وسيجري طردهم سريعاً بعد فوز هذا المرشح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول الناشط أحمد صلاح، إنه خلال الأسابيع الماضية انتشرت ما تسمى "مكاتب شؤون المواطنين" التي يفتتحها المرشحون داخل الأحياء عبر بيوت مؤجرة لبضعة أشهر. تقدم واجهة للخدمة واستقبال الشكاوى، بينما تدار عملياً كآلة تعبئة انتخابية، تسجيل للأسماء والهواتف، تنظيم مواعيد، وإيحاء بأن متابعة المعاملة تمر عبر دعم المرشح يوم الاقتراع.

ويوضح أنه داخل هذه المكاتب تسوق وعود بالتعيين والتثبيت والمناقلات، مع أن التعيين متوقف منذ أعوام وصلاحيات المرشح تشريعية ورقابية فحسب، مضيفاً "يستثمر المرشح ضعف الإلمام بالقوانين، وحاجة المواطنين للدعم، فيجري استغلال حاجتهم -وحقوقهم- اليومية إلى ولاء قصير الأمد، فيصطف المواطن بطابورين: طابور الشكوى، ثم طابور مركز الاقتراع".

صندوق الأسئلة الصعبة

المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نصت في بياناتها على عدم جواز إدراج المنافع الفردية مثل قطع الأراضي والتعيينات ضمن الدعاية، وعدت ذلك مخالفة تستوجب الإجراءات والعقوبات حتى حد الاستبعاد عند التكرار. لذلك تتصاعد السخرية الشعبية من هذه العروض "الاستعراضية"، إذ يراها الناس بدائل لغوية عن برامج حكم قابلة للقياس، مما يوسع فجوة الثقة ويضعف النقاش الجاد حول السياسات العامة والحوكمة الرشيدة.

تقول الحقوقية ابتهال عبدالسلام، إن ملف السيادة والعلاقات الخارجية يغيب تقريباً عن الحملات، "الوجود العسكري الأجنبي، التدخلات الإقليمية، وتوازن علاقات الدولة موضوعات خارج المدار". وهذا، بحسب وصفها، أمر مربك للغاية، خصوصاً أن الشعب العراقي طالب بشكل كبير منع التدخل الخارجي ويعد أحد أهم مطالبه لكن يبدو هذا الطلب غير مرئي.

وتوضح عبدالسلام أنه في المقابل، تظهر تعهدات شخصانية واستعراضية للقوى الفردية، مرشحة تتحدث عن تزويج مشجعي ريال مدريد، وأخرى تعلن استعداد حضورها عند نقاط التفتيش لمساندة العابرين، وثالثة تعد بطباعة صور لقيادي عراقي وتوزيعها عند فوزها.

وهنا تتساءل ابتهال، "لدينا 45 مليون مواطن، هل جميعهم ستزوجهم هذه المرشحة؟ هل جميعهم سيحصلون على قطع أراض؟ لقد تحولت السياسة العامة إلى عروض رمزية قصيرة العمر، ووسعت فجوة الثقة مع الناخب وبعدت الأسئلة الجوهرية، وأهمها، ما موقع العراق في الإقليم والعالم؟ ما قدرة الموازنة على تحمل تعهدات الدعم النقدي والحماية الاجتماعية؟ كيف تقاس الفجوة بين كلفة السلة الغذائية ومتوسط الأجر في المدن والريف؟ أين تقف قضايا السكن والخدمات الأساسية من أولويات المرشحين؟ ومتى تظهر جداول زمنية محددة للتنفيذ؟ جميعها أسئلة، مئات الأسئلة، ولا جواب واحد".

المزيد من تقارير