ملخص
في حين ترى مصادر سياسية أن التصريح يشكل محاولة لفرز القوى القابلة للتعاون مع واشنطن عن تلك المتمسكة بالارتباط بمحور طهران، يشير آخرون إلى أن المشهد العراقي أكثر تعقيداً من أي لحظة سابقة، بفعل تداخل النفوذ السياسي والاقتصادي للفصائل مع مؤسسات الدولة، مما يجعل مسار المواجهة المباشرة محفوفاً بالأخطار.
قبل أيام قليلة على انطلاق السباق الانتخابي في العراق، خرج المبعوث الأميركي الجديد مارك سافايا بتصريحات حادة يؤكد فيها أنه "لا مكان للميليشيات في إدارة الدولة العراقية"، وأن على بغداد "استعادة سيادتها بعيداً من النفوذ الإيراني"، واصفاً النفوذ الإيراني في البلاد بـ"الخبيث".
وبدا تصريح مبعوث ترمب الخاص للعراق بمثابة إعلان مبكر لمرحلة سياسية جديدة في علاقة واشنطن ببغداد، وإشارة واضحة إلى أن ملف السلاح والنفوذ الإيراني سيكون في صدارة الملفات المقبلة، إلا أن التساؤلات لا تزال تدور حول الآليات ونقاط القوة التي تمتلكها واشنطن في العراق لتحقيق تلك الأهداف.
وتأتي الرسالة الأميركية تلك في لحظة تنافس حاد داخل المشهد السياسي العراقي، خصوصاً بعد تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة والمخاوف الواضحة التي تبديها التيارات والأجنحة المسلحة القريبة منها، خصوصاً في ما يرتبط بتمثيلها البرلماني والسياسي ما بعد الانتخابات.
وتعكس تلك التصريحات توجهاً أميركياً نحو إعادة رسم قواعد الاشتباك السياسي والأمني في العراق، وإعادة بناء توازنات السلطة بطريقة تعيد بغداد إلى دائرة النفوذ الأميركي أو على الأقل تعيد إنتاج معادلات تقاسم النفوذ مع طهران.
وعلى رغم من خلو المشهد من أي ردود فعل من قبل الميليشيات المسلحة، كانت طهران قد حذرت الحكومة العراقية من "مؤشرات إلى وجود خطة أميركية للهيمنة على العراق".
فرز المعسكرات
في حين ترى مصادر سياسية أن التصريح يشكل محاولة لفرز القوى القابلة للتعاون مع واشنطن عن تلك المتمسكة بالارتباط بمحور طهران، يشير آخرون إلى أن المشهد العراقي أكثر تعقيداً من أي لحظة سابقة، بفعل تداخل النفوذ السياسي والاقتصادي للفصائل مع مؤسسات الدولة، مما يجعل مسار المواجهة المباشرة محفوفاً بالأخطار.
وتحمل الرسالة، التي جاءت في توقيت حساس، دلالات على توجه أميركي أكثر صراحة تجاه العراق، خصوصاً مع التحولات الكبيرة التي حصلت في الإقليم بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
إعادة ضبط الإيقاع
وتبدو واشنطن، في مقاربتها الجديدة للملف العراقي، وكأنها لا تكتفي ببعث رسائل سياسية عبر تصريحات مبعوثها مارك سافايا، بل تسعى أيضاً إلى إعادة صياغة قواعد الاشتباك السياسي قبل لحظة الحسم الانتخابي.
ويقول السياسي العراقي ليث شبر، إن الرسالة الأميركية ليست مجرد موقف عابر، بل جزء من عملية "إعادة ضبط إيقاع" داخل بغداد قبل توزيع مخرجات السلطة ما بعد الانتخابات.
ويضيف لـ"اندبندنت عربية" أن توقيت تصريحات سافايا يحمل "إشارة ضغط مبكر" قبل الانتخابات، مشيراً إلى أن واشنطن "تذكر القوى السياسية بأن ملف السلاح سيكون البند الأول في العلاقة مع بغداد بعد نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري". ويتابع أن الرسالة الأميركية يمكن اختصارها بعبارة، "من يرغب في الدخول بالحكومة المقبلة فعليه إظهار التزام ملموس بخطة حصر السلاح".
ولا يبدو أن تصريحات سافايا تمثل رسالة موجهة إلى بغداد فحسب، كما يعبر شبر، الذي يشير إلى أنها تتعدى ذلك لتصل إلى صانعي القرار السياسي في طهران، وهي إشارة إلى أن واشنطن "لن تعود إلى سياسة غض الطرف"، بل ستعتمد "معادلة ردع مشروطة بحوافز اقتصادية وسياسية لمن ينضبط ضمن إطار الدولة".
وبخصوص أدوات واشنطن في تحقيق ذلك، يلفت شبر إلى أنها تعتمد على "أدوات ذكية"، أبرزها "التحكم بالقنوات المالية والتحويلات الدولارية، والعقوبات الفردية وقيود السفر، وربط ملفات التعاون الأمني والعسكري والطاقة بخطوات عملية لضبط السلاح، إلى جانب التعاون الاستخباري والقضائي وتنسيق أمن الحدود لمنع دورات تمويل وتسليح الفصائل".
وعلى رغم من ذلك، يعتقد أن قدرة واشنطن على نزع السلاح مباشرة محدودة، فإنها في المقابل قادرة على جعل "كلفة عدم الامتثال باهظة جداً" إذا توفرت إرادة حكومية وقضائية عراقية.
وفي شأن احتمالات التصعيد العسكري مع الميليشيات، يرى شبر أن السيناريو الأقرب هو "احتواء مشروط يجمع بين سياسة الردع والحوافز الاقتصادية، مع إبقاء الخيار التصعيدي احتياطياً ومحدوداً ومرتبطاً فقط بأي استهداف مباشر للمصالح الأميركية". ويلفت إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد "تمييزاً واضحاً بين فصائل قابلة للاندماج داخل الدولة وأخرى متمسكة بالمسار المسلح".
ويختم بأن "القرار النهائي يبقى عراقياً"، مبيناً أن هذا الملف "لن يحسم بقرار خارجي ولا بشعار داخلي"، بل عبر تحالف داخل الدولة من خلال قضاء قادر ومالية منضبطة وأمن مهني وإرادة سياسية تمتلك الجرأة والخطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حصر السلاح وضبط التوازنات
على رغم أن خطاب سافايا يبدو إعلاناً جاداً من قبل واشنطن لإنهاء ملف الفصائل المسلحة في العراق، فإن للداخل العراقي رأياً آخر، إذ يعتقد عديد من المراقبين أن ما يجري هو محاولة لإعادة صياغة قواعد الاشتباك السياسي، ومحاولة التأثير لتشكيل حكومة منسجمة مع رؤية واشنطن، أو على الأقل تبتعد قليلاً عن التأثير الإيراني وتعيد تعريف العلاقة معها.
في السياق، يرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أن تصريحات سافايا ترسم ملامح خارطة طريق جديدة للوجود الأميركي في العراق، تقوم على ثلاثة مسارات، وهي "إنهاء النفوذ الإيراني، ونزع سلاح الفصائل المسلحة، وفك الارتباط الاقتصادي مع طهران"، بشكل يضمن "إعادة دمج العراق بالكامل في المسار الأميركي".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية" أن اختيار توقيت هذه الرسائل قبل الانتخابات ليس عابراً، ويهدف إلى "التأثير في شكل التحالفات المقبلة، والتعامل حصرياً مع القوى القادرة على التماهي مع الرؤية الأميركية".
وبحسب الشمري، فإن واشنطن باتت تتحرك وفق استراتيجية مختلفة عما اعتاده العراقيون خلال الأعوام الماضية، مبيناً أن على القوى المحلية "إدراك ذلك وتحديد موقفها بين القبول بهذه المقاربة أو خوض مواجهة سياسية معها".
وبشأن آليات تحقيق واشنطن لهذا التحول، يلفت الشمري إلى أنها لا تزال تملك أدوات ضغط واسعة، "تبدأ بالعقوبات والتصنيفات الإرهابية التي تطال الميليشيات، وما يترتب عليها من التزامات قانونية على الدولة العراقية، وقد تصل إلى عدم الاعتراف بأي حكومة تشكلها أطراف مرتبطة بإيران أو مدرجة على لوائح الإرهاب".
ويوضح أن هذه المقاربة يمكن أن تتطور إلى "تنفيذ عمليات استهداف ضد التهديدات التي تطاول المصالح الأميركية، كما سبق أن فعلت واشنطن في محطات سابقة".
ويختم بأن الإدارة الأميركية الحالية لا تبدو معنية بسياسة الاحتواء أو الموازنة، بل تتجه إلى فرض معادلة "القبول بشروطها أو العزلة"، على غرار ما تطرحه في الملف اللبناني تجاه سلاح "حزب الله".
سلاح موجه للداخل
في مقابل كل ذلك، يبرز صمت الفصائل الموالية لإيران إزاء تصريحات مبعوث ترمب بوصفه مؤشراً لافتاً لا يقل أهمية عن التصريحات ذاتها، ففي حين كانت تلك القوى ملتزمة بالرد التصعيدي سياسياً وإعلامياً على أي خطاب أميركي، اختارت هذه المرة الانكفاء، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات ترتبط باحتمالية أن تكون تلك الجماعات قابلة للتكيف مع الواقع الجديد وصناعة نوع من التسويات معه تحفظ جزءاً من نفوذها.
وأثار الباحث والأكاديمي فارس حرام تساؤلات جادة حول دلالات تصريحات المبعوث الأميركي، فبحسب حرام، لا يمكن قراءة ما يُطرح اليوم على أنه "وصفة جاهزة" لحل جذري، بل هو اختبار تكتيكي تعتمده إدارة ترمب في صياغة استراتيجياتها إزاء الدول من خلال "تسليط أقصى الضغوط للتوصل إلى تسويات".
ولا يستبعد حرام أن يقود المسار الأميركي الحالي إلى التوصل إلى "تسويات ربما تشبه تقاسم النفوذ الذي كان قائماً حتى حكومة عام 2011"، مبيناً أن السيناريو الأخطر يرتبط بـ"إعادة صياغة شكل النظام من حيث إنه نظام خارجي الضمانات، يبدو غربياً لكنه يحتفظ بآليات قمع داخلية تسيطر عليها ميليشيات معدة ومحمية سياسياً".
ويقرأ حرام المتغيرات في الخطاب الأميركي بخصوص العراق على نحو تجاري، لافتاً إلى أن ترمب "اعتاد صناعة الصفقات بهذه الطريقة"، حيث "يطلق الرسائل ويقيس ردود الفعل قبل بلورة خطة ما بعد الردود".
ويعتقد أن المسار الأميركي الجديد يعطي انطباعاً بإمكانية أن تتجه واشنطن إلى محاولة "تدجين" الفصائل المسلحة عبر عدة صفقات مقابل التزام الفصائل بـ"عدم الضلوع بأي أدوار إقليمية وفك الارتباط بطهران".
لكن "التحول الخفي" الذي يحذر منه حرام هو أن يصبح هذا السلاح "موجهاً نحو الداخل ومحمياً من قبل واشنطن"، مبيناً أن هذا المسار ربما يمثل "المخرج الأكثر أماناً بالنسبة للسلطة والفصائل على حد سواء، لكنه سيغدو كارثة على مستوى اختراق الدولة العراقية واستمرار الفساد وقمع المخالفين".
خطة تجريبية
يشكك حرام برغبة واشنطن إنهاء ملف السلاح على نحو جدي، معبراً عن اعتقاده أن "إدارة هذا الملف ممكنة من خلال تسليط ضغوط على السلطات في البلاد لغرض تطبيق الدستور والقوانين ذات العلاقة التي تمنع الجمع بين العمل السياسي والعمل المسلح، وأهمها قانون الأحزاب".
ويتابع أن إدارة ترمب لم تظهر حتى الآن أنها "معنية بهذا النوع من المسار الجاد لنزع السلاح، فهي تتجه نحو التخويف المعلن أكثر من العمل على الأرض لدفع المؤسسات العراقية نحو تطبيق القوانين القادرة على إنجاز هذه المهمة"، وما يجري، بحسب حرام، يعطي انطباعاً بأن هذه الضغوط تمثل بداية لـ"صناعة صفقات مع قادة النظام السياسي تعزز قوتهم إذا ضمنت المصالح الأميركية، وليس العكس، إلا إذا كان هناك فقدان ثقة تام لا يمكن معالجته بهؤلاء القادة، كما حصل في فقدان الثقة بصدام حسين قبيل إسقاطه عام 2003، وهو أمر غير واضح حتى الآن".
ويختم أن ما تقوم به واشنطن في العراق يمثل "خطة تجريبية" تجعل كل الاحتمالات مفتوحة بين "التسوية حتى مع الفصائل المسلحة، أو صناعة شكل من أشكال الديكتاتورية المدعومة غربياً، أو دعم المسار الديمقراطي بشكل حقيقي وفعال… كل شيء ممكن".
ويبدو أن تصريح مبعوث ترمب الأخير سيفتح الباب أمام تعقيدات جديدة تواجه الداخل العراقي المتخم بالأزمات، وربما يمثل محاولة مبكرة من قبل واشنطن لرسم خطوط اللعبة المقبلة وتحجيم نفوذ الفصائل داخل مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، إلا أن مسارات تحقيق ذلك لا تزال غير واضحة، وهو ما يجعل جميع السيناريوهات مفتوحة لما بعد تشكيل الحكومة المقبلة.