Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ستعيدنا التكنولوجيا الذكية للثقافة الشفوية البدائية؟

لم تغير سلطة الشاشة الذكية علاقة الإنسان بالكتابة فقط بل غيرت جوهره وسلوكه اليومي وأخلاقه وعلاقاته

بسلطة الشاشة الذكية ستختفي المؤسسات التعليمية والاقتصادية والثقافية التقليدية (رويترز)

ملخص

في عالم اليوم يتداول البشر مليارات الهواتف الذكية ذكاء خارقاً وخطراً تعمل على خوارزميات معقدة، وأمام هذا التوحش التكنولوجي المنفلت أصبح الإنسان عبداً لها، فهل الإنسان بين يدي الهاتف أم الهاتف بين يدي الإنسان، ومن يسيّر من؟

سوسيولوجياً هناك ما قبل الإنترنت وهناك ما بعده، عالمان متباعدان في كل شيء، فلقد قلبت تكنولوجيا الحداثية مفهوم الاتصال والتواصل ومعهما وعبرهما سُلم القيم الإنسانية والرموز واللغات وحتى المشاعر، وكل شيء اهتز في حياتنا الفردية والجماعية، من لغة الكتابة إلى العملة النقدية، وحين اكتشف الإنسان أسطورة الورق مطلع القرن الثاني الميلادي، وكان ذلك في الصين، صرخ سعيداً بهذا الاكتشاف، فها قد دخلنا التاريخ المعاصر، وشيئاً فشيئاً انتقلت أسطورة الورق إلى العالم الإسلامي ثم إلى أوروبا، فكانت التأسيس لحضارة الورق التي جعلت الإنسان يتخلص من الخوف من كابوس النسيان، ولاحقاً حين اكتشف أحفاد أسطورة الورق أسطورة الإنترنت والذكاء الاصطناعي صرخوا: "ها نحن ندخل نهاية التاريخ".

اكتشاف الورق واستعماله في الكتابة، في جراحة الذاكرة، كانت قفزة استثنائية في شقاء تاريخ العقل البشري من الصين إلى بغداد إلى روما وباريس ثم أميركا، فلم يكن الورق مادة لحماية الذاكرة فقط بل كان التعبير عن مرحلة جديد من التطور الرهيب في الذكاء البشري وعاملاً حاسماً في تقريب المسافات الزمنية والجغرافية بين البشر، ولقد كانت القفزة الحضارية الكبرى التي حققتها أسطورة الورق هي إعلان بداية نهاية سلطة الشفوي، ولقد باتت هذه الأخيرة شيئاً فشيئاً محاصرة بالكتابة، بالحروف المرسومة على شيء خفيف، وتحول الحبر على الورق إلى ما يشبه أقفاصاً من ذهب للثقافة الشفوية، فبدأت طبقة الفهماء من المؤرخين ورجال الدين والشعراء والفلاسفة يسجلون أفكارهم وإبداعاتهم، ومثلت هذه القفزة التاريخية في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية المتمثلة في الاستثمار في أسطورة الورق نهاية شخصية ظلت مركزية في هذه الثقافة، وأعني بها الراوي، فلقرون طويلة كان الراوي هو السجل الشفوي للنصوص الدينية المقدسة والمصدر الجامع لوقائع التاريخ الكبيرة والصغيرة وللشعر والأساطير والخرافات وشجرات الأنساب، فإن تختفي هذه الشخصية المركزية التي صنع على أكتافها وذاكرتها حضارة بأكملها وديانات بأكملها بكل ما فيها من صراعات وطوائف، بكل ما حملته من إيجابيات وسلبيات أيضاً، فهذا يعني بأن الإنسان دخل منطقة تاريخية جديدة، ولحظة بداية الكتابة على أسطورة الورق هي أكبر مقاومة يحققها الإنسان ضد الشفوي وربما ضد النسيان وضد الاندثار.

وعلى هامش أسطورة الورق وفيها تكوّن عالم الوراقين والخطاطين، عالم ساحر وخطر، جُمعت فيه أخبار الحروب ودسائس الملوك ورسائل العشاق على حد سواء، وتأسست لذلك مدارس في بغداد والبصرة والفسطاط وإسطنبول ودمشق وأصفهان، إنه عالم بطقوس جمالية غريبة ومنافسات حارة وحادة بين الخطاطين، وأسس الملوك والخلفاء دواوينهم وكان لكل خليفة خطاطوه الذين ينافسون خطاطي منافسيهم في الدقة والجمال والتزويق، فغيرت أسطورة الورق شكل الحكامة وسلوك الحاكم.

وفي ظل أسطورة الورق تكونت مكتبات أو خزانات خاصة وعامة، سلطانية أو شعبية، في كثير من الحواضر، ومعها ظهرت طبقة من تجار المخطوطات، فكان تاجر المخطوطات إذا ما سمع بخبر مخطوطة مهمة لا يتوانى في السفر بحثاً عنها في بغداد أو تمبكتو أو شنقيط، وكان بعض العلماء وبعض التجار يسافرون لشهور بحثاً عن مخطوط ما وقد يخاطرون بحياتهم لأجل ذلك، وقد يقضي الخطاط شهوراً عدة في نسخ كتاب قد طلبه عالم أو فقيه أو خليفة، وأصبحت تجارة الورق والمخطوطات والحبر تنافس تجارة الحرير والبارود والتوابل، وتأسست لذلك قوافل ورأسمال وخبراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكثيراً ما كانت بعض الحواضر وبعض الخلفاء يصنعون هيبتهم وصورتهم الخاصة تبعاً لحجم عدد المخطوطات التي تحويها مكتباتهم وعدد الخطاطين والمكتبيين بها، وقد أخرجتنا أسطورة الورق من عصر الشفوي فهل تعيدنا التكنولوجيا والخوارزميات لها مرة أخرى؟

هناك ما قبل ثقافة الشاشة وما بعدها، عالمان على الطرفين يختلفان ويبتعدان يوماً بعد يوم أكثر فأكثر، فسلطة الشاشة والإنترنت تدفن شيئاً فشيئاً جثة أسطورة الورق، واليوم ترفع بعض الدول وكثير من المؤسسات العلمية والتربوية شعار "حكامة من دون ورق"، "تعليم بصفر ورق"، إنه بيان عن نهاية عهد "الديوان" وأفول ثقافة المراسلات الورقية والسجلات الكبيرة والأرشيف الورقي المتراكم الذي عرفه نظام التسيير والتدبير الإداري والتعليمي خلال قرون، فلم تغير سلطة الشاشة الذكية ونظام الإنترنت علاقة الإنسان بالكتابة فقط، بل غيرت جوهر الإنسان نفسه والسلوك اليومي والأخلاق والعلاقات بين الناس، وجراء ذلك تغيرت مفاهيم وممارسات كثيرة مثل مفهوم الاحتفال والسعادة والعزاء والأحزان والتواصل، وحدث ما يشبه الزلزال في المشاعر وتجلياتها في المجموعة البشرية، وشكّل ذلك أيضاً تأثيراً في الأسرة نفسها وفي بنائها وطبيعة العلاقات ما بين أفرادها وما بين الأفراد والمجموعات والطبيعة.

لقد أنتجت ثقافة الاستهلاك التي خلقتها سلطة الشاشة الذكية والإنترنت بشبكات التواصل الاجتماعية العالمية بما حملته من برامج ورموز جديدة أمراضاً نفسية خطرة لا تقل عن الأمراض الجسدية التي تهدد الوجود البشري، مثل الأوبئة والزلازل والأعاصير وغيرها، فشبكات التواصل الاجتماعي عدوة التواصل الاجتماعي التي قضت على فلسفة العيش في المجموعة وحولت حياة الأفراد إلى ما يشبه الأرخبيل المتفتت والمفكك، ولقد تعمم الإنترنت في كل البلدان وفي أعزل المناطق، وأصبح العالم قريباً والإنسان بعيداً، وتقلصت المسافات الجغرافية وتباعدت المسافات الاجتماعية.

أنهت سلطة الشاشة الذكية مفهوم السوق بأبعادها السوسيولوجية والثقافية والإنسانية، فلقرون خلت كانت الأسواق ظاهرة ثقافية واجتماعية يلتقي فيها الناس في القرى أو في المدن، يومياً أو أسبوعياً، يتبادلون الأخبار ويستعملون اللغة في علاقاتهم، وكان بين البائع التاجر والمشتري الزبون علاقة جدل تواصل حميمي، وفيها عملة نقدية ملموسة ورقية أو نحاسية، وفيها مشاعر ولغة بكل ثروتها الرمزية، ثم شيئاً فشيئاً قضت الشاشة الذكية على السوق كصورة من صور الحضارات البشرية العريقة، وأصبح الإنسان يطلب ويشتري كل شيء عن بعد من دون أن يعرف من الذي يقف خلف منصة البيع، يدفع عن بُعد وتصله المشتريات من دون أن يعرف من يوصلها، ولم يعد الجيل الجديد جيل (DZ) يعرف العملة الملموسة، فكل شيء اختفى.

لم تترك سلطة الشاشة شيئاً أمامها إلا وجرفته، فالمكتبة التي كانت تمثل فضاء اجتماعياً وثقافياً فارقاً بدأت تختفي، ففي الخطوة الأولى تحولت إلى "مكتبة وسائطية" تجمع ما بين الورقي والإلكتروني، ولكنها شيئاً فشيئاً تزحف نحو فضاء رقمي، وسيجيء اليوم الذي تتحول فيه المكتبة الكلاسيكية الورقية إلى متحف، ويجيء جيل ربما بعد نصف قرن أقل أو أكثر ويقف الأطفال والشباب والكبار أمام المكتبات ويستغربون صفوف المجلدات ورفوف الكتب الورقية الممتدة على مئات الأمتار في المكتبات الكلاسيكية، متسائلين باستغراب عن تقاليد أجدادهم في القراءة وتحصيل المعرفة.

ستغلق المكتبات وترمم المجلدات والكتب وستغير مهمتها من فضاء للمطالعة إلى فضاء للفرجة، لتصبح الزيارات إليها شبيهة بتلك التي تؤديها للمتاحف للتفرج على القطع الغريبة، وكما كنا ننظر إلى المخطوطات باستغراب فسينظر جيل قادم إلى كتبنا الورقية باستغراب أيضاً.

ربما لن تتوقف المطابع لكنها لن تظل مطابع لسحب الكتب الخاصة بالتجارة العامة ولكن لطباعة بعض الكتب التي تقتنى من باب شراء التحف، كما تقتنى اللوحات الفنية، وستصبح الكتب المطبوعة بطريقة أخرى غير تجارية وتتحول طباعتها إلى ما يشبه القطع الفنية للتجميل والديكور الخاص بالفضاءات العمومية أو الخاصة، شأنها شأن المنحوتات أو اللوحات الفنية.

 

أما القراءة فستتحقق داخل أوعية أخرى أولها الشاشة لكن ليست آخرها، فالتكنولوجيا المعقدة ستكتشف أوعية أخرى ووسائط للقراءة، ومن دون شك كما أصبح الكتاب تقليداً متحفياً أمام الشاشة أو اللوحة فستكون هذه الأخيرة بعد قليل قطعة متحفية بدرورها أيضاً، لكن السؤال الفلسفي والتاريخي الذي نطرحه ونحن نعبر جسر المرور الحاسم ما بين أسطورة الورق وأسطورة الشاشة، ونحن ننتقل من زمن حضارة الحروف براحة الحبر واللغو التي تحمل هوية ما إلى زمن حضارة الشاشة المسكونة بالرموز العالمية التي تفرضها العولمة والشمولية الثقافية والتكنولوجية: هل سيعيدنا عصر الرقمنة لعهد الشفوية؟

اختفت الكتابة اليدوية التي تستعمل فيها الأقلام والحبر نهائياً أو تكاد، ولمصالحة جيل DZ من طلابي بالجامعة مع الكتابة اليدوية فإني أطالبهم بتقديم عروضهم وبحوثهم مكتوبة بخط اليد، وذلك محاولة مني لإعادة الذاكرة الثقافية لحركة أصابعهم التي فقدتها أمام لمس الشاشة الذكية، وقد لاحظت بأن غالبيتهم لا يعرفون حتى طريقة الإمساك بقلم الحبر أو الجاف.

إن الذهاب إلى زمن سلطة الرقمي لا مفر منه، قراءة وكتابة واستشارة، لكني أعتقد بأننا لا نزال في منطقة الاضطراب التكنولوجي ولم نؤسس بعد تراكماً سلوكياً وحضاريا وثقافياً في علاقاتنا مع الشاشة الذكية، وحيال هذه الواقع المضطرب فإننا نقر بأن القراءة الورقية تمتلك قوة خاصية التأمل، على خلاف القراءة الرقمية أو الشاشة التي لم تتمكن بعد من تحقيق مثل هذا التأمل، فالقارئ أما الشاشة يعيش حالاً من القلق والتشويش وهو يواجه النص الرقمي، لأن عادة القراءة الرقمية لم تحقق بعد تراكماً في العادات، وبالتالي صناعة التأمل، ويبدو لي وكأن القارئ الرقمي يعيش علاقة متوترة مع الشاشة وأن المصالحة الثقافية الشعورية لم تتحقق بعد.    

بابتعاد الإنسان عن سلطة الورق ورهن نفسه إجبارياً، وليس له خيار غير ذلك، بسلطة الشاشة الذكية ستختفي المؤسسات التعليمية والاقتصادية والثقافية التقليدية وسيتحول هذا الإنسان الشاشوي إلى كائن شفوي، وهو ما نلاحظه يومياً وبوتيرة متصاعدة وملموسة، فإذا كان وجود الإنسان من وجود الأشياء التي يخلقها والتي يتعامل معها على المستوى المادي واللغوي، فإننا ندخل يوماً بعد آخر في عصر سلطة الرموز التي تكرس وتثمن ثقافة الشفوي، وفي هذا الزمن المضطرب بدأت تتهاوى الكتابة بمفهومها التقليدي أكثر فأكثر، فلا أحد ينكر بأن سلطة المكتوب قد تراجعت كثيراً أمام زحف سلطة الصورة أو الشاشة الذكية، ومعها تراجعت سلطة اللغة بمفهومها النحوي والصرفي أمام سلطة لغة الإشارة والرموز، وأصبحت المراسلات شفوية أو بالصورة أو بالعلامة، واختفت الصحف من الأكشاك، ونحن في الطريق إلى تحويل المكتبات التقليدية بمجلداتها إلى متاحف وغلق المدارس كإعلان عن نهاية التعليم بطرقه الكلاسيكية التي عرفت منذ قرون.

في عالم اليوم يتداول البشر مليارات الهواتف الذكية، ذكاء خارقاً وخطراً، تعمل على خوارزميات معقدة، وأمام هذا التوحش التكنولوجي المنفلت أصبح الإنسان عبداً لها، فهل الإنسان بين يدي الهاتف أم الهاتف بين يدي الإنسان، ومن يسيّر من؟ وحين يعيش العالم على وقع هذا التغيير التكنولوجي الانقلابي والجذري فإن الكتابة الإبداعية هي الأخرى لا تشذ عن مسطرة هذا القدر المحتوم، إذ ستسلم نفسها هي الأخرى لسلطة الشفوية الجديدة.

نعم ستعيدنا التكنولوجيا المتوحشة الرقمية، وهي تقضي على آخر قلاع سلطة الورق وسحر الحبر واللغة بمفهومها التقليدي، لعصر الشفوية ولكن بتوابل جديدة.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء