Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثمن السياسات الأميركية غير المتوقعة

كيف تقوض سياسة ترمب الخارجية صدقية أميركا

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلقي كلمة في البيت الأبيض، واشنطن العاصمة، سبتمبر 2025 (رويترز)

ملخص

بتقويضه مبدأ الصدقية الذي قامت عليه السياسة الخارجية الأميركية لعقود، حوّل دونالد ترمب الثقة بواشنطن إلى شك عالمي. فنهجه القائم على الفوضى والمفاجأة حقق مكاسب تكتيكية قصيرة، لكنه أضعف التحالفات، وأفقد الولايات المتحدة مكانتها كقوة موثوقة، لتغدو أكثر عزلة وأقل نفوذاً في نظام دولي يميل نحو التعددية القطبية.

اعتمدت السياسة الخارجية الأميركية عبر عقود على الصدقية، أي الاعتقاد بأن واشنطن ستفي بالتزاماتها، وأن سلوكها السابق يشير إلى سلوكها المستقبلي. فعلى سبيل المثال، استطاعت الولايات المتحدة بناء شبكة واسعة من الحلفاء لأن شركاءها كانوا على ثقة بأن واشنطن ستدافع عنهم في حال تعرضهم لهجوم. كان بوسعها أن تبرم اتفاقات تجارة حرة مع دول حول العالم وتتفاوض في شأن اتفاقات سلام، لأنها، بصورة عامة، كانت تعد وسيطاً نزيهاً. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة لم تفاجئ أحداً قط، أو أنها لم تتراجع عن وعودها إطلاقاً، لكنها كانت، في معظم تاريخها الحديث، طرفاً جديراً بالثقة.

على عكس أي رئيس أميركي سبقه، تخلى دونالد ترمب عن كل الجهود المبذولة لجعل واشنطن موضع ثقة أو منسجمة مع نفسها. لقد اتخذ أسلافه أيضاً، في بعض الأحيان، قرارات قوضت صدقية أميركا، غير أن افتقار ترمب إلى الاتساق يبلغ مستوى مختلفاً تماماً، ويبدو أنه جزء من استراتيجية مدروسة. فهو يقترح عقد الصفقات قبل أن يتراجع عنها، ويعد بإنهاء الحروب، ثم يوسعها، ويوبخ حلفاء الولايات المتحدة ثم يحتضن خصومها. إن النمط الوحيد الثابت في ظل ترمب هو غياب أي نمط.

إن نظرية ترمب في هذا الصدد بسيطة: فمن خلال إبقاء الأصدقاء والأعداء في حال من عدم التوازن، يعتقد الرئيس أنه يستطيع تحقيق مكاسب سريعة كزيادة متواضعة مثلاً في الإنفاق الدفاعي الأوروبي. ويظن ترمب أيضاً أن عدم القدرة على التنبؤ بخطواته يمنحه هامشاً أكبر للمناورة في الشؤون الدولية، بما يجعل الحلفاء والخصوم في شك دائم إزاء ما سيفعله تالياً. وأخيراً، يرى ترمب أنه يستطيع إخافة خصومه وردعهم من خلال الظهور بمظهر الزعيم المتهور الخارج عن السيطرة، وهي فكرة يطلق عليها علماء السياسة اسم "نظرية الرجل المجنون". وقد تباهى ترمب ذات مرة بقوله إن الرئيس الصيني شي جينبينغ لن يخاطر على الإطلاق بفرض حصار على تايوان أثناء رئاسته، لأن الرئيس شي "يعلم أنني مجنون تماماً".

 وقد أشار بعض المحللين إلى أن نهج ترمب حقق عدداً من الانتصارات الدولية الموقتة. إلا أنه من غير المرجح أن تقوي طريقته هذه في التعاطي مع السياسة العالمية موقف البلاد على المدى الطويل. فدول أخرى قد تسعى إلى تملق واشنطن لفترة وجيزة، على أمل أن تتجنب العقوبات الأميركية، لكن في نهاية المطاف، ستعمل الحكومات على حماية نفسها من خلال التحالف مع دول أخرى. بالتالي، ستتسع قائمة خصوم الولايات المتحدة، وستضعف تحالفاتها. وبعبارة أخرى، قد تجد واشنطن نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى، ومن دون مسار واضح لاستعادة سمعتها.

سمعة طيبة

كثيراً ما جادل رؤساء الولايات المتحدة بوجوب أن تتمتع التزامات واشنطن بالصدقية، حفاظاً على القوة الأميركية ومكانتها. فقد قرر هاري ترومان التدخل في شبه الجزيرة الكورية لردع التوسع السوفياتي وكبح جماحه. وقال لاحقاً، موضحاً موقفه: "تذكرت، كيف أن الديمقراطيات، في كل مرة تفشل فيها في القيام بما ينبغي، تشجع المعتدين على المضي في عدوانهم". أما ليندون جونسون، فقد صعد الحرب في فيتنام خشية أن يفسر الانسحاب على أنه إشارة إلى أن واشنطن غير جادة في احتواء الشيوعية. وبرر جورج دبليو بوش زيادة عدد القوات في العراق عام 2007 بالقول إن الانسحاب قد يضعف صدقية الولايات المتحدة، فيما أبقى باراك أوباما القوات الأميركية هناك للأسباب ذاتها. وحين تردد أوباما في تنفيذ تهديده بالرد العسكري بعد تجاوز النظام السوري "الخط الأحمر" الذي كان أعلنه بنفسه ضد استخدام الأسلحة الكيماوية، تعرض لانتقادات لاذعة من خصومه، الذين رأوا أنه بذلك شجع أعداء الولايات المتحدة. وقال لاحقاً لصحافي: " إلقاء القنابل على أحد لمجرد إظهار أنك مستعد لإلقائها على آخر، ربما يكون أسوأ سبب لاستخدام القوة". وبعد الانسحاب الفاشل من أفغانستان، تعرض جو بايدن بدوره لانتقادات لتقويضه سمعة واشنطن باعتبارها شريكاً موثوقاً يتمتع بالعزم والكفاءة.

وليس واضحاً ما الأثر الفعلي لقرارات هؤلاء القادة في صدقية أميركا. فالعلاقة بين قرارات الدول وكيفية إدراك نياتها معقدة وملتبسة. فعلى سبيل المثال، يرى عالم السياسة داريل بريس من جامعة "دارتموث" أن الدول تقيم عزم خصومها استناداً إلى مصالحها وقدراتها الراهنة، لا إلى سلوكها السابق. وقد أظهرت أبحاث أخرى، منها دراسات روزان ماكمانوس، أن سمعة القادة من حيث العزم لا تؤثر إلا في ظروف معينة أثناء الأزمات. كما أظهرت أبحاثي التي أجريتها مع عالم السياسة أليكس ويسيغر أن الدول التي تراجعت عن تعهداتها في الماضي تكون أكثر عرضة بمرتين للتحدي في المستقبل. وتظهر أبحاث أخرى لي أن الصدقية تتشكل من تصورات حول الاتساق والسمعة المتراكمة في ما يتعلق بالعزم، وأنها تبنى بمرور الوقت من خلال الإشارات المكلفة التي يحاول القادة إرسالها وكيف يتلقاها الخصوم. بعبارة أخرى، يعتمد القادة في تقدير نيات خصومهم على خبراتهم السابقة معهم، تماماً كما يعتمدون على سلوكهم أثناء الأزمات الحالية.

لكن عندما يتعلق الأمر بترمب، تبدو هذه الاستنتاجات بلا جدوى تقريباً. فمهما يكن ما تقوله الأبحاث الأكاديمية عن سبل بناء الصدقية، يفعل ترمب النقيض تماماً. فقد أثار علناً الشكوك حول أهم ضمانات الدفاع الأميركية، وهي التزام حلف شمال الأطلسي بالمادة الخامسة المتعلقة بالدفاع الجماعي، إذ أعلن أنه إذا لم "يدفع الحلفاء" ما عليهم، فلا يمكنهم توقع الحماية. كما انسحبت الولايات المتحدة في عهده من اتفاقات متعددة الأطراف مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، من دون أي اعتبار للكلفة التي ستتحملها واشنطن من حيث السمعة، بل نكث أيضاً باتفاق التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، الذي كان قد تفاوض عليه ووقعه بنفسه خلال ولايته الأولى. وتقلب مراراً بين انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أحد أكثر خصوم واشنطن عناداً، وبين الإشادة به من دون مبرر واضح. وكان اجتماعه الأخير مع بوتين في ألاسكا دليلاً واضحاً على ذلك، إذ نظم على عجل وكان الهدف منه تحسين صورة ترمب كصانع صفقات، لكنه لم يحصل على أي مقابل ملموس من نظيره الروسي، مما دفع معظم المراقبين إلى القول إن الرئيس الأميركي قد تم خداعه.

قد يدرك ترمب أثر سلوكه على صدقية أميركا، أو ربما لا يعي ما يترتب على سلوكه من عواقب، لكن في الحالتين، من الواضح أن كلفة تقويض السمعة القائمة على الاتساق والموثوقية لا تؤثر في قراراته. فالرئيس لا يسعى إلى أن يكون ذا صدقية، بقدر ما يسعى إلى تحقيق تفوق نفسي على خصومه لإحراز انتصارات سريعة. وإذا تطلب ذلك تجاهل التزامات أميركا الراسخة، فليكن. إنه يفضل الاحتفاظ بأقصى درجات المرونة: أن يفعل ما يشاء، متى يشاء، بالطريقة التي يشاء، ليحقق غايته.

أصل البلاء

من الواضح أن جعل تصرفات ترمب غير قابلة للتنبؤ أمر مقصود. فالرئيس يستمتع بالفوضى، ويدرك أن سلوكه المليء بالتهديد يساعده على تحقيق أهداف معينة، مثل إنجاز صفقاته التجارية. قال ترمب عند ترشحه للرئاسة للمرة الأولى عام 2016: "يجب أن نكون غير قابلين للتنبؤ. لا أريدهم أن يعرفوا ما الذي أفكر فيه".

لكن ذلك لا يعني أن سلوك الرئيس يرتبط دوماً باستراتيجية مدروسة، إذ كثيراً ما يكون نتاجاً لتقلبات مزاجية أكثر من كونه قراراً محسوباً، وهو ما يسميه الباحث تود هول "الدبلوماسية العاطفية". فقد أصبحت مشاعر الخوف والغضب وخيبة الأمل والرغبة في الانتقام اليوم دوافع شائعة في إدارة الدولة الأميركية. وهي حقيقة اكتشفتها دول عدة من خلال تجاربها القاسية مع واشنطن. فعلى سبيل المثال، أشاد ترمب خلال ولايته الأولى برئيس الوزراء الكندي آنذاك جاستن ترودو، وأبرم اتفاقاً تجارياً مع أوتاوا. أما في ولايته الثانية، فاتهم كندا بالتقاعس عن دورها في الحد من تدفق عقار الفنتانيل والمخدرات الأخرى، قبل أن يفرض عليها سلسلة من الرسوم الجمركية. وبالمثل، أعرب ترمب في ولايته الأولى مراراً عن رضاه عن علاقته الودية برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لكنه سرعان ما انقلب على نيودلهي بعدما نفت أن واشنطن ساعدت في وقف صراعها مع باكستان في مايو (أيار). وفي المقابل، سارت علاقة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع ترمب في الاتجاه المعاكس. ففي البداية، أثار زيلينسكي غضب ترمب عندما صحح له كلامه في اجتماع بالبيت الأبيض، مما دفع واشنطن إلى تجميد مساعداتها لكييف موقتاً، لكن زيلينسكي بادر لاحقاً إلى استرضائه، فأعلن ترمب الشهر الماضي دعمه سعي أوكرانيا لاستعادة جميع أراضيها من روسيا، وهو الهدف الذي كان قد اعتبره في السابق غير قابل للتحقيق.

ويكاد يكون من المستحيل على القادة الأجانب التكيف مع تقلبات ترمب ونزواته. ومع ذلك ثمة بعض الاستراتيجيات التي يمكنهم اتباعها لمحاولة كسب وُدّه، أو في الأقل الحد من عواقب إخفاقهم في إرضائه. وأبرز هذه الاستراتيجيات الإطراء، الذي يغذي إحساس ترمب بالعظمة. وقد انتشرت هذه الوسيلة على نحو خاص بين أقرب شركاء واشنطن. فعلى سبيل المثال، وصف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته الرئيس الأميركي بأنه "صانع سلام براغماتي" بعد لقائه إياه في أغسطس (آب) الماضي بالبيت الأبيض، في محاولة شبه مؤكدة لمنع ترمب من التخلي عن التحالف. وفي الوقت نفسه أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"القيادة الحاسمة" لترمب، بينما نجح في إقناعه بالمشاركة في الغارات الجوية الإسرائيلية على إيران. حتى الدول المحايدة سعت إلى استغلال غرور ترمب، فمثلاً، رشح قائد الجيش الباكستاني عاصم منير، ترمب لجائزة نوبل للسلام في محاولة لشق الصف بين الولايات المتحدة والهند.

أصبح الخوف والغضب وخيبة الأمل والانتقام في الوقت الحالي دوافع شائعة لفن الحكم في الولايات المتحدة

 

لكن الإطراء سرعان ما يفقد قيمته مع ازدياد عدد القادة الذين يلجأون إليه. فإذا تملقت كل دولة لترمب، فلن تكسب أي منها نفوذاً حقيقياً لديه. أما الدول التي ضاقت ذرعاً بتنمره، فغالباً ما تجد في امتداحه تصرفاً غير مستساغ إلى درجة تمنعها من الإقدام عليه. ونتيجة لذلك، لجأت بعض الحكومات إلى النهج المقابل: المواجهة. فعلى سبيل المثال، رد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بتحد واضح عندما فرض ترمب رسوماً جمركية مرتفعة على بلاده، وفرض عقوبات على قضاتها بسبب إدانتهم الرئيس السابق جايير بولسونارو بتدبير مؤامرة لتزوير الانتخابات. واتخذ رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي موقفاً عدائياً مماثلاً إزاء ترمب، لكن على رغم أن مثل هذه الإجراءات قد تعزز شعبية القادة في الداخل، فإنها نادراً ما تدفع ترمب إلى التراجع، وغالباً ما تفضي إلى ردود فعل داخلية معاكسة. فقد أجرت الرئيسة السويسرية كارين كيلر-سوتر مكالمة هاتفية صدامية مع ترمب بعدما فرضت واشنطن رسوماً جمركية ضخمة على بلادها، وعندما رفض التراجع عن موقفه، اتهمها خصومها في الداخل بسوء إدارة العلاقات معه.

وبين التملق والمواجهة، يبرز نهج ثالث هو "التحوط". يقوم هذا الأسلوب على قدر من المرونة والانفتاح على قوى كبرى متعددة، بما في ذلك بعض خصوم الولايات المتحدة. ومثال ذلك كيف قام عديد من دول أميركا اللاتينية بتعزيز علاقاتها التجارية وتعاونها مع دول آسيا وأوروبا عقب انتخاب ترمب، مع استمرارها في التعاون مع واشنطن. وتسير دول الخليج العربية في مسار مماثل، إذ تجامل ترمب في وقت توسع فيه روابطها مع الصين. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد دعا أوروبا إلى انتهاج "الاستقلال الاستراتيجي" الذي يحررها من اعتمادها على كل من الصين والولايات المتحدة.

ولا تتعارض هذه الأساليب بالضرورة بعضها مع بعض. ففي ظل الغموض المحيط بكيفية التعامل مع تقلبات ترمب، تجامل دول كثيرة الرئيس الأميركي يوماً، وتتصدى له في اليوم التالي، ثم تتحوط تجاهه في اليوم الذي يليه، لكن في نهاية المطاف، لم تحقق أي من هذه التكتيكات سوى نجاحات موقتة، إذ يواصل ترمب تبديل مواقفه من العالم لحظة بلحظة، تبعاً لمزاجه وما يشعر به في حينه.

ما هو الثمن؟

يحسب لترمب أنه حقق بعض الإنجازات الحقيقية بفضل نهجه غير المتوقع. فعلى سبيل المثال، أدى القصف الذي أمر به ضد إيران إلى تعطيل طموحاتها النووية. وعندما سئل عما إذا كان سيوجه ضربات إلى إيران بعد بدء إسرائيل حملتها الجوية، اختار التردد في الإجابة عمداً، قائلاً: "قد أفعل ذلك، وقد لا أفعله. أعني، لا أحد يعلم ما الذي سأفعله". وقد خلف هذا الغموض حال من عدم اليقين في إسرائيل وإيران على حد سواء حول كيفية تموضعهما. أما قراره النهائي بالتدخل العسكري فجاء مدفوعاً برغبته في تبديد الانطباع بأنه ضعيف ويتراجع عند المواجهة، وبسعيه إلى الظهور بمظهر المنتصر. ومن خلال إظهاره للدول الأخرى أنه مستعد للانقلاب عليها في أي لحظة، ربما عزز ترمب قوة الردع الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويمكن اعتبار تعامله مع موازنات الدفاع لدى الحلفاء انتصاراً آخر له. فطوال عقود، ضغط الرؤساء الأميركيون على بقية أعضاء "الناتو" لزيادة إنفاقهم العسكري، لكن أحداً منهم لم يلوح قط بعدم الالتزام بالمادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي، مما جعل الدول الأوروبية تشعر بضغط محدود للتحرك. أما ترمب، فقد نجح من خلال تشكيكه في تلك الضمانة في إضفاء قدر من الاستعجال، وفي قمة لاهاي عام 2025 تعهد الحلفاء الأوروبيون بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي - وهي قفزة غير مسبوقة. وسارت المواجهة بين الولايات المتحدة وأوروبا في شأن الرسوم الجمركية على المنوال نفسه. فبعد تهديده بتصعيد الرسوم، قدمت بروكسل لواشنطن في صيف العام الماضي تنازلات تجارية كانت تعد مستحيلة في السابق، بما في ذلك اتفاق لشراء الغاز والنفط الأميركيين بقيمة 750 مليار دولار. ورد ترمب بإعلان "انتصاره"، بينما أشادت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بـ"قيادته الحاسمة".

لكن يبقى مدى استدامة هذه الانتصارات موضع شك. فقد يكون ترمب نجح في دفع أوروبا إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، لكن ذلك جاء على حساب تماسك حلف "الناتو"، الذي بات أكثر هشاشة. وعلى رغم أن أعضاء الحلف ينفقون اليوم مبالغ أكبر على أمنهم، فإن قوة "الناتو" تستند في الأساس إلى التزامه الجماعي بالدفاع المشترك - وهو الالتزام الذي أضعفه ترمب. فإذا امتنعت الولايات المتحدة، على رغم قوتها العسكرية الهائلة، عن الرد في حال تعرض أحد الحلفاء لهجوم، فسيغدو التحالف أضعف، حتى لو ارتفعت موازنات الدفاع الأوروبية. وتظهر الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على أوروبا نتيجة مماثلة: فقد تكون واشنطن انتزعت بعض المكاسب الاقتصادية، لكنها دفعت القارة في المقابل إلى تعزيز استقلالها الاقتصادي والسياسي. ونتيجة لذلك، سيزداد تراجع نفوذ الولايات المتحدة في أوروبا، بل وعلى مستوى العالم بأسره. ومع تدهور صدقية أميركا، قد تجد واشنطن صعوبة متزايدة في التفاوض على اتفاقات سلام أو رعايتها كما اعتادت، مما ينذر بقيام نظام دولي أكثر اضطراباً وتقلباً.

سيكون لواشنطن عدد أقل من الأصدقاء

 

حذر عدد من السياسيين الأميركيين، بمن فيهم بعض الجمهوريين، من العواقب بعيدة المدى لسياسات ترمب الخارجية التي تتسم بالفوضى. وحتى لو خلفه في المنصب حليف سياسي مقرب، فقد يسعى الرئيس الأميركي المقبل إلى اتباع نهج أكثر قابلية للتنبؤ، خصوصاً إذا كان أكثر اعتدالاً في مزاجه. غير أن إعادة ترسيخ صدقية الولايات المتحدة لن تكون أمراً يسيراً، لأن سمعة أي دولة تتجاوز زعيمها الحالي. فعندما يخل ترمب بوعوده مراراً، أو يبدل مساره فجأة، فإن ذلك يعمق الشكوك لا في شخصه فحسب، بل في مدى موثوقية المؤسسات الأميركية برمتها. وبمجرد أن تفقد الصدقية، يصبح استعادتها أمراً بالغ الصعوبة. وسيرث الرئيس الأميركي القادم، مهما كان نهجه، حلفاءً يجاملون ويتحوطون في آنٍ واحد، وخصوماً يختبرون وينتظرون، ونظاماً دولياً لم تعد مواقف الولايات المتحدة فيه تحمل الوزن نفسه كما في السابق.

بعبارة أخرى، سيكون لدى واشنطن عدد أقل من الأصدقاء. فبالنسبة إلى كثير من شركاء الولايات المتحدة، سيغدو التحوط خياراً اضطرارياً، بعدما فقد التملق تأثيره وأصبحت المواجهة المباشرة باهظة الكلفة. وفي المقابل، قد تكسب واشنطن خصوماً جدداً، إذ تسعى الدول التي نبذها ترمب إلى إقامة شراكات دفاعية مع منافسيها. وسيرتفع ثمن الردع، مع اضطرار المسؤولين الأميركيين إلى التعامل مع عدد متزايد من التهديدات، فيما ستجد واشنطن نفسها مضطرة إلى إنفاق المزيد لطمأنة حلفائها القلائل الباقين.

وربما تجد الولايات المتحدة نفسها بعدد أقل من الحلفاء المقربين حتى في غياب ترمب، في ظل تزايد الطابع المتعدد الأقطاب للنظام الدولي، لكن من المرجح أن يسرع نهجه غير القابل للتنبؤ هذه العملية. قد يغادر ترمب البيت الأبيض مقتنعاً بأن غموضه وتعذر التكهن بتصرفاته جعلا واشنطن أكثر قوة، وأن الأميركيين سيجنون فوائد التحالفات والصفقات التي أفرزتها تلك السياسة. وربما يرى أنه برفضه الحاجة إلى الصدقية، حرر الولايات المتحدة من القيود التي كبلت أسلافه، لكن التاريخ، على الأرجح، سيحكم بخلاف ذلك: فقد استبدل ترمب الصدقية بالتقلب، وترك وراءه أميركا أقل ثقة في أعين العالم.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2025

كيرين يارهي ميلو هي عميدة كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا، وأستاذة كرسي أدلاي إي. ستيفنسون للعلاقات الدولية. وهي محررة مشاركة، مع هيلاري كلينتون، لكتاب "في غرفة العمليات: نظرية صنع القرار في الأزمات وممارسته".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء