ملخص
يقف نظام الجمهورية الإسلامية في إيران على حافة الانهيار مع اقتراب نهاية حكم خامنئي، إذ تتآكل شرعيته داخلياً وخارجياً، وتتجه البلاد نحو تحول حتمي قد يأخذ شكل حكم عسكري أو قومي أو براغماتي جديد، بينما يتطلع الإيرانيون ببساطة إلى حياة كريمة وطبيعية بعد نصف قرن من القمع والعزلة.
للمرة الأولى منذ ما يقارب أربعة عقود، تقف إيران على أعتاب تغيير في القيادة، وربما حتى في النظام نفسه. فمع اقتراب نهاية حكم المرشد الإيرلني علي خامنئي، كشفت حرب استمرت 12 يوماً خلال يونيو (حزيران) الماضي هشاشة النظام الذي بناه. فقد قامت إسرائيل بقصف المدن والمنشآت العسكرية الإيرانية، مما مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لإسقاط 14 قنبلة خارقة للتحصينات على المواقع النووية الإيرانية. وفي الواقع، كشفت الحرب عن الهوة الشاسعة بين تبجح خطاب طهران الأيديولوجي والقدرات المحدودة لنظام فقد جزءاً كبيراً من نفوذه الإقليمي، ولم يعد يسيطر على مجاله الجوي، وأصبح يمارس سيطرة متضائلة على شوارعه. وفي ختام الحرب، خرج خامنئي البالغ من العمر 86 سنة من مخبئه ليعلن النصر بصوت أجش، وهو مشهد كان الهدف منه إظهار القوة، لكنه أظهر بدلاً من ذلك هشاشة النظام.
وفي ظل وهن عهد آية الله، فإن السؤال المركزي المطروح هو ما إذا كان النظام الثيوقراطي الذي يحكمه منذ عام 1989 سيدوم، أم سيتحول، أم سينهار؟ وأي نوع من النظام السياسي قد ينبثق بعده؟ لقد حولت ثورة عام 1979 إيران من نظام ملكي متحالف مع الغرب إلى ثيوقراطية إسلامية، فانقلبت بين عشية وضحاها تقريباً من حليف لأميركا إلى عدو لدود لها. وبما أن إيران لا تزال اليوم دولة محورية، باعتبارها قوة عظمى في مجال الطاقة، تسهم سياساتها الداخلية في تشكيل النظام الأمني والسياسي في الشرق الأوسط، وتمتد آثارها عبر النظام العالمي، فإن مسألة من سيخلف خامنئي (أو ما الذي سيخلفه) لها أهمية هائلة.
على مدار العامين الماضيين، منذ هجوم "حماس" خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الذي وجد دعماً علنياً من خامنئي وحده دون سائر قادة العالم، تبدد جهد عمره وتحول إلى رماد على يد إسرائيل والولايات المتحدة. فقد قتل أو اغتيل أقرب تلاميذه العسكريين والسياسيين. وشلت أذرعه الإقليمية. ودفن مشروعه النووي الضخم، الذي بني بكلفة باهظة على حساب الاقتصاد الإيراني، تحت الأنقاض.
وسعت الجمهورية الإسلامية إلى تحويل إذلالها العسكري إلى فرصة لحث البلاد على الالتفاف حول العلم، لكن مهانة الحياة اليومية لا مفر منها. فعدد سكان إيران البالغ 92 مليون نسمة يجعلها أكبر أمة في العالم معزولة عن النظامين المالي والسياسي العالميين منذ عقود. واقتصادها من بين أكثر اقتصادات العالم تعرضاً للعقوبات. ونسبة تدني قيمة عملتها السوقية هي الأكبر في العالم. وجواز سفرها من بين أكثر جوازات السفر المرفوضة على وجه المعمورة. والإنترنت فيها من بين أكثر الشبكات خضوعاً للرقابة، وهواؤها من بين الأكثر تلوثاً في العالم.
أما شعارات النظام الدائمة، مثل "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل"، من دون أن يردد يوماً شعار "تحيا إيران"، فتوضح أن أولويته هي التحدي لا التنمية. لقد أصبح انقطاع التيار الكهربائي وتقنين المياه جزءاً ثابتاً من الحياة اليومية. وأحد أبرز رموز الثورة، وهو الحجاب الإلزامي الذي وصفه آية الله روح الله الخميني، أول مرشد أعلى للجمهورية الإسلامية، ذات مرة بأنه "راية الثورة"، أصبح اليوم ممزقاً، إذ تتزايد أعداد النساء اللاتي يتحدين علناً إلزامية تغطية شعرهن. ومن يذكر أن عجز "الآباء" المفترضين لإيران عن فرض السيطرة على نساء البلاد لا يقل عن عجزهم عن السيطرة على مجالها الجوي.
ولكي نفهم كيف وصلت إيران إلى هذا المنعطف، لا بد من النظر إلى المبادئ التوجيهية التي أرست حكم خامنئي الممتد لـ36 عاماً. فقد استندت فترة حكمه إلى ركيزتين، هما الالتزام الثابت بالمبادئ الثورية في الداخل والخارج والرفض القاطع للإصلاح السياسي. كثيراً ما آمن خامنئي في أن تخفيف مبادئ الجمهورية الإسلامية وقيودها سيؤدي بها إلى نفس مصير الاتحاد السوفياتي حينما أطلق ميخائيل غورباتشوف سياسة الانفتاح (غلاسنوست)، مما يسرع نهايتها بدلاً من أن يطيل عمرها. كذلك، لم يتراجع خامنئي يوماً عن معارضته لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.
في الواقع، إن تقدم المرشد الإيراني علي خامنئي في السن، وتصلبه، واقتراب رحيله، جعل إيران معلقة بين انحلال طويل الأمد وانفجار مفاجئ. وبمجرد رحيل خامنئي، يمكن توقع عدة سيناريوهات مستقبلية محتملة. قد تنهار الأيديولوجية الشاملة للجمهورية الإسلامية لتتحول إلى صورة من صور حكم الرجل القوي المستبد الذي وسم روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. أو قد تسير إيران على خطى الصين بعد وفاة ماو تسي تونغ، فتعيد ضبط مسارها من خلال استبدال المصلحة الوطنية البراغماتية بالأيديولوجيا الجامدة. وقد تضاعف القمع والعزلة، مثلما فعلت كوريا الشمالية لعقود. وقد يخلي الحكم الديني المكان لهيمنة عسكرية، على غرار ما حدث في باكستان. ومع أن الاحتمال يتضاءل، لا تزال هناك إمكانية أن تميل إيران نحو الحكم التمثيلي، وهو صراع يعود تاريخه إلى الثورة الدستورية عام 1906. سيكون مسار إيران فريداً من نوعه، وهو لن يحدد مصير الإيرانيين وحياتهم فحسب، بل أيضاً مدى استقرار الشرق الأوسط والنظام العالمي الأوسع.
أسلوب الشك والريبة
غالباً ما يرى الإيرانيون أنفسهم ورثة إمبراطورية عظيمة، إلا أن تاريخهم الحديث حافل بغزوات متكررة وإهانات وخيانات. فخلال القرن الـ19، خسرت إيران ما يقارب نصف أراضيها لمصلحة جيرانها الطامعين، إذ تنازلت عن منطقة القوقاز (التي تضم اليوم أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وداغستان) لمصلحة روسيا، وتنازلت عن هرات لمصلحة أفغانستان تحت الضغط البريطاني. وبحلول مطلع القرن الـ20، كانت روسيا والمملكة المتحدة قسمتا البلاد إلى مناطق نفوذ. وخلال عام 1946، احتلت القوات السوفياتية أذربيجان الإيرانية وحاولت ضمها، ثم في عام 1953، دبرت المملكة المتحدة والولايات المتحدة انقلاباً أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق.
وولد هذا الإرث أجيالاً من الحكام الإيرانيين الذين يرون المؤامرات أينما ألقوا نظرهم، ويشكون حتى في أقرب مساعديهم، ظناً منهم أنهم عملاء لقوى أجنبية. فقد اضطر رضا شاه، مؤسس سلالة بهلوي، والزعيم الذي لا يزال كثير من الإيرانيين يجلونه حتى اليوم، على التنازل عن العرش بضغط من قوى الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب شكوكهم في تقاربه مع ألمانيا النازية. كان يشكك في "كل شيء وكل شخص"، على حد تعبير مستشاره عبدالحسين تيمورتاش. وأضاف: "لم يكن هناك في الواقع أحد في البلاد بأسرها يثق به جلالته". أما ابنه محمد رضا شاه فقد انتابه نفس الشعور أيضاً. وخلص إلى أن الوعود الأميركية الكاذبة "كلفتني عرشي"، بعد الإطاحة به في ثورة 1979. وبمجرد توليه السلطة، أعدم الخميني آلاف المعارضين بتهمة العمالة لقوى أجنبية، في حين أن خليفته، خامنئي يضفي على كل خطاب له تقريباً إشارات إلى المؤامرات الأميركية والصهيونية.
وهذا الارتياب العميق لا يقتصر على النخب، بل يجري في عروق المجتمع الإيراني كله. ففي روايته الشهيرة "خالي العزيز نابليون"، وهي رواية إيرانية محبوبة، حُولت لاحقاً إلى مسلسل تلفزيوني شهير عام 1976، يصور الروائي إيرج بزشك زاد بسخرية لاذعة رب أسرة مصاباً بجنون الارتياب يرى المؤامرات الأجنبية في كل مكان، وبخاصة البريطانية منها. ولا تزال الرواية تجسد معياراً ثقافياً، إذ تستحضر ذهنية المؤامرة التي لا تزال تشكل سياسات إيران ومجتمعها. ووفقاً لمسح القيم العالمية لعام 2020، فإن أقل من 15 في المئة من الإيرانيين يعتقدون أن "معظم الناس يمكن الوثوق بهم"، وهي من بين أدنى المعدلات في العالم.
تقف إيران على أعتاب تغيير في القيادة، وربما حتى في النظام نفسه
في النمط الإيراني المليء بالريبة والشك، يصور الغرباء على أنهم معتدون طامعون، وأهل الداخل على أنهم خونة، بينما تخضع المؤسسات لحكم الفرد. على مدار القرن الماضي، لم يحكم البلاد إلا أربعة رجال، وحلت عبادة الشخصية محل المؤسسات الدائمة، ودارت السياسة في حلقة مفرغة بين لحظات قصيرة من النشوة وأعوام طويلة من خيبة الأمل. وعمقت الجمهورية الإسلامية هذا النمط من خلال تقسيم المواطنين رسمياً إلى "داخليين" [موالين] و"خارجيين" [منبوذين وغير موثوقين]. وفي مثل هذا الجو المشبع بانعدام الثقة، يسود ما يعرف بالانتقاء السلبي، فيكافأ ضعف الأداء [والافتقار للتميز]، وترقى الشخصيات المجهولة وغير المؤثرة، ويقدر الولاء على الكفاءة.
وكان صعود خامنئي إلى السلطة عام 1989 مثالاً نموذجياً على هذه القاعدة، ومن المرجح أن المعايير ذاتها ستحدد خطة الخلافة التي يفضلها. فثقافة انعدام الثقة المتجذرة، هذه التي صاغها التاريخ، ورسخها الحكام، وتشربها المجتمع، لا تديم الحكم الاستبدادي فحسب، بل تعطل أيضاً التنظيم الجماعي اللازم لقيام حكم تمثيلي. وستستمر في إلقاء ظلالها الثقيلة على مستقبل إيران.
ونادراً ما تسير التحولات الاستبدادية وفق سيناريو محدد، ولن تشكل إيران استثناءً. سيكون موت خامنئي أو عجزه عن الحكم هو المحفز الأكثر وضوحاً للتغيير. وقد تؤدي الصدمات الخارجية، مثل انهيار أسعار النفط، وتشديد العقوبات، وتجدد الضربات العسكرية الإسرائيلية أو الأميركية، إلى زيادة زعزعة استقرار النظام. لكن التاريخ يظهر أن شرارات داخلية غير متوقعة، على غرار كارثة طبيعية، أو إحراق بائع فاكهة لنفسه، أو مقتل شابة لأنها لم تغط شعرها بصورة كافية، يمكن أن تكون بالقدر نفسه من التأثير.
على مدى ما يقارب خمسة عقود، حكمت إيران بالأيديولوجيا، إلا أن مستقبلها سيتوقف على اللوجيستيات، والأهم من ذلك كله، على من يستطيع أن يدير بصورة فعالة بلداً يفوق حجم ألمانيا بخمس مرات تقريباً، يتمتع بموارد هائلة ولكنه يواجه تحديات جسيمة. ومن رحم هذا التقلب، قد يتخذ نظام إيران ما بعد خامنئي عدة صور: حكم الرجل القوي القومي، أو استمرارية حكم رجال الدين، أو الهيمنة العسكرية، أو إحياء الشعبوية، أو مزيج فريد من هذه الصور. وتظهر هذه الاحتمالات التشرذم الداخلي في البلاد، فرجال الدين عازمون على الحفاظ على أيديولوجيا الجمهورية الإسلامية، فيما يسعى الحرس الثوري الإيراني إلى ترسيخ سلطته، ويطالب المواطنون المحرومون والمهمشون، بمن فيهم الأقليات العرقية، بالكرامة والفرص. أما المعارضة، فهي مفككة أكثر من أن تتوحد، لكنها مثابرة للغاية بحيث لا يمكن أن تختفي ببساطة. ولا يمكن اعتبار أي من هذه الفصائل كتلة واحدة متجانسة، لكن طموحاتها وتحركاتها هي التي ستحدد ملامح الصراع على هوية إيران القادمة ونوع الدولة التي ستصبح عليها في المستقبل.
إيران على غرار روسيا
تشبه الجمهورية الإسلامية اليوم الاتحاد السوفياتي خلال مراحله الأخيرة: فهي تحافظ على أيديولوجيتها المنهكة من خلال الإكراه، فيما تخشى قيادتها المتصلبة أية عملية إصلاح، وابتعد مجتمعها إلى حد كبير من الدولة. كل من إيران وروسيا دولتان غنيتان بالموارد، تملكان تاريخاً عريقاً وثقافة أدبية مشهورة، وقروناً من المظالم المتراكمة. لقد خضع كل منهما لتحول بفعل ثورة أيديولوجية - روسيا خلال عام 1917، وإيران في عام 1979 - سعت إلى قطع الصلة بالماضي وبناء نظام جديد جذرياً. وحاولت كلتاهما الانتقام وتصفية حسابات الماضي وفرض رؤية جديدة في الداخل والخارج، مما ألحق الدمار ليس بشعبيهما فحسب بل أيضاً بالدول المجاورة. وعلى رغم تناقض الأيديولوجيتين، إذ إن إحداهما متطرفة في إلحادها والأخرى ثيوقراطية، فإن أوجه التشابه مذهلة. وكما هي الحال مع الاتحاد السوفياتي، لا تستطيع الجمهورية الإسلامية التوصل إلى تسوية أيديولوجية مع الولايات المتحدة، وجنون الارتياب لديها يحول مخاوفها وريبتها إلى واقع، والنظام يحمل في طياته بذور انحلاله.
لقد تسارع انهيار الاتحاد السوفياتي بسبب إصلاحات غورباتشوف، التي أضعفت السيطرة المركزية وأطلقت العنان لقوى لم يستطع النظام احتواءها. خلال تسعينيات القرن الـ20، أدت الفوضى والنهب الأوليغارشي والفوارق الطبقية الهائلة إلى تأجيج مشاعر الاستياء وخيبة الأمل. ومن رحم هذه الاضطرابات، برز فلاديمير بوتين، الضابط السابق في جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي)، الذي وعد بالاستقرار والفخر، مستبدلاً الأيديولوجية الشيوعية بقومية مدفوعة بالاستياء [بقومية انتقامية يغذيها الشعور بالمظلومية]. وبصفته رئيساً، صور نفسه على أنه المخلص الذي سيعيد كرامة روسيا ومكانتها المستحقة في العالم.
يمكن لإيران أن تسلك مساراً مشابهاً. فالنظام مفلس أيديولوجياً ومالياً، ومحصن ضد أي إصلاح حقيقي، ومعرض للانهيار تحت وطأة الضغوط الخارجية والسخط الداخلي. وقد يخلف هذا الانهيار فراغاً تسارع النخب الأمنية والأقلية الحاكمة إلى ملئه. وقد يظهر رجل إيراني قوي، من خريجي الحرس الثوري أو أجهزة الاستخبارات، يتخلى عن الأيديولوجية الشيعية مفضلاً القومية الإيرانية القائمة على المظلومية لتصبح العقيدة المنظمة لنظام استبدادي جديد. وربما يطمح بعض المسؤولين البارزين إلى ذلك، بمن فيهم محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني الحالي والمسؤول الكبير السابق في الحرس الثوري. إلا أن ارتباطهم الطويل بالنظام الحالي يجعل هذه الشخصيات المألوفة غير مرشحة لحمل راية التغيير وإرساء نظام جديد. ومن المرجح أن يكون المستقبل لشخص أقل بروزاً اليوم، شخص أصغر سناً بما يكفي للتهرب من اللوم العام على الكارثة الحالية، ولكنه محنك بما يكفي للنهوض من بين الأنقاض.
ومن المؤكد أن أوجه الشبه ليست كاملة. فعندما انهار الاتحاد السوفياتي، كان الجيل الثالث من القيادة استلم السلطة، بينما لا تزال إيران على أبواب الجيل القيادي الثاني. كما أن إيران لم تعرف غورباتشوف الخاص بها: فقد عرقل خامنئي الإصلاح تحديداً لاعتقاده أنه سيعجل بزوال الجمهورية.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة الكبرى قائمة: عندما تنهار أيديولوجية شمولية، فإنها في الغالب لا تخلف وراءها تجدداً مدنياً، بل اليأس والعبثية. فروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي لم تتميز بازدهار ديمقراطي، بل بالسعي المحموم وراء الثروة بأي ثمن. وقد تظهر إيران ما بعد الثيوقراطية أنماطاً مماثلة: استهلاك باذخ وتفاخر بالمظاهر والماديات لتعويض الفراغ الناجم عن فقدان الإيمان وروح التضامن والهدف الجماعي.
وقد يستعير "بوتين الإيراني" بعض تكتيكات الجمهورية الإسلامية، ساعياً إلى الاستقرار من خلال زعزعة استقرار جيران إيران، وتهديد تدفقات الطاقة العالمية، وإخفاء العدوان وراء أيديولوجية جديدة، والتمتع بالثراء إلى جانب النخب الأخرى الحاكمة، بينما يعد باستعادة كرامة إيران. والدروس العميقة المستقاة من روسيا حاضرة بقوة أمام الولايات المتحدة وجيران إيران: إن موت الأيديولوجيا لا يضمن ولادة الديمقراطية. ويمكنه بسهولة أن يفضي إلى بروز طاغية جديد، متحرر من أية قيود أخلاقية، ومسلح بمظالم مستجدة، ومدفوع بطموحات جديدة.
إيران على طراز الصين
في حين فشل الاتحاد السوفياتي في التكيف قبل فوات الأوان، نجت الصين من خلال التحول البراغماتي خلال العقود التي تلت وفاة ماو عام 1976، إذ أعطت الأولوية للنمو الاقتصادي على حساب الإخلاص للأيديولوجيا الثورية. وكثيراً ما جذب "النموذج الصيني" المطلعين والمسؤولين في الجمهورية الإسلامية الذين يريدون الحفاظ على النظام لكنهم يدركون خلال الوقت نفسه أن الاقتصاد المتداعي والسخط العام الواسع النطاق يتطلبان بعض محاولات الإصلاح. في هذا السيناريو، سيظل النظام قمعياً واستبدادياً، لكنه سيخفف من مبادئه الثورية وتوجهه الاجتماعي المحافظ لمصلحة التقارب مع الولايات المتحدة، والانخراط الأوسع في العالم، والانتقال التدريجي من الثيوقراطية إلى التكنوقراطية. وسيحتفظ الحرس الثوري الإيراني بسلطته وأرباحه، ولكنه، مثل جيش التحرير الشعبي الصيني، سيتحول من النزعة الثورية المتطرفة إلى القومية المؤسسية [التعاون الوطني بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الواقع، تواجه إيران عقبتين في اتباع هذا النموذج: إرساؤه أولاً، ثم الحفاظ عليه. في الصين، بدأ ماو، مؤسس الثورة الشيوعية والزعيم الأول للنظام الجديد، تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الـ20. لكن خليفته، دينغ شياو بينغ، هو من استغل هذا الانفتاح لإعادة توجيه البلاد من العقيدة الأيديولوجية إلى البراغماتية، وإطلاق إصلاحات جذرية غيرت وجه الصين. ظهرت في إيران قيادات محتملة على غرار دينغ، بمن فيهم الرئيس السابق حسن روحاني، وحسن الخميني حفيد مؤسس الثورة، لكن لم يستطع أحد منهم تجاوز خامنئي والمتشددين حوله من ذوي الفكر نفسه، الذين آمنوا منذ زمن طويل بأن أي تنازل في شأن الأيديولوجيا الثورية، وبخاصة التقارب مع الولايات المتحدة، من شأنه أن يزعزع استقرار النظام بدلاً من تقويته.
وفي الصين، سهل وجود خصم مشترك في الاتحاد السوفياتي التقارب مع واشنطن. في المقابل، وعلى رغم أن إيران والولايات المتحدة واجهتا أحياناً أعداءً مشتركين، بمن فيهم الديكتاتور العراقي صدام حسين وجماعات مسلحة مثل تنظيم القاعدة و"طالبان" وتنظيم "داعش"، فإن العداء للولايات المتحدة وإسرائيل ظل بالنسبة إلى خامنئي محوراً أساساً لا يتزحزح. وستتطلب محاولة اتباع النموذج الصيني إما أن يتخلى خامنئي المحتضر عن معارضته الدائمة لواشنطن، وهو أمر مستبعد للغاية، أو ترتيبات لخلافة تفضي إلى زعيم أقل تشدداً.
وحتى في هذه الحال، قد تواجه إيران صعوبة في السير على خطى الصين. فالقوى العاملة الصينية الضخمة أتاحت للبلاد انتشال مئات الملايين من براثن الفقر، مما أكسب الدولة شرعية متجددة وثقة شعبية واسعة. أما إيران، على النقيض من ذلك، فتتمتع باقتصاد ريعي أشبه باقتصاد روسيا. فإذا تخلى النظام عن أيديولوجيته من دون تحقيق تحسينات ملموسة، فإنه يخاطر بفقدان قاعدته الشعبية الحالية من دون كسب مؤيدين جدد.
إذا أصبحت إيران أقل أيديولوجية وطبعت علاقاتها مع الولايات المتحدة وتخلت عن معارضتها لوجود إسرائيل، سيمثل ذلك تحسناً ملحوظاً مقارنة بالوضع الراهن. ومع ذلك، تظهر تجربة الصين أن النمو الاقتصادي والتكامل الدولي يمكنهما أيضاً أن يغذيا طموحات إقليمية وعالمية أكبر، مما يستبدل تحديات أخرى جديدة بتحديات اليوم. وليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت إيران قادرة على الحفاظ على استقرارها الداخلي خلال هذه المرحلة الانتقالية المضطربة.
إيران على طراز كوريا الشمالية
إذا استمرت الجمهورية الإسلامية في تغليب الأيديولوجيا على المصالح الوطنية، فقد يصبح مستقبلها شبيهاً بواقع كوريا الشمالية اليوم: نظام لا يستمر من خلال الشرعية الشعبية، بل من خلال الوحشية والعزلة. كان خامنئي على الدوام يميل إلى الإبقاء على نظام الحكم القائم على سلطة المرشد الأعلى، رجل دين متزمت ملتزم بالمبادئ الثورية المتمثلة في مقاومة الولايات المتحدة وإسرائيل، والحفاظ على التقيد بالعقيدة الإسلامية الصارمة في الداخل. ومع ذلك، وبعد مرور ما يقارب خمسة عقود على ثورة 1979، فإن قلة من الإيرانيين يرغبون في العيش تحت نظام يحرمهم من الكرامة الاقتصادية ومن الحريات السياسية والاجتماعية. واستمرار مثل هذا النظام سيتطلب سيطرة شمولية، وربما سلاحاً نووياً لردع الضغوط الخارجية.
في هذا السيناريو، ستبقى السلطة في أيدي زمرة ضيقة أو حتى ضمن عائلة واحدة. على رغم أن خامنئي قد يسعى إلى هندسة خلافته لمصلحة شخص سيبقى مخلصاً للمبادئ الثورية، فإن عدد المرشحين المحتملين محدود جداً، إذ إن قلة من رجال الدين المتشددين، إن وجدوا، يتمتعون بدعم قاعدة شعبية أو شرعية. كان إبراهيم رئيسي، الذي اعتبر ذات يوم المرشح الأبرز، توفي في حادثة تحطم مروحية خلال مايو (أيار) 2024 أثناء توليه منصب رئيس إيران. وبذلك يبقى مجتبى نجل خامنئي البالغ من العمر 56 سنة، أبرز المرشحين المحتملين. لكن الخلافة الوراثية ستكون خيانة مباشرة لأحد المبادئ الأساس للثورة: إصرار الخميني على أن النظام الملكي هو نظام "مناف لقيم الإسلام".
ارتياب عميق يجري في عروق المجتمع الإيراني كله
أما بقية المرشحين المتشددين فلا يبعثون مزيداً من الثقة. فرئيس السلطة القضائية الإيرانية الصارم غلام حسين محسني أجئي البالغ من العمر 69 سنة، لا يُعرف إلا بكونه قاضي أحكام الشنق وتورط في عشرات حالات الإعدام، وربما أشهر أفعاله العلنية كانت حين عض صحافياً انتقد الرقابة. وأية خلافة يقودها شخص من هذا النوع لن تقوم على الرضا الشعبي، بل على ولاء الحرس الثوري. لكن من غير الواضح ما إذا كان الحرس سيستمر في الخضوع لرجال الدين المسنين في مجلس الخبراء، الهيئة المكلفة تعيين المرشد الأعلى القادم، أم أنه، حين تحين اللحظة، سيختار بنفسه القائد الأعلى القادم للجمهورية.
إن نموذج كوريا الشمالية سيتصادم مع مجتمع يطمح إلى انفتاح وازدهار يشبهان ما حققته كوريا الجنوبية. فقليل من الإيرانيين سيقبلون بنظام يعلي من شأن الأيديولوجيا على حساب الرفاه الاقتصادي والأمن الشخصي، وبدرجة أشد من النظام الحالي. وسيستلزم الحكم الشمولي سجناً جماعياً في الداخل، وهجرة جماعية للكوادر المهنية إلى الخارج، وربما درعاً نووياً لردع الضغوط الأجنبية. ولكن خلافاً لكوريا الشمالية، لا تستطيع إيران أن تعزل نفسها بإحكام: فإسرائيل تهيمن على أجوائها وأثبتت مراراً قدرتها على ضرب المواقع النووية وقواعد الصواريخ وكبار القادة.
إذا كان المرشد الأعلى القادم متشدداً آخر، فسيكون على الأرجح شخصية انتقالية، تحافظ على النظام لبعض الوقت، من دون أن تصوغ نظاماً جديداً مستقراً. ذات مرة، كتب المفكر الإيراني العلماني أحمد كسراوي الذي اغتاله الإسلاميون عام 1946، أن إيران "تدين" لرجال الدين بفرصة واحدة للحكم، لكي تنكشف إخفاقاتهم. وبعد ما يقارب خمسة عقود من سوء الإدارة الثيوقراطية، يمكن القول إن هذا الدين سدد بالكامل. وإذا كان العهد المقبل لإيران سيشهد ظهور رجل قوي جديد، فمن غير المرجح أن يضع عمامة.
إيران على طراز باكستان
إذا كان مستقبل إيران مرتبطاً بالحرس الثوري، فإن أقرب سابقة يمكن الاستشهاد بها هي باكستان. فمنذ الثورة، تحولت الجمهورية الإسلامية تدريجاً من دولة دينية إلى دولة أمنية يهيمن عليها الحرس. ولد الحرس الثوري عام 1979 كـ"حرس الثورة"، وكانت مهمته حماية النظام من الانقلابات الخارجية والمعارضة الداخلية والخيانة المحتملة في جيش الشاه، وتوسع بصورة كبيرة خلال الحرب الإيرانية العراقية. بعد ذلك، انخرط في مجالات التجارة والموانئ والبناء والتهريب والإعلام، ليتحول إلى كيان هجين مركب: جزء منه قوة عسكرية وجزء منه تجاري وجزء منه تنظيم سياسي. واليوم، يشرف الحرس الثوري على البرنامج النووي الإيراني، ويقود ميليشيات بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ويهيمن على قطاعات كبيرة من الاقتصاد. وبسبب توسع نفوذه أصبح ينطبق على إيران بصورة متزايدة القول المأثور عن باكستان إنها "ليست دولة لها جيش، بل جيش له دولة".
إن مخاوف خامنئي تربط حكمه بالحرس الثوري. فالغزوات الأميركية لأفغانستان والعراق منحت الحرس الثوري الإيراني مبرراً لتوسيع موازنته وتمويل وكلائه في الخارج وتسليحهم، بينما زادت العقوبات من ثراء المنظمة من خلال تحويل موانئ إيران إلى قنوات للتهريب غير المشروع. لكن الحرس الثوري الإيراني ليس كتلة متجانسة ومتماسكة، بل هو مجموعة من الكارتلات المتنافسة التي جرى احتواء خصوماتها وتناقضاتها، الجيلية والمؤسساتية والتجارية، تحت سلطة خامنئي. ومن المرجح أن يبرز رحيله هذه الخلافات إلى العلن.
أحد السيناريوهات التي قد ينتقل فيها الحرس الثوري الإيراني من موقع الهيمنة إلى الحكم المباشر يتمثل في أن يسمح بتفاقم الاضطرابات قبل أن يتدخل بصفته "منقذ الأمة". وسيكون ذلك تكراراً لنموذج الجيش الباكستاني، الذي كثيراً ما برر هيمنته بتقديم نفسه كحامٍ للوحدة الوطنية في مواجهة الهند والتفكك الداخلي. بالنسبة إلى الحرس الثوري الإيراني، لا تتطلب هذه الاستراتيجية تهميش رجال الدين فحسب، بل أيضاً تحويل المبدأ التنظيمي للدولة نفسها من الأيديولوجيا الثورية الشيعية إلى القومية الإيرانية. يستمد رجال الدين شرعيتهم من الله، أما الحرس فسيستمدونها من الوطن.
لكن هيمنة الحرس الثوري الحالية ليس من المفترض أن تفهم على أنها دليل على شعبيته. فخامنئي يختار قياداته العليا بنفسه، وتُبدَّل باستمرار لمنع تراكم سلطات واسعة في يد مسؤولين أفراد، ويرتبط اسمها على نطاق واسع بالقمع والفساد وعدم الكفاءة. وكما أخبرني سياماك نمازي، وهو أميركي احتجزه الحرس الثوري رهينة لثمانية أعوام: "إيران اليوم عبارة عن مجموعة من المافيات المتنافسة، يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني وخريجوه، وولاؤهم الأسمى ليس للوطن أو الدين أو الأيديولوجيا، بل للثراء الشخصي".
لقد أبرزت اغتيالات إسرائيل لنحو 20 من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، في مخابئهم وغرف نومهم، مدى هشاشة الجماعة أمام الاختراق، وضعف المؤسسة لأنها تعطي الأولوية للولاء الأيديولوجي على حساب الكفاءة. ولكي يدوم نظام الحرس الثوري الإيراني، فإنه يتطلب، على الأرجح، جيلاً جديداً من القادة، أقل تزمتاً من أولئك الذين غرسهم خامنئي، قادرين على استقطاب الجمهور من خلال القومية بدلاً من الأيديولوجيا الدينية.
في حال صعود الحرس الثوري إلى الحكم، فإن مصير البلاد سيتحدد بحسب نوع القائد الذي يتصدر المشهد. فالقائد المدفوع بالضغائن والأحقاد قد يصور نفسه على أنه بوتين الإيراني، مستبدلاً النزعة القومية بالإسلاموية مع استمرار المواجهة مع الغرب. ستكون المسألة النووية محورية. في كتاباتهم، كثيراً ما يقارن المخططون الاستراتيجيون في الحرس الثوري الإيراني بين مصير صدام والديكتاتور الليبي معمر القذافي اللذين سقطا من دون امتلاك سلاح نووي، مع نظام كوريا الشمالية، الذي يمتلك أسلحة نووية وبقي صامداً. ستواجه إيران بقيادة الحرس الثوري الإيراني المعضلة نفسها، المتمثلة في السعي وراء امتلاك قنبلة من أجل ضمان البقاء أو التخلي عنها طلباً للاعتراف الدولي والمكاسب المترتبة.
ومثل باكستان، ستكون إيران في هذه الحالة دولة لا يحكمها رجال الدين بل جنرالات قوميون حريصون على إشعال حماسة شعبهم، ويتأرجحون باستمرار بين المواجهة مع الغرب والسعي إلى التفاهم معه.
إيران على طراز تركيا
من حيث المساحة والسكان والثقافة والتاريخ، لا تكاد إيران تجد من يشبهها أكثر من تركيا، وهي دولة مسلمة أخرى، غير عربية، شديدة الاعتزاز بنفسها، مثقلة بإرث طويل من انعدام الثقة بالقوى العظمى. وتقدم التجربة التركية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان نموذجاً ممكناً لمسار مشابه: انتخابات تأتي بزعيم محبوب إلى السلطة، وإصلاحات أولية تلقى صدى لدى المواطنين العاديين، ثم انزلاق تدريجي نحو استبداد تتبعه الغالبية متستر بعباءة الديمقراطية.
لكي تسلك إيران هذا المسار، يتطلب الأمر تغييراً مؤسسياً شاملاً. يجب أن تفكك طبقات السلطة المعقدة والمتشابكة في الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك مكتب المرشد الأعلى، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس خبراء القيادة، وأن يدمج الحرس الثوري الإيراني في الجيش النظامي، وأن تمنح سلطات حقيقية للمؤسسات المنتخبة التي جردت من فاعليتها إلى حد كبير. ومن دون هذه الشروط المسبقة، لا يمكن أن تتجذر سياسات حقيقية قائمة على التنافس والمحاسبة.
مع ذلك، لن تبدأ إيران من الصفر. وكما أشار عالم الاجتماع كيان تاج بخش، فإن إنشاء النظام لآلاف المجالس المحلية والهيئات البلدية أنتج "مؤسسات ذات استخدام مزدوج: أنشئت لخدمة نظام استبدادي، لكنها مهيأة هيكلياً لدعم التحول الديمقراطي، إذا أتيحت لها الفرصة". في الواقع، مارس الإيرانيون منذ فترة طويلة صور الحكم التمثيلي من دون التمتع بجوهره ومحتواه الفعلي.
ومن الممكن أن يبرز زعيم شعبوي من أية انتخابات نزيهة نسبياً. ففي بلد غني بالموارد ويعاني تفاوتاً اجتماعياً عميقاً، كثيراً ما كانت الشعبوية قوة متكررة في السياسة الإيرانية الحديثة. ففي عام 1979، انتقد الخميني الشاه وداعميه الأجانب، واعداً بتوفير خدمات ومرافق عامة مجانية، والسكن للجميع، وثروة نفطية توزع على الشعب بدلاً من النخبة الفاسدة. وبعد جيل، تولى الرئاسة عام 2005 محمود أحمدي نجاد عمدة طهران غير المعروف، متعهداً بوضع "أموال النفط على موائد الشعب". وسواء من خلال انتخابات مفتوحة أو تنافسية، قد تشهد إيران ما بعد خامنئي مجدداً صعود دخيل شعبوي ذي مؤهلات قومية وقدرة على توظيف الغضب الشعبي ضد النخب والأعداء الأجانب على حد سواء.
هذا المسار لن يقود إيران إلى الديمقراطية الليبرالية، لكنه أيضاً لن يبقي على حكم رجال الدين. بل سيمزج الشرعية الشعبية بالسلطة المركزية، وإعادة التوزيع بالفساد، والقومية بالرمزية الدينية. ويرى كثير من الإيرانيين أن هذا أفضل من استمرار الحكم الثيوقراطي أو العسكري. ومع ذلك، توضح تجربة تركيا أن الشعبوية قد تفتح الباب ليس أمام التعددية، بل أمام صورة جديدة من الاستبداد، صورة تستمد قوتها من الجماهير ومن صناديق الاقتراع.
حياة طبيعية وكريمة
يعلمنا التاريخ التواضع في التنبؤ. خلال ديسمبر (كانون الأول) 1978، قبل شهر واحد فقط من رحيل الشاه، كتب جيمس بيل، وهو باحث أميركي بارز في الشؤون الإيرانية، ضمن مجلة "فورين أفيرز" أن "البديل الأكثر ترجيحاً" للشاه سيكون "مجموعة يسارية تقدمية من ضباط الجيش المتوسطي الرتب". وأشار إلى أن السيناريوهات الأخرى تشمل "مجلساً عسكرياً يمينياً، ونظاماً ديمقراطياً ليبرالياً قائماً على النماذج الغربية، وحكومة شيوعية". وكتب بيل: "لا داعي لأن تخشى الولايات المتحدة من أن أية حكومة مستقبلية في إيران ستكون بالضرورة معادية للمصالح الأميركية". والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه قبل أسابيع فحسب من استيلاء رجال الدين الإيرانيين على السلطة، توقع بيل أنهم "لن يشاركوا قط بصورة مباشرة في البنية الحكومية الرسمية". وحتى المثقفون الإيرانيون أساءوا تقدير الأحداث. فقبل أسابيع من ترسيخ الخميني لنظامه الديني وبدء عمليات الإعدام الجماعية، أعلن أحد أبرز المفكرين الإيرانيين الفيلسوف داريوش شايغان، أن "الخميني هو غاندي إسلامي. إنه محور حركتنا".
وتماماً مثلما أربكت أحداث عام 1979 كل الأطراف في الداخل والخارج، فإن سيناريوهات غير متوقعة تظل ممكنة اليوم أيضاً. فنظراً إلى غياب البدائل، يتطلع بعض الإيرانيين إلى رضا بهلوي، نجل الشاه المنفي، الذي تعزى شهرته الواسعة إلى نشاطات إلكترونية صغيرة تروج للحنين إلى حقبة ما قبل الثورة. ومع ذلك، وبعدما أمضى ما يقارب نصف قرن في الخارج، سيحتاج إلى التغلب على غياب التنظيم والقوة الميدانية لينتصر في الصراعات الشرسة التي تميز التحولات الاستبدادية. وهناك احتمال آخر، ربما يكون أكثر ما يخشاه عدد من الوطنيين الإيرانيين، بمن فيهم حتى المعارضون الشرسون للنظام، وهو تفكك على غرار ما حدث في يوغوسلافيا على أسس عرقية. قد ترى الأقليات الإيرانية في إضعاف السلطة المركزية فرصة للتمرد أو للبدء من جديد. ولكن على النقيض من يوغوسلافيا، فإن إيران ترتكز على هوية أقدم وأكثر تماسكاً: فأكثر من 80 في المئة من الإيرانيين هم من الفرس أو الأذريين، ويتحدث جميعهم تقريباً الفارسية كلغة مشتركة، وحتى المجموعات غير الفارسية تعد نفسها جزءاً من دولة لها تاريخ متواصل يمتد لأكثر من 2500 عام.
في جوهرها، تبدو إيران مجدداً لقمة سائغة، مع مستقبل قد يختلف بصورة جذرية. ستستفيد الولايات المتحدة وبقية العالم من مرحلة ما بعد الجمهورية الإسلامية إذا كانت دولة تقودها المصلحة الوطنية بدلاً من العقيدة الثورية. وكما كتب الدبلوماسي هنري كيسنجر ذات مرة: "إيران من بين الدول القليلة التي تتوافق مصالحها مع الولايات المتحدة، وتقل أسباب النزاع معها". ومع ذلك، فقد أبرزت تجربة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق حدود النفوذ الخارجي: فحتى الاستثمارات الضخمة في الأرواح والمال لا يمكن أن تملي النتائج السياسية. وتواجه روسيا قيوداً مماثلة. قد تفضل موسكو استمرار جمهورية إسلامية تشكل شوكة دائمة في خاصرة واشنطن ومصدراً لعدم الاستقرار يفاقم أخطار الطاقة العالمية. لكن على رغم بذلها قصارى جهدها، لم تستطع موسكو منع انهيار نظام الأسد، حليفها في سوريا. على النقيض من ذلك، فإن الصين، تستفيد بدرجة أكبر من إيران تحقق كامل إمكاناتها كقوة عظمى في مجال الطاقة، لا من إيران تصدر الفوضى وعدم الاستقرار.
تمتلك إيران كل المقومات اللازمة لتكون جزءاً من دول مجموعة الـ20
ومع ذلك، ومهما بلغ تأثير القوى الخارجية في ترجيح كفة الميزان، فإن إيران اليوم كيان كبير ومرن بما يكفي لتحديد مصيره بنفسه. فهي تمتلك كل المقومات اللازمة لتكون جزءاً من دول مجموعة الـ20: شعب متعلم ومتصل بالعالم، وموارد طبيعية هائلة، وهوية حضارية عريقة يفتخر بها الإيرانيون. ولكن، بالنسبة إلى الديمقراطيين الإيرانيين، فإن المناخ الدولي لا يمكن أن يكون أقل ملاءمة. فالحكومات الغربية التي كانت يوماً ما مناصرة للديمقراطية سحبت مواردها، وهي منشغلة بالتراجع الديمقراطي الذي تعانيه هي نفسها. أما الولايات المتحدة فقد قلصت مؤسسات كانت محورية في نجاحها خلال الحرب الباردة، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية وصوت أميركا. وفي ظل هذا الفراغ، يرجح أن تسير إيران في الاتجاه العالمي السائد، الذي يصل فيه الأقوياء إلى السلطة من خلال تأكيد فضائل النظام بدلاً من وعد الحرية.
قد لا تكون إرادة الغالبية هي التي تحدد مسار التحول في إيران، لكن بقدر ما يسعى الطامحون سياسياً إلى استمالة الرأي العام، تبرز حقيقة واضحة: الإيرانيون لا يتوقون إلى شعارات جوفاء، أو عبادة الأشخاص، أو حتى المفاهيم المثالية للديمقراطية. إن ما يرغبون فيه قبل كل شيء هو حكومة كفؤة وخاضعة للمساءلة، قادرة على استعادة كرامتهم الاقتصادية، وتمكينهم من عيش حياة طبيعية [زندگي نرمال (zendegi-e normal)] أي حياة عادية خالية من قبضة الدولة الخانقة التي تراقب ما يرتدونه، وما يشاهدونه، وكيف يحبون، ومن يعبدون، وحتى ما يأكلونه ويشربونه.
لقد مثلت فترة حكم الجمهورية الإسلامية نصف قرن ضائعاً من تاريخ إيران. فبينما تحولت جاراتها في الخليج العربي إلى مراكز عالمية للتمويل والنقل والتكنولوجيا، بددت إيران ثرواتها في مغامرات إقليمية فاشلة وبرنامج نووي لم يجلب لها سوى العزلة، كل ذلك خلال وقت قمعت فيه وأهدرت أعظم مصادر ثروتها: شعبها نفسه. ولا تزال البلاد تمتلك الموارد الطبيعية والطاقات البشرية التي تؤهلها لتكون من بين الاقتصادات الرائدة في العالم. ولكن ما لم تتعلم طهران من أخطائها وتعد ترتيب أولوياتها السياسية، فسيبقى مسارها مسار انحدار لا تجدد. والسؤال ليس ما إذا كان التغيير قادماً، بل ما إذا كان سيحقق أخيراً ربيعاً طال انتظاره، أم مجرد شتاء آخر.
كريم سجادبور هو زميل بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
مترجم عن "فورين أفيرز"، نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2025