ملخص
الحرب التجارية بين واشنطن وبكين لم تعد مجرد صراع على الرسوم الجمركية، بل تحولت إلى اختبار للذكاء الاقتصادي والجيوسياسي، يضع القارة أمام معادلة دقيقة حول كيفية الموازنة بين الإغراءات الصينية المتدفقة والفرص الأميركية المشروطة من دون أن تفقد استقلال قرارها.
ربما تكون الحرب التجارية بين واشنطن وبكين فرصة، تلهم أفريقيا لبناء المرونة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على التجارة غير المتوازنة، ومرآة تعكس مدى استعدادها لاستثمار التحولات العالمية لصالحها. وربما تكون فخاً جديداً.
تحولت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى أكثر من مجرد خلاف حول الرسوم الجمركية أو توازن الميزان التجاري، فبدت كمعركة رمزية على إعادة تعريف قواعد النظام الاقتصادي العالمي وموازين القوى. فمنذ أن تبنت واشنطن نهجاً أكثر انكفاء في ظل إدارة دونالد ترمب، مستندة إلى نزعة حمائية تغلفها لغة الأمن القومي، باتت العلاقات التجارية أداة صريحة لإعادة هندسة النفوذ الدولي. وفي المقابل، سعت بكين إلى تحويل هذا التوتر إلى فرصة لترسيخ حضورها في فضاءات كثيراً ما عُدت هامشية في الاستراتيجية الأميركية، وفي مقدمها القارة الأفريقية.
تبدو أفريقيا اليوم كما لو كانت مرآة تعكس تناقضات النظام الدولي المعاصر، فهي قارة الفرص الواعدة والموارد الغنية، لكنها في الوقت ذاته ساحة اختبار للتنافس بين القوى الكبرى. فبينما تواصل الصين بناء شبكتها الواسعة من الموانئ والطرق وخطوط السكك الحديد ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، تسعى الولايات المتحدة ببطء إلى إعادة صياغة علاقتها بالقارة من خلال استراتيجيات تزاوج بين النفوذ الاقتصادي والأمن الإقليمي والدبلوماسية التنموية. لكن خلف هذا التنافس المحموم، ثمة سؤال أكثر عمقاً يطل برأسه، وهو هل تستطيع الدول الأفريقية تحويل الصراع التجاري إلى رافعة تنموية تمكنها من فرض شروط أكثر عدلاً في علاقتها بالقوى الكبرى، أم إنها ستجد نفسها مرة أخرى على هامش لعبة تدار من خارج حدودها؟
كشفت الحرب التجارية الأميركية، التي فرضت تعريفات جمركية تصل في بعض الحالات إلى 145 في المئة على السلع الصينية وامتدت إلى شركاء آخرين، عن هشاشة النظام التجاري الدولي المعتمد على مبدأ الترابط المتبادل. ومع تصاعد إجراءات رد الفعل الذي تجاوز قيمته 200 مليار دولار، لم تعد الخسائر اقتصادية فحسب، بل طاولت الثقة في آليات الحكم العالمي. وبالنسبة إلى أفريقيا، فإن ارتدادات هذه المواجهة ليست عابرة، فهي تعيد رسم خريطة تدفقات الاستثمار وسلاسل الإمداد وأسعار المواد الأولية، مما يجعل القارة أمام مفترق طرق، إما أن تكون طرفاً فاعلاً في صياغة المستقبل الاقتصادي العالمي، أو أن تبقى رهينة تفاعلات قوى تتنازع النفوذ فوق أرضها.
سلسلة متشابكة
يمكن تتبع جذور الحرب التجارية الراهنة بين الولايات المتحدة والصين إلى سلسلة متشابكة من التحولات البنيوية في الفكر الاقتصادي والسياسي الأميركي، بدأت ملامحها الأولى بالظهور في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، لكنها تبلورت بصورة حاسمة مع صعود إدارة الرئيس دونالد ترمب عام 2017. فقد مثل ذلك العام لحظة فاصلة في مسار الاقتصاد العالمي، حينما قررت واشنطن التخلي عن إرث سبعة عقود من قيادة النظام التجاري الليبرالي المتعدد الأطراف، لتتبنى سياسة تقوم على مبدأ "أميركا أولاً"، حيث أضحت التجارة أداة لإعادة التوازن إلى الداخل الأميركي أكثر من كونها وسيلة لترسيخ النظام الاقتصادي العالمي.
في جوهر هذه التحولات، كانت الولايات المتحدة تواجه أزمة هوية اقتصادية، إذ بدأت قطاعاتها الصناعية التقليدية في التراجع لمصلحة سلاسل توريد عالمية تتمركز في آسيا، وعلى رأسها الصين، التي تحولت خلال عقدين فقط من "مصنع للعالم" إلى منافس استراتيجي في مفاصل التكنولوجيا والإنتاج. في هذا السياق، جاءت التعريفات الجمركية الأميركية الأولى على الصلب والألمنيوم عام 2018 بمثابة إعلان رمزي لبداية حرب تجارية أعمق من مجرد أرقام، واستطاعت أن تمس جوهر التوازن الصناعي والتكنولوجي بين أكبر اقتصادين في العالم. فبينما سلطت الأضواء على الرسوم الجمركية المتبادلة واضطرابات سلاسل التوريد وكلف التصنيع في الولايات المتحدة وأوروبا، امتدت الهزات الاقتصادية بهدوء عبر القارة الأفريقية، مؤثرة في التجارة ومعدلات الفقر وآفاق التنمية على المدى الطويل.
خلال إدارة ترمب، أعادت واشنطن التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وفرضت تعريفات جمركية متزايدة على أكثر من 360 مليار دولار من الواردات الصينية، مستهدفة قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والطاقة المتجددة. وفي المقابل، ردت بكين بإجراءات مماثلة، مركزة على المنتجات الزراعية الأميركية، في محاولة للضغط على القاعدة الانتخابية للرئيس الأميركي. ومع أن إدارة جو بايدن قدمت خطاباً أكثر هدوءاً، إلا أنها لم تلغ جوهر هذه السياسات، بل ثبتت معظم الرسوم الجمركية، وعززت الاستثمار في التصنيع المحلي وأمن سلاسل الإمداد من خلال تشريعات مثل قانون خفض التضخم لعام 2022 وقانون الرقائق والتكنولوجيا.
تكشف هذه الاستمرارية عن إجماع أميركي نادر بين الحزبين على أن المنافسة مع الصين تجاوزت الاقتصاد إلى صراع استراتيجي أوسع حول من يمتلك مستقبل الابتكار والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. فالحرب التجارية لم تعد مجرد سلاح في معركة الأسعار، بل غدت عنواناً لمرحلة جديدة من الصراع الجيواقتصادي.
اختبار تاريخي
على مدى العقدين الماضيين، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للقارة الأفريقية، متجاوزة شركاء تقليديين مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وفق بيانات مبادرة "أبحاث الصين وأفريقيا" التابعة لجامعة جونز هوبكنز. ففي عام 2024، بلغت قيمة التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا نحو 295.56 مليار دولار، بزيادة 4.8 في المئة عن العام السابق، لتحتفظ بكين بموقعها كأكبر شريك تجاري لأفريقيا للعام الـ15 على التوالي، بحسب وكالة "إيكوفين" الاقتصادية الأفريقية. كما بلغت الاستثمارات الصينية في القارة 29.2 مليار دولار، بارتفاع 34 في المئة، وتركزت في قطاعات الطاقة والتعدين والنقل والتكنولوجيا، وهو ما يعكس استمرار سياسة "الاستثمار مقابل الموارد" التي تقوم عليها مبادرة "الحزام والطريق".
أشارت أستاذة السياسات العامة في جامعة ماساتشوستس أمهرست إليزابيث م. شميدت، إلى أن الصين لم تعد تكتفي بدور الممول والمستورد للموارد الطبيعية، بل تحولت إلى شريك بنيوي في التنمية الأفريقية عبر مشروعات البنية التحتية الكبرى، من السكك الحديد والموانئ إلى محطات الطاقة والمدارس والمستشفيات. ومع ذلك تواجه بكين اليوم تحديات اقتصادية داخلية تقلص من قدرتها التمويلية، فبعد أن بلغ الإقراض الصيني لأفريقيا ذروته عام 2016 عند 28 مليار دولار، انخفض إلى أقل من مليار دولار عام 2022، قبل أن يتعافى جزئياً إلى 4.61 مليار دولار عام 2023.
في المقابل، تتبنى الولايات المتحدة نهجاً مختلفاً في تعاملها مع القارة. فعلى رغم توسع علاقاتها الاقتصادية، تظل سياستها أكثر انتقائية وتركز على مبادرات محددة مثل قانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا) ومبادرة "ازدهار أفريقيا" وشراكة البنية التحتية العالمية الهادفة إلى تعزيز الاستثمار الخاص والبنية التحتية المستدامة ومواجهة النفوذ الصيني. ومع ذلك يمكن أن تؤثر اتجاهات السياسة الأميركية الحالية والمستقبلية على مسار قانون "أغوا"، مما قد يضر بالاقتصادات الأفريقية. وعلى رغم أن حجم التجارة بين الجانبين لا يزال متواضعاً مقارنة بالصين، إذ تراوح ما بين 65 و75 مليار دولار في الأعوام الأخيرة، فإن واشنطن تعتمد على أدوات أكثر مؤسساتية وشفافية، مع ربط التمويل بالإصلاحات الاقتصادية والحكم الرشيد.
وبينما تركز الصين على النفاذ إلى الموارد والأسواق عبر التمويل السريع والبنية التحتية الملموسة، تميل الولايات المتحدة إلى بناء القدرات المؤسساتية وتعزيز القطاع الخاص. وبينما تجسد السياسة الصينية براغماتية اقتصادية ذات طابع تنموي مباشر، تعبر المقاربة الأميركية عن رؤية أكثر حذراً، توازن بين الاقتصاد والقيم السياسية. وبين هذين النموذجين، تقف أفريقيا أمام اختبار تاريخي، حول كيفية تحويل التنافس بين القوى الكبرى إلى أداة لتحقيق تنمية ذات سيادة ومسار مستقل في النظام الاقتصادي العالمي المتغير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انقسام المواقف
تتصاعد الانقسامات في المواقف الأفريقية إزاء هذه الحرب التجارية، إذ لم تعد القارة تنظر إلى هذا الصراع بوصفه شأناً بعيداً منها، بل باعتباره مسألة تمس صميم خياراتها التنموية وموقعها في خريطة الاقتصاد العالمي. ففي وقت ترى فيه دول مثل كينيا وغانا ورواندا أن الشراكة مع الولايات المتحدة تمثل رافعة للاستفادة من التكنولوجيا والابتكار والتمويل القائم على الحوكمة، تميل دول أخرى مثل إثيوبيا وأنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى تعميق علاقاتها مع الصين التي تقدم تمويلاً سريعاً وبنية تحتية مادية من دون شروط سياسية صارمة. وبين هذين الاتجاهين، تسعى دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر إلى اتباع نهج براغماتي مزدوج، يوازن بين واشنطن وبكين تبعاً لطبيعة المشروعات والمصالح الوطنية.
هذا التباين لا يعكس فقط اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية داخل القارة، بل يعبر أيضاً عن إدراك متباين لطبيعة القوة الاقتصادية العالمية. فبالنسبة إلى دول مثل كينيا، تبدو مبادرة "ازدهار أفريقيا" الأميركية أكثر اتساقاً مع طموحاتها في بناء اقتصاد رقمي متكامل وتعزيز دور القطاع الخاص. في المقابل، تجد دول مثل إثيوبيا أو زامبيا في مبادرة "الحزام والطريق" فرصة لتحقيق قفزات سريعة في البنية التحتية والنقل والطاقة. أما نيجيريا وجنوب أفريقيا، فتتبنيان مقاربة أكثر واقعية، إذ تواصلان التفاوض مع الجانبين، مستفيدتين من التنافس بينهما لتعظيم المكاسب في مجالات التصنيع والطاقة المتجددة والاستثمار التكنولوجي.
وقد عبر بعض القادة الأفارقة صراحة عن هذا النهج، فالرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا صرح خلال منتدى بريكس 2024 أن "أفريقيا لا ينبغي أن تجبر على الاختيار بين شريكين عالميين، بل تبني نموذج تعاون يخدم مصالحها السيادية، وأن مجموعة ‘بريكس‘ لا تستهدف التنافس مع القوى العالمية بل تسعى إلى تعزيز تعاون الجنوب العالمي وتحقيق توازن دولي".
وفي هذا السياق، حذرت صحيفة "أفريكان بيزنس" من أن انقسام الدول الأفريقية بين واشنطن وبكين قد يضعف مشروع "منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية"، الذي يفترض أن يوحد الأسواق ويعزز الاكتفاء القاري. ومع ذلك خلصت الصحيفة إلى أن "مستقبل القارة لا يكمن في الانحياز، بل في استراتيجية عدم انحياز اقتصادية جديدة"، تقوم على توسيع الشراكات مع أطراف ثالثة، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان ودول الخليج، بما يضمن للقارة هامش استقلال أكبر في زمن تتقاطع فيه الجغرافيا مع الجيواقتصاد على نحو غير مسبوق.
مفترق طرق
تقف أفريقيا أمام مفترق طرق حاسم بين أن تكون رقماً هامشياً في معادلة كبرى، أو فاعلاً يفرض منطقه وشروطه. فالحرب التجارية بين واشنطن وبكين لم تعد مجرد صراع على الرسوم الجمركية، بل تحولت إلى اختبار للذكاء الاقتصادي والجيوسياسي، يضع القارة أمام معادلة دقيقة حول كيفية الموازنة بين الإغراءات الصينية المتدفقة والفرص الأميركية المشروطة من دون أن تفقد استقلال قرارها.
أدركت بعض الدول الأفريقية أن القيمة الحقيقية لا تكمن في المساعدات ولا في اتفاقات التفضيل التجاري، بل في تحويل موقع القارة الجغرافي وثرواتها الطبيعية وسوقها الشابة إلى أدوات تفاوض تمكنها من إعادة تعريف علاقتها بالقوى الكبرى، بيد أن هذا الطموح يصطدم بعقبات عميقة من هشاشة البنى التحتية وضعف المؤسسات إلى تباين الإرادات السياسية داخل الاتحاد الأفريقي ذاته.
في المقابل، لا تزال القوى الكبرى تتعامل مع أفريقيا بوصفها "فضاء مفتوحاً" للمنافسة الاقتصادية والنفوذ الاستراتيجي. وبينما تعد الصين بشراكات "متكافئة" في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، تعيد الولايات المتحدة صياغة حضورها عبر أدوات جديدة كـ"مبادرة الرخاء الأفريقي" ومشاريع الطاقة النظيفة. لكن كليهما يخفي خلف لغة التعاون، منطق المصالح أولاً. وهنا يبرز الجدل حول استطاعة الدول الأفريقية في أن تحول هذا التنافس إلى فرصة لبناء قاعدة إنتاجية مستقلة، أو تجد نفسها مرة أخرى تدار من الخارج وتعاد صياغة أولوياتها وفق مصالح الآخرين. ومع أن إمكانات التحول قائمة، لكن تحققها مرهون بقدرة الأفارقة على توحيد الرؤية الاقتصادية ووضع استراتيجيات تعطي الأولوية للتصنيع الإقليمي، ولتعميق سلاسل القيمة داخل القارة لتتجاوز دور المستهلك إلى دور المنتج، وأن تتحول من ملعب للمصالح إلى لاعب مؤثر في صياغة قواعد اللعبة.
ربما تكون الحرب التجارية بين واشنطن وبكين فرصة، تلهم أفريقيا لبناء المرونة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على التجارة غير المتوازنة ومرآة تعكس مدى استعدادها لاستثمار التحولات العالمية لصالحها. وربما تكون فخاً جديداً، تجاوزه مرهون بقدرتها على تعزيز تكاملها الإقليمي وتنفيذ "منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية" وبناء منظومات إنتاج فاعلة.