ملخص
جاءت حملة الاتحاد الأفريقي بالتخلي عن خريطة ميركاتور التي وضعت في القرن الـ16 وتبديلها بنسخة أكثر دقة لتعكس حجم أفريقيا الحقيقي، في ظل تصاعد المطالب بالتعويض عن الاستعمار والعبودية وإعادة الاعتبار للتاريخ الأفريقي.
"أفريقيا شاسعة بصورة مذهلة، لدرجة أنها تتجاوز الافتراضات الشائعة التي يظنها أي شخص قابلته تقريباً، فهي تضم الولايات المتحدة الأميركية بأكملها والصين والهند إضافة إلى اليابان وأوروبا بأكملها تقريباً، مجتمعة".
أطلق الاتحاد الأفريقي حملة لإعادة تعريف صورة أفريقيا في المخيلة العالمية، داعياً إلى التخلي عن خريطة ميركاتور التي وضعت في القرن الـ16 وتبديلها بنسخة أكثر دقة تعكس المساحة الحقيقية للقارة السمراء. هذه الدعوة ليست مجرد تعديل تقني، بل فعل يعيد التوازن لتمثيل العالم بصرياً بعد قرون من التشويه. فقد صممت الخريطة القديمة على يد رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس ميركاتور عام 1569، لأغراض الملاحة، لكنها خلقت انحيازاً جغرافياً رسخ تفوق مناطق الشمال على الجنوب، فوسعت أميركا الشمالية وغرينلاند في حين قلصت بصورة صارخة مساحة أفريقيا وأميركا الجنوبية، وهو ما انعكس على وعي الأجيال وصناعة القرار عبر الإعلام والتعليم والسياسات.
وتعكس تصريحات نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، سلمى مليكة حدادي، جوهر هذا التحرك حين أكدت أن "الخريطة قد تبدو مجرد أداة، لكنها في الواقع ليست كذلك"، مشيرة إلى أن ميركاتور رسخ انطباعاً بأن أفريقيا "هامشية"، على رغم كونها ثاني أكبر قارة في العالم من ناحية المساحة وتحتضن أكثر من مليار نسمة من السكان، وموطناً لـ55 دولة عضواً٠ في الاتحاد. "هذا الإدراك بأن التمثيل البصري ليس بريئاً، بل هو حامل لسرديات القوة، يمثل لحظة مفصلية في سعي أفريقيا إلى استعادة موقعها في النظام الدولي".
جاءت حملة الاتحاد تحت هدف "استعادة مكانة أفريقيا المستحقة على الساحة العالمية"، في ظل تصاعد المطالب بالتعويض عن الاستعمار والعبودية وإعادة الاعتبار للتاريخ الأفريقي. فدعوة الاتحاد الأفريقي إلى اعتماد خرائط أوسع نطاقاً ومناقشة الإجراءات الجماعية مع الدول الأعضاء، ذكر أنها ليست مجرد مبادرة رمزية، بل هي إعادة رسم للوعي الجمعي العالمي حول موقع أفريقيا ودورها، إذ إن إعادة النظر في الخرائط هي في جوهرها إعادة نظر في موازين القوة والمعرفة، وفتح أفق جديد يعكس الوزن الحقيقي للقارة السمراء وموقعها في قلب العالم، لا على هامشه.
حملة تضليل
ويرى كثر أن سلسلة من تجاهل المعرفة الجغرافية للشعوب الأفريقية، تمت منذ أن رافق المساحون البعثات الاستعمارية، وملأ رسامو الخرائط الأوروبيون الخرائط بخطوط التجارة والموارد والمساحات الفارغة. ثم تجسد هذا النمط بوضوح في مؤتمر برلين 1885، حين اجتمعت القوى الأوروبية لتقسيم القارة من دون أي تمثيل أفريقي.
في الأعوام الأخيرة، عاد النقاش حول الخرائط العالمية إلى واجهة الاهتمام، ففي إطار حملة "صحح الخريطة"، التي تقودها منظمتا "أفريقيا بلا فلتر" و"تحدث بصوت عال في أفريقيا"، طرحت تساؤلات عميقة حول الإرث الكامن في خريطة ميركاتور وأثره في إدراك الشعوب الأفريقية ذاتها. تقول المديرة التنفيذية لـ"أفريقيا بلا فلتر" موكي ماكورا "الحجم الحالي لخريطة أفريقيا خاطئ، إنها أطول حملة تضليل إعلامي في العالم، ويجب أن تتوقف بكل بساطة".
من جانبها، ذكرت المؤسسة المشاركة لمنظمة "تحدثوا عن أفريقيا" فارا ندياي، أن "خريطة ميركاتور أثرت في هوية الأفارقة وفخرهم، خصوصاً الأطفال الذين قد يواجهونها في مرحلة مبكرة من الدراسة". ومن هنا تأتي دعوة الحملة لمنظمات كبرى مثل البنك الدولي والأمم المتحدة لاعتماد خريطة "الأرض المتساوية" لعام 2018، التي تسعى إلى تمثيل أكثر دقة للأحجام والمسافات. وقد أفاد متحدث باسم البنك الدولي بأنهم يستخدمون بالفعل إسقاط "الأرض المتساوية" للخرائط الثابتة، ويتوقفون تدريجاً عن استخدام ميركاتور في الخرائط الرقمية. وأكد متحدث باسم الأمم المتحدة أن الطلب المقدم إلى هيئة الأمم المتحدة الجغرافية المكانية سيراجع من قبل لجنة ممتخصصين قبل اعتماده رسمياً.
وفي بعد آخر، أشارت نائبة رئيس لجنة التعويضات في الجماعة الكاريبية دوربرين أوماردي، إلى أن تبني خريطة "الأرض المتساوية" هو بمثابة رفض لـ"أيديولوجية القوة والهيمنة" التي جسدتها خريطة ميركاتور. وأردفت "لم يعد نقد إسقاط ميركاتور مجرد مسألة تقنية تتعلق بالدقة الجغرافية، بل أصبح فعلاً رمزياً لاستعادة الهوية وتفكيك السرديات الغربية التي قلصت من مكانة أفريقيا".
تصورات جماعية
يروي مصمم البرمجيات الألماني كاي كراوس أنه حين طلب من مجموعة "إيدج أورغ" التكنولوجية إعداد خرائط "غير مألوفة" لمعرض الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، قدم خريطة بسيطة رسمها في منتصف الثمانينيات كنموذج لتصور علمي. يقول "أفريقيا شاسعة بصورة مذهلة، لدرجة أنها تتجاوز الافتراضات الشائعة التي يظنها أي شخص قابلته تقريباً، فهي تضم الولايات المتحدة الأميركية بأكملها والصين والهند إضافة إلى اليابان وأوروبا بأكملها تقريباً، مجتمعة".
سرد مصمم البرمجيات فكرته بأن وضع هذه الكتل الجغرافية داخل حدود أفريقيا، كقطع أحجية تتلاءم بصرياً مع شكلها الخارجي. ويضيف "هي بالطبع صورة رمزية، مجرد بقع لسرد القصة، لكنها نجحت في توصيل الفكرة بصرياً وحسياً". غير أن المفاجأة تمثلت في أن هذا التصور البسيط تحول إلى موجة انتشار عالمية، ليحصد عشرات الآلاف من المشاركات ومئات الآلاف من الردود.
وأوضح كراوس "تعكس هذه القصة كيف أن ملايين البشر تلقوا معرفتهم الجغرافية على خلفية إسقاط ميركاتور، الذي تحول إلى معيار غير مفكر فيه في نشرات الأخبار وأغلفة الأطالس المدرسية، حتى صار التصور الشامل للكوكب محكوماً بخرائط تصغر أفريقيا وتضخم مناطق أخرى". وأضاف "الحقيقة الأساسية هي أن الكرة الأرضية ثلاثية الأبعاد، وعند عرضها على سطح ثنائي الأبعاد، لا بد أن يضيع شيء ما".
وأفاد كراوس "بعبارة أخرى، إذا حافظنا على أشكال القارات كما اعتدناها، فستبدو أفريقيا أقل بكثير من حجمها الفعلي. أما إذا أعيد ضبط النسب لتكون صحيحة، فسيتعين تمديد أفريقيا بصورة أكبر بكثير مما هو شائع اليوم. وهكذا يتضح أن التمثيل الخرائطي لم يكن يوماً محايداً، بل صاغ تصورات جماعية تقلل من شأن أفريقيا حتى في أذهان النخب المتعلمة، بفارق يصل إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف عن حجمها الحقيقي".
تجسيد التباين
بعد نحو 140 عاماً على انعقاد مؤتمر برلين في 1884، الذي قسم أفريقيا بين القوى الاستعمارية من دون أية مشاركة أفريقية، أقيم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، معرض "الحجم الحقيقي لأفريقيا" في موقع التراث العالمي في ألمانيا، واستمر حتى أغسطس (آب) الماضي. وروج للمعرض كفرصة لإعادة تقييم التصورات العالمية عن قارة أفريقيا، من خلال تسليط الضوء على تاريخها الغني وثقافتها المتنوعة، بعيداً من الصور النمطية التي رسختها الخرائط التقليدية.
كتبت ماريا كوبر، من الجمعية الجغرافية الأميركية "أدارت الإمبراطورية الرومانية مخازن حبوبها في شمال أفريقيا، وازدهرت الممالك في جميع أنحاء أفريقيا قروناً، والقارة هي مهد البشرية. ومع ذلك فقد صورت أفريقيا على خرائط العالم منذ عهد ميركاتور على أنها أصغر من حجمها الحقيقي، ولا تزال تقلل من شأنها سواء من ناحية نطاقها الجغرافي أو أهميتها في تاريخ العالم".
وأوردت "تمكن المعرض من تجسيد التباين بين الحقيقة التاريخية والصورة المشوهة، كذلك سلط الضوء على الانتشار العالمي للشتات الأفريقي، الناتج جزئياً عن النزوح القسري للأفارقة عبر العصور. ويحوي مزيجاً من التاريخ الثقافي والفن المعاصر، ويضم أعمالاً لفنانين أفارقة. وتعرض قطع فنية، وتدمج مع الآلات الصناعية، مما يتيح للزوار تجربة التقاء الحداثة الصناعية الأوروبية بثقافة أفريقيا الغنية والمضيئة والمتعددة الأوجه".
وتابعت كوبر "يعيد المعرض التفكير في أفريقيا ليس كمجرد مساحة جغرافية، بل كحاضنة حضارات وثقافات وإبداعات، ويتيح للزوار إدراك حجمها الحقيقي، بما يعكس عمقها التاريخي وأهميتها الاقتصادية والثقافية والسياسية في العالم الحديث، ويؤكد ضرورة رؤية القارة وشعوبها وفقاً لحقائقها الواقعية وليس وفق الصور النمطية المفروضة تاريخياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة اعتبار
يرى الأستاذ في جامعة كيب تاون المسهم في مبادرة "أفريقيا بلا فلتر"، كارلوس لوبيز، أن دعم الاتحاد الأفريقي "دليل على أن أفريقيا ترفض أن تبقى هامشية". ويضيف "هذه المبادرة ليست مجرد نقاش حول رسم الخرائط، بل نقاش حول الكرامة والتعليم وحتى الدبلوماسية"، مؤكداً أن اللحظة الراهنة تمثل انبعاثاً جديداً للهوية الأفريقية في زمن ما بعد الاستعمار. ويشير إلى أن "الخرائط ليست رسوماً بريئة، بل أدوات لصياغة المخيلة العالمية، فإذا بدت أفريقيا أصغر مما هي عليه، مقارنة بالقارات الأخرى، فإن وزنها في مخيلة المواطنين وصناع القرار يتضاءل أيضاً". ويرى أن "تصحيح الخريطة بمثابة استعادة للواقع، لأن الخرائط غير الصحيحة تقوض القدرة على العمل".
ويؤكد لوبيز "إنها المرة الأولى التي تتخذ فيها مؤسسة أفريقية موقفاً واضحاً في شأن التمثيل البصري لأفريقيا"، موضحاً أن دعم الاتحاد الأفريقي يحول ما بدأ "مطلباً ثقافياً ومدنياً إلى سياسة قارية تستهدف العالم أجمع". ويورد "الإسقاطات الجديدة للخرائط تعيد توزيع القارات بطريقة غير تقليدية، مع التركيز على الترابط البشري والكوكبي، لتتحدى بذلك الأيديولوجيا المرئية للشمال والجنوب، وتكشف عن أن الفوارق في الأهمية ليست طبيعية بل نتاج قرارات تصميمية. إن تقديم أفريقيا بحجمها الحقيقي يبرز الترابط بين القارات ويتيح رؤية القارة كساحة إستراتيجية حقيقية، لا مجرد مستودع موارد".
ويؤكد لوبيز أن "تصحيح الخريطة باستخدام معايير الحجم الفعلي يعيد وضع أفريقيا كمركز اقتصادي وجغرافي ضخم. فالقارة تمتلك موارد طبيعية هائلة، نحو 30 في المئة من احتياطات العالم من الذهب، و65 في المئة من الكوبالت العالمي، و12 في المئة من النفط، إضافة إلى مساحة زراعية صالحة تبلغ نحو 6 ملايين كيلومتر مربع. وسكانها، الذين تجاوز عددهم 1.2 مليار نسمة، يمثلون سوقاً ضخمة قابلة للتوسع، مع معدل نمو سكاني يصل إلى 2.5 في المئة سنوياً". ويتابع "هذا التصحيح البصري والفكري يعزز إعادة تقييم السياسات الاقتصادية والتنموية، ويسمح بتصور مستقبل أفريقيا بحجمها الحقيقي، بما يتيح تعزيز التكامل الإقليمي واستثمار الطاقة المتجددة والزراعة والتعدين وتنمية البنى التحتية اللوجيستية لتسهيل التجارة الداخلية والخارجية". ويرى أن إدراك الحجم الحقيقي للقارة ليس مسألة جمالية بل خطوة إستراتيجية تعيد الاعتبار لقدرات أفريقيا، وتصحح الصورة الذهنية الراسخة عن دونيتها، وتحولها إلى قوة اقتصادية وسياسية وثقافية فاعلة على الصعيد العالمي".
مسار التوازن
مع أن تصحيح صورة أفريقيا وحجمها في العقل الجمعي العالمي ربما يدعم التنمية المستدامة ويصقل الوعي بالقوة الحقيقية للقارة، بعيداً من الصور النمطية التي فرضتها عقود من الإسقاطات التقليدية، لكن مع ذلك هناك عوامل أخرى متجذرة تسهم في أزمات القارة غير حجمها المموه. قال الصحافي الأوغندي أندرو موندي "ربما يرتسم في الأذهان أن تصحيح الخرائط وتحقيق إنصاف جغرافي يمكن أن يشكل حلاً رمزياً سحرياً لتحديات القارة، ويعيد ترتيب إدراك العالم حجم أفريقيا وأهميتها. لكن، هذه الرؤية الرمزية وحدها لا تكفي لإعادة الديناميكيات إلى مسار التوازن الحقيقي".
وأوضح موندي "يتجذر التخلف في إرث الاستعمار، الذي أنتج حدوداً اصطناعية وهياكل تابعة للغرب. فالخريطة ليست مجرد رسم، بل هي أداة تحكم، صنعت عبرها القوى الاستعمارية شبكة التبعية الاقتصادية والسياسية. وهناك استدامة الفساد والمحسوبية التي تجعل من ثروة الشعوب أداة لتمكين النخب، وتحول دون بناء مؤسسات قوية تسعى إلى تحقيق العدالة والتنمية. كذلك فإن النزاعات المستمرة والقوى الخارجية المتنافسة على النفوذ تغرق أية محاولة للتنمية الحقيقية، والنزاعات تصبح أكثر من مجرد نزاعات حدودية، إنها صراعات على المشاريع التنموية". وأضاف "نقص البنية التحتية في التعليم والصحة والطاقة والنقل، لا يجعل القارة رهينة فقط للاستدانة الخارجية، بل يضعف القدرة المحلية على التقدم والبناء. كذلك فإن هجرة العقول تضعف القدرة الداخلية على الابتكار والقيادة، وتهدر رأس المال البشري الحيوي. كذلك اعتماد الأسواق على الاستيراد وتزييف القيمة المضافة الوطنية يحول الاقتصاد إلى مجرد مستورد، فيظل الإنتاج الحقيقي محصوراً في الغياب". ويرى أنه "على رغم أن تصحيح الخريطة يحمل قيمة رمزية حقيقية، لكنه لا يكفي، لأن قارة بحجم أفريقيا لا ترسم كخريطة، بل تبنى كقوة".