ملخص
تمر علاقات واشنطن ولندن بأزمة بسبب فشل محاكمة بريطانيين متهمين بالتجسس لمصلحة الصين، فقد حذرت إدارة دونالد ترمب حكومة كير ستارمر من عدم اتخاذ الخطوات اللازمة لإنجاح المحاكمة، فيما يوجه اللوم إلى مستشار الأمن القومي في بريطانيا جوناثان باول إزاء محاولات إرضاء بكين على حساب الأمن القومي والتحالف الاستراتيجي مع أميركا.
العلاقة مع الصين تشكل هاجساً للحكومات البريطانية المتعاقبة منذ أعوام عدة وبخاصة بعد "بريكست"، فخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي منحها هامشاً من الحرية في نسج علاقاتها الخارجية مع العالم بعيداً من محددات بروكسل، ولكن تبين للندن لاحقاً أن التعامل مع بكين ليس بالأمر السهل ومحفوف بأخطار عدة.
تصنف بريطانيا الصين على أنها "تهديد استراتيجي" ولكن القطيعة مع هذا التهديد تكاد تكون مستحيلة كما هو التحالف والصداقة معه. وحرص "المحافظين" عندما كان في السلطة على "شعرة معاوية" مع بكين، وكذلك فعل "العمال" عندما وصل إلى إدارة الدولة خلال شهر يوليو (تموز) 2024، لكن يبدو أن ذلك ليس مناسباً لأميركا.
قبل عام ونصف العام تقريباً اعتقل بريطانيان بتهمة التجسس لمصلحة الصين، التهمة ذاتها وجهت إلى غريس كاش وكريستوفر بيري، وفق قانون الأسرار الرسمية عام 1911، وفحواها "جمع المعلومات والتسجيلات والوثائق والملاحظات التي يمكن أن تخدم العدو" خلال نحو عامين من الزمن تقريباً بين عامي 2021 و2023، التحقيقات حولهما أجراها مكتب مكافحة الإرهاب داخل العاصمة لندن، وكان من المفترض أن تبدأ محاكمتهما هذه الأيام ولكن فجأة أطلق سراحهما بحجة عدم كفاية الأدلة للمضي في هذه القضية الحساسة.
تبادلت الحكومة والادعاء العام الاتهامات في شأن نقص الأدلة التي تدين المتهمين. قال رئيس الوزراء كير ستارمر إن المسؤولين لم يتمكنوا من تقديم البراهين اللازمة للمحاكمة لأن الحكومة السابقة التي كان يقودها "المحافظين" بزعامة ريشي سوناك لم تصنف الصين على أنها تهديد للأمن القومي عندما وقع الجرم، لكن اتضح لاحقاً أن جهازي الاستخبارات الداخلية (أم أي 5) والخارجية (أم أي 6) وحكومة سوناك فعلوا ذلك.
زعيمة حزب "المحافظين" كيمي بادينوك، قالت إن حكومة كير ستارمر تعمدت إفشال قضية التجسس والتستر عليها، فضللت الجمهور والبرلمان وعرض علاقات المملكة المتحدة مع أقرب حلفائها إلى الخطر، لافتة إلى أن رئيس الوزراء "الضعيف" يحاول استرضاء الصين ولو على حساب الأمن القومي للمملكة المتحدة، وطالبت بمثوله أمام البرلمان على الفور، والكشف عن تصرفات حكومته وخططه لإصلاح هذه "الكارثة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حجة ستارمر سقطت وأربكت حساباته، أما الطامة الكبرى فكانت عندما تلقت لندن تحذيراً جدياً من البيت الأبيض في شأن إسقاط القضية، وبحسب صحيفة "التايمز" قال الحليف الأميركي لحكومة "العمال" إن الفشل في محاكمة الجاسوسين يؤثر في العلاقات الثنائية ويهدد تبادل المعلومات الاستخباراتية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتقول الصحيفة إن الرئيس دونالد ترمب قلق إزاء "صدقية" الحكومة البريطانية في إسقاط التهمة عن الجاسوسين، ونقلت "التايمز" عن مسؤول أميركي لم تسمه، أن أميركا دأبت على تحذير حلفائها من التهديد الصيني منذ الولاية الأولى لترمب، وهي تشارك المعلومات الأمنية مع الحكومات المعرضة لـ"لإكراه والتأثير" بحرص، وهي "حذرة خصوصاً في الولايات القضائية التي يمكن أن يتصرف فيها الخصوم دون عقاب".
محاكمة الباحث كاش والأكاديمي بيري وهما في العقد الثالث من عمرهما، تحولت إلى مأزق في العلاقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، دخل على خطها أعضاء في الكونغرس الأميركي بينهم جون مولينار، رئيس لجنة العلاقات مع الصين في مجلس النواب، الذي حث لندن على اتخاذ الخطوات اللازمة لإنجاح المحاكمة وتحقيق العدالة، وفق تعبيره.
ثمة تصريح لمسؤول في حكومة البريطانية تناقلته وسائل الإعلام المحلية، يقول فيه إن إفشال المحاكمة كان بغرض إرضاء الصين التي تطمح المملكة المتحدة بتعاون اقتصادي معها، قد يجلب مليارات الجنيهات الاسترلينية الخزانة المثقلة بالديون ونقص الموارد في ضوء عجز ورثه "العمال" من الحكومة السابقة تتباين تقديرات المتخصصين في شأنه.
حذر مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات الخارجية (أم أي 6) من التنازل للصين في قضية الجاسوسين، ويبدو أن عراب هذا التنازل هو مستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول المدرج كصديق لشبكة مكونة 48 شخصية تشكل نادياً لتعزيز علاقات بكين مع العالم، وهم على علاقة جيدة مع الحزب الشيوعي الصيني وفق موقع الشبكة.
يبدو أن قضية الجاسوسين ليست أول خدمة يؤديها باول للصين، إذ قال مصدر في المنزل رقم 10 وسط لندن، إن مستشار الأمن القومي هو من دفع باتجاه تخلي بريطانيا عن جزيرة تشاغوس لدولة موريشيوس حليفة بكين، وهي صفقة بذل ستارمر جهداً كبيراً لإقناع ترمب بجدواها وضماناتها عندما زار البيت الأبيض في فبراير (شباط) الماضي.
بين قضية الجاسوسين وجزيرة تشاغوس، شهدت علاقات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أزمة تخص السفارة الصينية الجديدة، إذ حذرت واشنطن قبل أشهر قليلة من منح تراخيص لبناء تلك المنشأة الضخمة لبكين في لندن، وأيدها نواب في البرلمان البريطاني طالبوا حكومة ستارمر بمزيد من التوضيحات والخرائط لتبديد شكوك كثيرين إزاء احتمال تحول السفارة إلى معتقل لمعارضي الحزب الشيوعي الصيني في البلد الأوروبي.
تراخيص السفارة الصينية الجديدة عالقة في أدراج حكومة ستارمر، وقد رفضت بكين عبر سفيرها لدى بريطانيا توفير مزيدا من الخرائط والتوضيحات إذا لم تقدم لندن ضمانات بالموافقة على البناء بعد الحصول عليها، واللافت أن شركة "جينجي" الصينية، المالكة لشركة "بريتيش ستيل" عرضت التنازل عن مليار جنيه استرليني، تعادل 1.34 مليار دولار، من تعويضاتها عن مصانع الصلب التي أممتها الحكومة البريطانية أخيراً في منطقة "سكنثورب" شمال شرقي إنجلترا، إذا حصلت بكين على رخصة السفارة الجديدة.
الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية ريتشارد ديرلوف، يقول إن أسئلة كثيرة تدور حول ملاءمة جوناثان باول لوظيفة مستشار الأم القومي، وبرأيه لا يجوز أن تقدم حكومة ستارمر تنازلات للصين في قضية الجواسيس، وإن كان باول يدفع في هذا الاتجاه فهو غير مناسب للعمل في هذا المنصب، على حد تعبيره.