ملخص
توثق رواية "مجد عابر" لجوان سالاس مأساة الحرب الأهلية الإسبانية عبر ثلاثة أصوات متقاطعة تكشف عبثية القتال وتشظي الأيديولوجيات من خلال شخصية جولي سوليراس المملوءة بالتناقضات.
تعد رواية "مجد عابر" (دار صفصافة) للكاتب الكتالوني جوان سالاس إحدى أبرز كلاسيكيات الأدب الكتالوني، بقلم أحد أهم المبدعين والمترجمين في هذه اللغة. تستعيد الرواية أجواء الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت في ثلاثينيات القرن الـ20 بين الجمهوريين والفاشيين، وصدرت طبعتها الأولى عام 1956، لتصبح لاحقاً مرجعاً أدبياً مهماً ترجم إلى لغات عديدة. وفي عام 2017 جرى تحويلها إلى فيلم سينمائي بعنوان Uncertain Glory من إخراج أجوستي فيلارونجا. وأخيراً صدرت ترجمتها العربية عن الكتالونية مباشرة بتوقيع المترجم المصري عبدالسلام باشا.
يذكر جوان سالاس في المقدمة التي وضعها لروايته تحت عنوان "اعتراف المؤلف" إلى أن اسم "مجد عابر" مستمد من مقطع في مسرحية شكسبير "سيدان من فيرونا" (الفصل الأول، المشهد الثالث): "ما أشبه ربيع هذا الحب في مجده العابر بأحد أيام شهر أبريل، يسطع فيه نور الشمس، وقد أخذ الآن يحتجب وراء السحاب".
ويرى النقاد أن العنوان يحيل إلى الحماسة التي فجرها إعلان فرانشيسك ماسيا بقيام جمهورية كتالونيا في الـ14 من أبريل (نيسان) من شرفة قصر الجنراليتات. وقد وصف سالاس هذا اليوم، في مقابلة نشرت بعد وفاته بقليل، بأنه أسعد أيام حياته، على رغم إدراكه لاحقاً لزوال ذلك المجد الموقت.
أهوال الحرب
تنقسم رواية "مجد عابر" إلى ثلاثة أجزاء، يرويها ثلاث شخصيات مختلفة منتظمة في أتون الحرب الأهلية الإسبانية، التي اندلعت معاركها بين الجمهوريين والفاشيين لنحو عامين. الجزء الأول يأتي بصيغة مذكرات يدونها "لويس"، خريج كلية الحقوق، من قلب الجبهة عن وقائع حياته ومعاركه اليومية، أما الجزء الثاني فيتخذ شكل رسائل ما بين "تريني ميلماني" وصديق زوجها تمزج بين الحنين الشخصي وأهوال الحرب، بينما يروى الجزء الثالث على لسان "كرويس" المساعد الطبي الذي ينهل من اللاهوت وهو ينغمس في خدمة الجرحى على خطوط النار.
وتتقاطع هذه الأصوات الثلاثة عبر شخصية محورية تشكل صلب الرواية، هو "جولي سوليراس"، الشاب المملوء بالتناقضات والغريب الأطوار الذي جمع بين البطولة المفرطة والجبن الفاضح، فهو المقاتل الذي يهاجم كتيبة كاملة بمفرده فيوقع في صفوفها الجرحى والقتلى، ثم لا يلبث أن يفر من معركة أخرى ليختبئ في مغارة يقرأ فيها رواية جنسية غير عابئ بخفض رتبته العسكرية. قاتل في صف الجمهوريين، ثم انقلب ليحارب مع الفوضويين، في مسار يشي بالفوضى الفكرية والاضطراب الوجودي، رويت عنه حكايات عديدة حتى تحول إلى أسطورة بين الجنود: الفوضويين "كان فتى غريباً فظاً، منفراً وجذاباً في الوقت نفسه قيلت عنه حكايات غريبة جداً، ونسجت حوله ما يشبه الأسطورة في اللواء، وبشكل حتمي كان الناس يشعرون بالحيرة إزاء التناقضات التي بدا أنها ترضيه وتمتعه، يمكنه الدفاع عن معظم الأفكار المعاكسة... كان أذكى شخص قابلته في حياتي" (ص: 465- 466).
غواية لا تقاوم
وتبلغ تناقضات جولي العبثي الفوضوي ذروتها حين يدفع "تريني مليماني"، صديقته وزوجة صديقه "لويس"، إلى اعتناق المسيحية والتعميد، على رغم أنها تنحدر من عائلة لا دينية، وفي وقت كانت الكنائس تحرق فيه، والرهبان يضطهدون، ويقتلون.
ينبع هذا الموقف الغريب من إدراكه العميق لحاجة الإنسان، وسط هذه الحروب العبثية التي تبدو بلا غاية، إلى الإيمان بشيء ما يخلصه من فراغ المعنى. ففي عالم يطغى فيه العبث وتتفكك فيه القيم، يصبح العدم الخيار الوحيد المنطقي والعقلاني، لأنه وحده يبدو خالياً من الغموض.
في روايته "مجد عابر" يضع جوان سالاس القارئ أمام أحد أبرز التحولات الجمالية التي ميزت ما بعد الحداثة عن الحداثة، الولع بما هو عابر وزائل. فإذا كان كتاب الحداثة قد انشغلوا بالبحث عن الجوهر الثابت والمعنى الخالد، فإن سالاس يحتفي بما لا يدوم، بما يلمع للحظة ثم يخبو. في أجواء الحرب الأهلية الإسبانية، لا يقاتل الأبطال من أجل خلاص تاريخي أو خلود أسطوري، بل من أجل ومضة قصيرة من المجد، لحظة تكثف المعنى، حتى وإن لم تترك أثراً باقياً. هنا يصبح المجد عارضاً لا مؤسساً، غواية لا تقاوم، تعري هشاشة الإنسان أمام فتن اللحظة وتكشف عن أن البطولة ليست إلا "مجداً عابراً" لا أكثر.
تقوم "مجد عابر" على تصوير حالة من التشظي وغياب النسق الجامع، فتجتمع في جبهة واحدة أو على رقعة صراع واحدة، تيارات هي في الأصل متنافرة: فوضويون، جمهوريون من الوسط واليسار، اشتراكيون ديمقراطيون، انفصاليون، شيوعيون منقسمون بين ستالينيين وتروتسكيين، كتلانيون بروليتاريون… إلخ. تشرذم لا يقتصر على المشهد السياسي والعسكري ويمتد إلى وعي الفاعلين أنفسهم الذين يعيشون إحساساً خانقاً بغياب الجدوى: "أشعر أحياناً أنني مرهق جداً ومنسحق جداً والرغبة في الرحيل عن هذا العالم، حيث يبدو أنه لا يمكن محاربة أي ظلم دون السقوط في ظلم أسوأ منه" (ص406).
وتظهر الحرب في الرواية كفضاء للإنهاك والانقسام، إذ تتحول القناعات إلى شظايا، وتتحول البطولات إلى أفكار عبثية بلا معنى والنضال نفسه شكلاً من أشكال التيه الوجودي وليس وسيلة للبحث عن تحقيق العدل أو الخلاص من حالة التيه الوجودي تلك.
تشريح للنفس البشرية
تتميز "مجد عابر" بعمق لافت في تشريح النفس البشرية ورصد تناقضاتها في زمن الحرب. لا تكتفي بسرد الوقائع العسكرية أو السياسية، في شكل يوميات أو رسائل، ولكنها تؤرخ للجانب النفسي والوجداني لما يمر به العسكريون والمدنيون على حد سواء داخل الرواية. ففي أجواء الحرب الأهلية الإسبانية تتعاقب على الشخصيات مشاعر متنافرة: وحدة خانقة، وخذلان، وغياب للجدوى، وإحساس بعبثية الحياة والحرب وغياب المعنى، وقلق دائم، وجنون، ورغبة في الانتحار. تصوير دقيق يجعل من الرواية مرآة للإنسان في لحظات الانهيار القصوى، تتعرى دوافعه وتظهر هشاشته أمام قسوة الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى المستوى الخارجي لتأثير الحرب، توازن الرواية بين رصد ما يجري في المدن وما يحدث في القرى. ففي كتالونيا، يتبدى أثر الحصار في صور متكررة من القسوة اليومية، شح المواد الغذائية وصعوبة الحصول عليها، البيوت التي تنهار فوق أهلها تحت القصف، والفوضى التي تعم الشوارع. أما في القرى، إذ تتمركز كتيبة "لويس"، فنرى عالماً آخر أبسط، لكنه لا يقل مأسوية، جنود يتغذون على ما يتركه الفلاحون هرباً من الحرب، فلاحات عاجزاًت عن فهم أبعاد الحرب أو التمييز بين الفرقاء المتحاربين. الجدة التي تخدم المحارب "لويس"، تفعل ذلك بدافع أمومي بحت لأنها تملك حفيداً أخذ غصباً إلى الجبهة، معتقدة أن رعايتها للضابط ستضمن أن يجد حفيدها من يرعاه في مكان آخر، لكن المفارقة القاسية أن الحفيد يقاتل في الجبهة المضادة، كما يخيل لـ"لويس" أنه قد قتله في إحدى المعارك التي دارت بين الفريقين.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن جون سالاس (1912 – 1983) شارك في الحرب الأهلية الإسبانية مقاتلاً في صفوف الجمهوريين، ثم عاش تسع سنوات في المنفى بعد هزيمتهم، قبل أن يعود إلى بلاده ليسهم في تعزيز الثقافة الكتالونية. واستطاع، بفضل أعماله وإصراره على الكتابة بلغته الأم، أن يحتل مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية والثقافية الكتالونية.