ملخص
تستحضر الكاتبة المصرية هناء متولي في مجموعتها القصصية "ثلاث نساء في غرفة ضيقة" وجوهاً عالقة بين القمع الذكوري والاغتراب الوجودي، ولا تجد خلاصها إلا في الجنون أو الانتحار.
يسيطر البعد الوجودي على المجموعة القصصية "ثلاث نساء في غرفة ضيقة" (بيت الحكمة - القاهرة)، للكاتبة هناء متولي، فبطلاتها يرزحن تحت وطأة ضغوط نفسية واجتماعية قاسية تدفعهن إلى الانتحار أو الجنون أو الهجرة، فيما تتغلغل مشاعر الفقد والحزن في مسارات حياتهن.
إلى سيلفيا بلاث
تتجلى هذه الروح منذ العتبات الأولى، عبر الإهداء أو الرسالة التي توجهها المؤلفة إلى سيلفيا بلاث (1932 - 1963) بما تمثله من مكانة بارزة في الحركة النسوية المعاصرة، في إبداعها وتجسيدها معاناة النساء. تراها متولي ملهمة كبرى جعلتها تدرك كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، لم تتخذ الكتابة وسيلة للنجاة، وإنما الطائر الذي يحلق فوق الخراب باحثاً عن عش في الفراغ اللامتناهي، ومن هذا القبس المرير تعلن القاصة أنها ستكتب "لا لتهرب بل لتجد نفسها بين الرماد".
كما تبرز المجموعة مقولة بلاث الشهيرة: "أخشى أن أبقى وحدي مع عقلي"، لتغدو عتبة إضافية كاشفة عن حضور الروح الوجودية في النصوص، وعن الحس النسوي الذي يتشابك بعمق مع حياة وكتابة سيلفيا بلاث المعروفة.
أزمة مؤلف
تأخذ المجموعة عنوانها من قصة "ثلاث نساء في غرفة ضيقة"، التي تتناول ثلاث شخصيات نسوية من ثلاثة أعمال للكاتب الراحل محمد البساطي. هؤلاء النسوة تجعل منهن متولي بطلات لقصتها، التي تتكئ على محاكمته رمزياً، من جانبهن، احتجاجاً على الصور التي رسمها لهن، باعتبارها "تنتقص من قدرهن". يلاحقنه في كل مكان حتى يغدو عاجزاً عن التمييز بين الحقيقة والوهم. "فردوس" تطالبه بالتحرر من زوجها واسترداد إرثها من أخيها، "سعدية" تحلم بزمن آخر يجعلها فنانة مشهورة، "ليلى" تتوق إلى السفر خارج مصر لتعيش بين من يشبهنها. يرضخ المؤلف لطلبات النسوة هرباً من إلحاحهن، يستأجر غرفة ضيقة يقيم فيها مع بطلاته ليلبي طلباتهن، ويسفر ذلك عن كتابته "قصة جديدة"، عنوانها "ثلاث نساء في غرفة ضيقة". تشكل هذه النهاية إشارة رمزية إلى تشرذم الجهود النسوية أحياناً، وانشغالها بالخلافات الفرعية على حساب الهدف الأكبر، بما يتيح للرجل أن يعيد تشكيل مصائر النساء وفق رؤيته.
هذا الاتجاه ــ المتمثل في تمرد الشخصيات على مؤلفها أو إعادة سرد الأساطير والنصوص الخالدة من منظور جديد ــ يعد من أبرز أدوات الكتابة النسوية المعاصرة، لكشف التحيزات الذكورية الراسخة في تلك الأعمال تجاه المرأة، فهناك كثير من الأعمال المسرحية على سبيل المثال التي تجعل بطلات مسرحيات شكسبير (كليوباترا، ديدمونة، جوليت، أوفليا... إلخ) يحاكمنه على المصائر السوداوية التي رسمها لهن بنظرة ذكورية متعالية. وتناقش القصة أيضاً خطورة الأدب في توجيه الوعي الجمعي. تتحول الحكاية من مجرد خيال إلى حقيقة راسخة وسيرة متداولة، فيصبح من الضروري بالنسبة إلى التيار النسوي أن يعيد سرد الحكايات القديمة من منظور جديد يتفق مع رؤيتهن.
على مر العصور
هذا القمع الذكوري للمرأة ليس وليد اللحظة أو مكان محدد كما تكشف قصة "نساء ملونة" التي تقدم ثلاث حكايات لثلاث نساء من عرقيات مختلفة في أزمنة متنوعة. الأولى تدور في العصر الحجري، عندما كان الذكور يتعاركون ضد بعضهم بعضاً من أجل الفوز بالإناث: "ليس سيئاً، فليتعاركا ومن يفز نكن له"، ص 100. وتدور الحكاية الثانية في النصف الأول من القرن الـ20، حول حرمان صاحب ملهى ليلي للفتيات الثلاث من أجورهن، مما يعكس استغلال المرأة من جانب الاقتصادي. والحكاية الثالثة تدور في النصف الثاني من القرن الـ20 وهي عن زوج يتعسف في استخدام حق تعدد الزوجات، فبينما زوجاته الثلاث لاهيات في شجارهن، مع بعضهن بعضاً يخطط هو للزواج من رابعة.
ويحضر البعد النسوي كذلك في قصة "أقراص المنوم"، وفيها يسخر كاتب مخضرم خلال حديثه في ندوة لدعم الكتابة النسوية، من هذا النوع من الكتابة: "الكاتبات لا يتوقفن عن الندب والصراخ والولولة. أنا أسمي هذا النوع بأدب ربات البيوت، إذ إن كاتباته انفصلن عن قضايا أوطانهن ليركزن فقط على ذواتهن، وكأنهن ملائكة والرجال شياطين"، ص 89.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سخرية تجسد المنظور الذكوري المهيمن الذي يقلل من قيمة كتابة النساء ويحصرها في الهامش. في مواجهة هذا التهكم ترد كاتبة شابة فتدخل في صراع غير متكافئ مع كاتب متمرس وهي ما زالت في بداية الطريق. تؤكد أن الكتابة عن الآلام والمشكلات الذاتية أمر طبيعي، وأن الكاتبات يعبرن عن أنفسهن بحبر قرمزي حتى لا يصبحن مجرد نسخ باهتة لكتابة الرجال. يتحدى الكاتب الشابة أن تكتب قصة تثبت وجهة نظرها، فتختار الكتابة عن لحظة الاحتضار، بعدما تبتلع خمسة أقراص منومة تؤدي إلى موتها. وفي حفل تأبينها يعلن الكاتب نفسه عن إطلاق جائزة للقصة القصيرة باسمها، هذا الاعتراف والدعم الذي كانت تطلبه في حياتها لكنها وجدت القسوة بدلاً من الاحتضان.
تحت المجهر
في قصة "الناس في زمن الأفيون" تضع الكاتبة المجتمع تحت المجهر، كاشفة عن آلية الإلهاء والقمع التي تمارس ضد أفراده، إذ يتغافل الناس عن قضاياهم الجوهرية الجوع والمرض والفقر والضرائب التي تقصم ظهورهم، ويجدون متنفساً في مشهد عنيف يتمثل في رجم النساء، هكذا يتحول العنف ضد المرأة إلى طقس جماعي يلهيهم عن معاناتهم الحقيقية، ويمنحهم شعوراً زائفاً بالقوة والتفوق الأخلاقي. البطلة التي تنجو من الموت بأعجوبة لا تجد أمامها إلا خيار الهجرة، باحثة عن حياة جديدة في بلاد أخرى تحترم مكانة المرأة، وتأخذ معها ابنتها الصغيرة التي أرادوا رجمها أيضاً بحجة أنها ابنة عاهرة وستكون حتماً مثلها. المشهد الختامي الذي تصف فيه البطلة شعورها الدائم وكأنها ما زالت في "حفرة الرجم" يضاعف من إحساس الاغتراب والخذلان، حتى وهي تتطلع إلى حياة جديدة في "بلاد الصقيع".
تركز قصص المجموعة أيضاً على المشكلات النفسية التي تعانيها بعض النساء، والتي لا يجدن من يقدرها أو يتفهمها، فتدفعهن إلى سلوكيات صادمة. في قصة "فتاة الباي بولار" نتابع مأساة "ميرنا"، الفتاة الموهوبة الشديدة الذكاء، ابنة العائلة الثرية، التي يدمر مرض الاضطراب الثنائي القطب حياتها، لتتحول من النجاح إلى الجحيم، وتقرر في النهاية الانتحار. أما في قصة "رسائل إلى ميرنا" فنرى أختها التي تعاني اكتئاب ما بعد الولادة، فيدفعها المرض إلى قتل رضيعتها، وتتحدث قصة "السقوط في نفق مظلم" عن فتاة تعاني هلاوس تدفعها إلى قتل زوجها وأختها.
تنوع مضامين المجموعة يمتد إلى التجريب، عبر تعدد البنى السردية بين الرسائل واليوميات، والوصف المسرحي أو الحواري، وأحياناً تقسيم النص إلى مقاطع مشهدية ذات إيقاع سينمائي. هذا التنويع أضفى على المجموعة بعداً تجريبياً واضحاً، وجعلها تلامس أكثر من جنس أدبي في إطار القصة القصيرة، مما عمق عناصرها الجمالية والفنية.