ملخص
الخلايا العصبية الحية أثبتت قدرتها على التعلم خلال دقائق، فاتحة الباب أمام حواسيب بيولوجية أكثر كفاءة بمليون مرة من السيليكون، فيما تتسابق شركات التكنولوجيا لبناء مراكز بيانات عملاقة للذكاء الاصطناعي رغم تكلفتها البيئية الهائلة. الجمع بين البيولوجيا والرقميات قد يشكل بديلاً لمعضلة الطاقة التي تهدد مستقبل الذكاء الاصطناعي.
خلال عام 2021، تعلمت مجموعة من الخلايا العصبية البشرية الحية طريقة أداء لعبة "بونغ" Pong، إحدى ألعاب "الأركيد" الكلاسيكية [تعمل بالعملات المعدنية] التي تعود إلى سبعينيات القرن الـ20. لم تستغرق هذه العصبونات، التي أطلق عليها الباحثون اسم "ديش براين" DishBrain، أكثر من خمس دقائق لتتعلم كيفية تحريك المضرب وضرب الكرة، لتسجل بذلك أول مرة تنجح فيها شبكة عصبية مستزرعة في المختبر في إتمام مهمة موجهة نحو هدف معين.
ضمن دراسة نشرت خلال العام التالي، أفاد باحثون في شركة "كورتيكال لابز" Cortical Labs الأسترالية الناشئة بأن هذا الاختراق العلمي لم يقدم فقط رؤى جديدة حول كيفية عمل الدماغ، بل ربما يشكل أيضاً قاعدة أساس لعصر جديد من الحواسيب البيولوجية فائقة الذكاء والقادرة على التفكير بطريقة مشابهة للبشر.
وأوضحت شركة "كورتيكال لابز" أن هذا الإنجاز ليس ذكاء اصطناعياً، بل ذكاء حقيقي. من طريق دمج العصبونات الحية مع المكونات الصلبة للحواسيب، تمتلك الكمبيوترات البيولوجية القدرة على حل المهام العامة [التي لا تقتصر على نطاق ضيق أو تخصص محدد] التي تواجه الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي [القائمة على السيليكون] صعوبة في إنجازها، مع استهلاك جزء صغير جداً من الطاقة.
معلوم أن مئات ملايين الأعوام من التطور البيولوجي جعلت الدماغ البشري بالغ الكفاءة في استهلاك الطاقة. إذ إن 86 مليار عصبون في الدماغ البشري المتوسط تحتاج فقط إلى 20 وات من الطاقة لأداء وظائفها، أي ما يعادل تقريباً استهلاك مصباح صغير من نوع "ليد" LED [علماً أن مصابيح "ليد" تتميز بعمر أطول كثيراً من المصابيح المتوهجة المكافئة، وتظل أكثر فاعلية من معظم المصابيح الفلورية].
وعلى النقيض من ذلك، فإن البنية غير الفعالة لأنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تعني أن حتى المهام البسيطة تتطلب كميات هائلة من الطاقة. فالتعرف على الوجوه، على سبيل المثال، يحتاج من الذكاء الاصطناعي إلى طاقة تفوق آلاف المرات ما يحتاج إليه الإنسان كي يتعرف ببساطة على وجه ما.
قبل أسبوع من نشر دراسة "ديش براين" في مجلة "نيورون" Neuron، أطلقت شركة "أوبن أي آي" OpenAI برنامج "تشات جي بي تي"، وسرعان ما تحول روبوت الدردشة القائم على الذكاء الاصطناعي إلى ظاهرة عالمية، محطماً أرقاماً قياسية في نمو عدد المستخدمين، ومحولاً تركيز صناعة التكنولوجيا برمتها نحو الذكاء الاصطناعي.
وفق تقديرات شركة "ديلويت" Deloitte [إحدى أكبر شركات الاستشارات والإحصاءات والتحليل المالي في العالم]، ارتفع الاستهلاك العالمي للطاقة من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي منذ ذلك الحين بمقدار 10 أضعاف، ومن المتوقع أن يستمر هذا المعدل من النمو حتى عام 2030 في أقل تقدير.
الأسبوع الجاري، أعلنت "أوبن أي آي" عقدها صفقة تاريخية في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي مع شركة "إنفيديا" Nvidia، العملاقة في تصنيع الشرائح الإلكترونية، والتي ستتولى تمويل أول مركز بيانات بطاقة عدة غيغا وات [غيغا وات = مليار وات]، لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي. ووصف مؤسس "إنفيديا" ورئيسها التنفيذي جنسن هوانغ المشروع بأنه "المشروع الأكبر في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في التاريخ".
سيستخدم الجزء الأول من هذا الاستثمار لبناء قدرة حاسوبية تصل حتى 10 غيغاوات لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي، علماً أنها تعادل مجموع الطاقة الكهربائية التي تستهلكها مراكز البيانات في كندا لتشغيل خوادمها وأنظمتها المختلفة، والتي تغطي مجالات واسعة بدءاً بالخدمات المصرفية الإلكترونية مروراً بالعمليات التجارية، ووصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر.
وخلال يوليو (تموز) الماضي، أعلن مؤسس شركة "ميتا" مارك زوكربيرغ أن شركته ستنفق أيضاً مئات المليارات من الدولارات لبناء مراكز بيانات ضخمة للذكاء الاصطناعي، بهدف الوصول إلى ما يعرف بـ"الذكاء الفائق" superintelligence، أي ذكاء اصطناعي قادر على التفوق على أي إنسان في إنجاز أية مهمة.
ستغطي أول منشأة واسمها "بروميثيوس" Prometheus [وسُميت تيمناً بالآلهة الإغريقية التي يعتقد أنها سرقت النار من الآلهة الأخرى ومنحتها للبشر]، مساحة تضاهي مساحة جزيرة مانهاتن. لكن الكلفة لن تكون مالية ضخمة فحسب، بل بيئية أيضاً، إذ قدرت دراسة حديثة لمعهد الموارد العالمية أن البنية التحتية للذكاء الاصطناعي ستستهلك ما يصل إلى 1.7 تريليون غالون من المياه العذبة سنوياً بحلول عام 2030.
ومن شأن الحاجة الهائلة إلى الطاقة التي تتطلبها أنظمة الذكاء الاصطناعي أن تقود أيضاً إلى عرقلة مبادرات الطاقة الخضراء [الناتجة من مصادر طبيعية متجددة لا تضر بالبيئة مثل ضوء الشمس والرياح والمياه والكتلة الحيوية والحرارة الجوفية]، إذ تجبر هذه الشركات محطات توليد الطاقة الملوثة للبيئة على البقاء قيد التشغيل لتلبية الطلب المتزايد. وصرح رئيس شركة "أوبن أي آي" سام ألتمان بأن العالم سيحتاج إلى مصدر جديد للطاقة كي يواكب وتيرة التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي.
وضمن حديث له على "بودكاست" العام الماضي، اقترح سام ألتمان أن الاندماج النووي nuclear fusion [عملية دمج نواتين ذريتين خفيفتين لتكونا نواة واحدة أثقل، ويصاحب هذه العملية انبعاث كميات هائلة من الطاقة]، الذي يحاكي التفاعلات الطبيعية التي تحدث داخل الشمس لإنتاج طاقة شبه لا محدودة، ربما يمثل أحد الحلول الممكنة.
قال ألتمان إن "الطاقة تمثل الجزء الأصعب. وبناء مراكز البيانات مهمة صعبة أيضاً، أما سلسلة التوريد فعملية معقدة، وبالطبع تصنيع كمية كافية من الشرائح الإلكترونية يطرح بدوره تحدياً كبيراً. لكننا سنحتاج إلى قدرة حاسوبية تفوق ما يمكن استيعابه أو تخيله خلال الوقت الحالي".
واستثمر ملياردير التكنولوجيا مئات الملايين من الدولارات في الذكاء الاصطناعي القائم على العصبونات الحية، إلا أن تحقيق كامل إمكاناتها ربما يستغرق عقوداً من الزمن قبل أن يرى النور.
ولكن البديل عن السعي إلى توفير كميات هائلة من الطاقة يكمن في تغيير الوضع الراهن للتكنولوجيات القائمة على السيليكون، ذلك أنه باستبدال المعالجات الحية المصنوعة من عصبونات بشرية بالمعالجات الرقمية ستنخفض حاجات الطاقة بصورة كبيرة.
وفي حديث إلى "اندبندنت"، قالت الدكتورة إيفيلينا كيرتيس وهي عالمة في شركة "فاينل سبارك" FinalSpark الناشئة في مجال الحوسبة البيولوجية، إن "الخلايا العصبية الحية أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة بمليون مرة مقارنة بالسيليكون. وإلى جانب التحسينات الممكنة في تعميم نماذج الذكاء الاصطناعي، يمكننا أيضاً تقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري من دون التضحية بالتقدم التكنولوجي".
وتقر الدكتورة كيرتيس بوجود عقبات كبيرة لا بد من تجاوزها قبل أن تتمكن الحواسيب البيولوجية من أن تحل محل الحواسيب التقليدية. فليس في المتناول حتى الآن طريقة لبرمجتها، ولا يتوافر إطار منهجي يحدد كيفية ترميز ومعالجة المعلومات داخل الخلايا العصبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضافت: "على عكس الحواسيب الرقمية، تعد الحواسيب البيولوجية صندوقاً أسود حقيقياً [بمعنى أننا نعرف البيانات التي تدخل إلى هذا النظام والنتائج التي يولدها، ولكن طريقة عمله الداخلية غير مفهومة تماماً]. لهذا السبب، علينا أن نخوض تجارب كثيرة بغية حملها على العمل. ولكن إذا ابتكرنا طريقة للتحكم بهذه الصناديق السوداء، ستصبح عندئذٍ أدوات حاسوبية ذات قدرة هائلة في الحوسبة.
ووفق تقديرات الدكتورة كيرتيس سيستغرق الأمر نحو 10 أعوام قبل أن تطبق أنظمة الحوسبة البيولوجية على نطاق تجاري.
أما شركة "كورتيكال لابز" صاحبة التجربة الشهيرة التي مكنت صفحة من الخلايا العصبية من لعب "بونغ"، فتقول إن إحدى المشكلات في نظامها أن الخلايا العصبية لا تعيش سوى بضعة أشهر وسط سائل غني بالمغذيات. وما إن تموت هذه الخلايا يجب استبدالها، لكن من دون وسيلة لنقل الذاكرة، مما يضطر التجربة إلى البدء من جديد في كل مرة.
وخلال وقت سابق من العام الحالي، كشفت الشركة الناشئة عن أول حاسوب بيولوجي تجاري في العالم يعتمد على خلايا دماغ بشرية حية. ووصف الجهاز "سي أل 1" CL1، الذي يبلغ ثمنه 35 ألف دولار، بأنه "جسد في صندوق" (Body in a Box)، وهو متاح حالياً فقط للباحثين، وما زال غير جاهز لتشغيل برامج أو تطبيقات حقيقية [يحتاج إليها الناس والشركات مثل المعالجة الحسابية الكبيرة، وتحليل البيانات...].
وقال مؤسس "كورتيكال لابز" والرئيس التنفيذي الدكتور هون ونغ تشونغ إن الكمبيوتر البيولوجي "يشكل الأساس للمرحلة التالية من الابتكار. فالأثر الحقيقي والانعكاسات الحقيقية ستأتي من كل باحث أو أكاديمي أو مبتكر سيبني على هذا الأساس".
© The Independent