ملخص
تجد الولايات المتحدة في "خطة بلير" الحل الأسلم لتحقيق التوازن المأمول لأهدافها في الشرق الأوسط، إذ تعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة بما يتماشى مع الرؤية المادية للرئيس الأميركي تجاه قطاع غزة. وعلى رغم تعهد ترمب لقادة الدول العربية والإسلامية بأنه لن يسمح لنتنياهو بضم أي أجزاء من الضفة الغربية، وأنه يسعى إلى صياغة مشروع سلام شامل يرضي جميع الأطراف، فإن إدخال توني بلير إلى المشهد السياسي العربي يعيد إلى الأذهان مواقفه المثيرة للجدل
بعد سلسلة اجتماعات عقدت في البيت الأبيض خلال أغسطس (آب) الماضي بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، برز ما بات يُعرف بـ"خطة بلير" كمقترح غير رسمي يراهن عليه ترمب لتسوية ملف غزة.
المقترح جاء بعد أيام قليلة من إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة "إعلان نيويورك"، الذي حظي بتأييد 142 دولة، وألغى ما نصّت عليه الخطة الأممية لإدارة غزة بعد الحرب، والتي كانت تدعو إلى تشكيل لجنة انتقالية من الفلسطينيين لتتولى إدارة القطاع لمدة عام واحد، على أن تعقبها انتخابات رئاسية وتشريعية تُعيد السلطة الفلسطينية إلى الحكم.
غير أن "خطة بلير"، كما يطرحها ترمب، تختلف جذرياً عن هذا المسار الأممي. إذ تتضمن إنشاء "سلطة انتقالية دولية" في غزة برئاسة بلير نفسه، وعضوية فلسطينيين وأجانب، مدعومة بقوات حفظ سلام دولية بقيادة عربية، بحيث تدير القطاع لمدة خمس سنوات قبل أن تسلّم السيطرة الكاملة للفلسطينيين.
وتشير الخطة إلى إعادة هيكلة شاملة للسلطة الفلسطينية، لكنها لا تنص على إقامة دولة فلسطينية معترف بها، ما يجعلها أقرب إلى تصور إداري– أمني طويل الأمد، لا إلى حل سياسي نهائي.
قراءة بروكينغز وكارنيغي
وفي هذا السياق، يرى محللون في "معهد بروكينغز" أن أي خطة لإعادة إعمار غزة ستبقى رهينة بالوضع الأمني ومن سيتولى الحكم بعد الحرب، مؤكدين أن أي موازنات أو تبرعات مخصصة يجب أن تكون تحت إشراف وكالة رقابية دولية أو حكومية مثل السلطة الفلسطينية. ويشيرون في الوقت ذاته إلى أن الدعم العربي سيكون ضرورياً لإنجاح عملية الإعمار، إذ إن غزة، في وضعها الحالي، تحتاج إلى جهود هائلة وأموال ضخمة للتعافي.
كذلك لفتوا إلى أن أفكار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن تهجير الغزيين أو فرض سيطرة أميركية مباشرة على القطاع لا تحظى بتأييد شعبي داخل الولايات المتحدة، حيث يؤيدها أقل من واحد من كل خمسة أميركيين فقط.
وفي تقريرٍ لمعهد كارنيغي للشرق الأوسط بعنوان "تدمير، تهميش، وتجريد: رأسمالية الكوارث وخطط ما بعد الحرب في غزة"، حذّر الباحثون من أن خطط إعادة إعمار غزة بعد الحرب تحمل خطر التحول إلى نموذج من رأسمالية الكوارث، حيث تُستخدم الأزمة لتكريس السيطرة السياسية والاقتصادية بدلاً من تمكين السكان المحليين. فبدلاً من أن تكون عملية تعافي وسيادة فلسطينية، قد تُفرض هياكل حكم وأمن خارجية تجرّد الفلسطينيين من الوكالة على أرضهم ومواردهم، وتحوّل إعادة الإعمار إلى مشروع استثماري يخدم مصالح إقليمية ودولية، وعلى رأسها أمن إسرائيل وحاجاتها التجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح التقرير أن هذه المقاربة تكرر تجارب العراق وأفغانستان، حيث استغلت مرحلة ما بعد الحرب لفرض ترتيبات اقتصادية مفروضة من الخارج، وهو ما يجعل مصير غزة رهيناً بالتحكم الخارجي لا بإرادة أهلها.
عودة بلير... ذاكرة مشحونة
تجد الولايات المتحدة في "خطة بلير" الحل الأسلم لتحقيق التوازن المأمول لأهدافها في الشرق الأوسط، إذ تعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة بما يتماشى مع الرؤية المادية للرئيس الأميركي دونالد ترمب تجاه قطاع غزة. وعلى رغم تعهد ترمب لقادة الدول العربية والإسلامية بأنه لن يسمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بضم أي أجزاء من الضفة الغربية، وأنه يسعى إلى صياغة مشروع سلام شامل يرضي جميع الأطراف، فإن إدخال توني بلير إلى المشهد السياسي العربي يعيد إلى الأذهان مواقفه المثيرة للجدل، من دعمه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في غزو العراق عام 2003، إلى تأييده الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وها هو اليوم يعود ليطل من جديد تحت مظلة رئيس أميركي آخر.
خطة بلير بين الطموح والتنفيذ
في الواقع، قد يبدو ظهور بلير في هذا التوقيت سابقاً لأوانه إذا كانت النوايا صادقة في إيجاد حل عادل للوضع الفلسطيني، وهو ما يثير الشكوك حول مدى واقعية هذه الخطة وقدرتها على معالجة جوهر الأزمة في غزة. فهناك سلسلة طويلة من الإجراءات الأساسية التي يتعين الفصل فيها قبل المضي قدماً، بدءاً من إقرار هدنة شاملة وتبادل الأسرى، مروراً بوقف إطلاق النار، ووصولاً إلى ضمان تدفق المساعدات الإنسانية. إلا أن مقاربة إدارة ترمب تبدو متسرعة ومتناقضة في آن واحد، خصوصاً مع إصراره على أن الاعتراف بدولة فلسطينية يُعتبر بمثابة "مكافأة" لحركة "حماس"، وذلك في وقت تتوالى فيه الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين.
إلى جانب ذلك، فإن تكليف بلير برئاسة "السلطة الانتقالية الدولية" لإدارة غزة يتطلب وضع آليات مرحلية واضحة تتيح تحويل الخطة من مجرد ورقة سياسية إلى واقع ملموس. ويتعين في هذا السياق ضمان قبول الأطراف الفلسطينية الفاعلة بالخطة، وهو ما يمثل التحدي الأكبر أمامها في الأيام المقبلة. كذلك فإن التنفيذ يفرض مرحلة زمنية انتقالية معقدة، تشمل نزع سلاح الفصائل، وفرض رقابة مشددة على الحدود، وتوفير دعم مالي وسياسي خليجي– أوروبي مستدام.
من سيطرة كاملة إلى منطقة عازلة... خريطة توضح مراحل انسحاب إسرائيل وفق خطة ترمب #نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/rl9sOcvXtk
— Independent عربية (@IndyArabia) September 30, 2025
وبذلك، فإن نجاح الخطة لا يتوقف على إرادة واشنطن وحدها، بل على مدى استعداد المجتمع الدولي لتقاسم الأعباء وضمان استمرار التمويل والالتزام السياسي، وهو ما قد يحوّل "خطة بلير" إلى اختبار جديد لمعادلات القوة في الشرق الأوسط.
ويبدو أن كل المعطيات الراهنة تصب في إطار الرؤية التي عبّر عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تصريحات سابقة، حين تحدث عن تحويل غزة إلى مشروع عقاري وسياحي ضخم، أشبه ما يكون بـ"ريفييرا الشرق الأوسط"، فوق الركام والجثث، محوِّلاً القطاع المدمَّر بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية إلى منتجع استثماري. رؤية كهذه قد تُقنع بعض الأطراف بجدوى المشاركة والاستفادة من مشروع استثماري محفوف بالأخطار، وتدفع دولاً إلى الانخراط في صفقة تُجسّد التصور الأميركي القائم على تطويع غزة لخدمة اقتصاد إقليمي يصب في نهاية المطاف في مصلحة إسرائيل. وفي خضم ذلك، يجري تجاهل الموضوع الأهم: الاعتراف بدولة فلسطينية وضمان حقوق أهالي غزة، وهو مربط الفرس في أي تسوية حقيقية.
من حلم عرفات إلى صفقة ترمب
فكرة "ريفييرا الشرق" ليست وليدة اليوم، بل تستدعي إلى الأذهان وعود الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، حين تحدث عن حلمه بتحويل غزة إلى "سنغافورة الشرق الأوسط". لكن الفارق بين الحلمين جوهري؛ إذ كان عرفات يطمح لخدمة أبناء القطاع وتحسين حياتهم، فيما تنطوي رؤية ترمب على مسار يهدف إلى تهجير سكان غزة وتفريغها، مع تحويلهم إلى لاجئين موزّعين في دول أخرى.
ريفييرا أم تصفية؟
النهج الاقتصادي الذي يتبناه ترمب يطغى بوضوح على مقاربته الدبلوماسية، فبدلاً من الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، يطرح فكرة "سلطة انتقالية دولية" لإدارة غزة تحت إشراف بريطاني، في إطار يُسوّق على أنه حلّ سياسي، لكنه أقرب إلى "احتلال مقنّع" بطابع اقتصادي صريح. ويتعزز هذا الطرح بطرح فكرة "ريفييرا الشرق" نفسها تحت إشراف بريطاني، ما يعيد إلى الذاكرة الدور التاريخي لبريطانيا في القضية الفلسطينية وما تركته من إرث مثقل بالصراعات.
إن ما يظهر في "خطة بلير" من مفردات دبلوماسية متكررة يعيد إنتاج سرديات قديمة لدول كانت لها تجارب سيئة في فلسطين والعالم العربي. وعلى رغم أن الخطاب الجديد يُقدَّم بواجهة برّاقة تحمل وعوداً بالسلام، إلا أن جوهره لا يتجاوز محاولة إعادة تدوير الحلم ذاته، حيث يفرض الطرف الأقوى شروطه ويهيمن على النتائج. اللافت أن أنباءً تتحدث عن قبول إسرائيلي مبدئي لفكرة "ريفييرا الشرق"، ولو على المدى البعيد، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل القطاع وما إذا كان الحل الاقتصادي المزعوم سيُستخدم غطاءً لتصفية القضية الفلسطينية.