Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كتاب يفضح تحول وادي السيليكون إلى سجن رقمي

نك كليغ يتناول مسار الشبكة من فضاء حر ومفتوح إلى واقع تحاصره الاحتكارات والانقسام الجغرافي

وادي السيليكون المفعم بالأسرار (ويكيبيديا)

ملخص

يتتبع كتاب "كيف ننقذ الإنترنت؟" لنك كليغ، نائب رئيس "ميتا" للشؤون العالمية، مسار الشبكة من فضاء حر ومفتوح إلى واقع تحاصره الاحتكارات والجدران الرقمية. ويركز على التحديات التي تهدد مستقبل الإنترنت، مثل الانقسام الجغرافي والهيمنة الخوارزمية، مقترحاً حلولاً دولية للتعامل مع هذه الأخطار. غير أن فاعلية هذه المقترحات تظل مثار جدل، بين من يراها محاولة جادة للإصلاح ومن يعدها مجرد تجميل لصورة شركات التكنولوجيا الكبرى.

قبل أن يطرق السحر الرقمي أبواب حياتنا، كنا ننتظر ساعي البريد يحمل رسائلنا، ونترقب موزع الصحف والمجلات لمعرفة الأخبار. وللحصول على معلومة واحدة، نقطع الطريق إلى المكتبات العامة ونمضي ساعات في التنقيب بين الرفوف. لكن الإنترنت، في غضون سنوات قليلة، قلب هذا الواقع رأساً على عقب، وجعل العالم كله تقريباً على بعد نقرة واحدة، جامعاً البشر على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم.

غير أن الإنترنت اليوم يقف عند مفترق طرق، فالمعلومات المضللة تنتشر بسرعة البرق، وشركات التكنولوجيا العملاق تستحوذ على بيانات المستخدمين، فيما تسعى بعض الحكومات إلى فرض رقابة وحواجز رقمية تجزئ الشبكة إلى "إنترنتات" متباينة.

في هذا السياق، يأتي كتاب نك كليغ "كيف ننقذ الإنترنت؟" (How to Save the Internet)، الصادر حديثاً عن دار بنجوين، ليفضح أخطاء الشركات الكبرى والعزلة التي أعمت وادي السيليكون عن رؤية الواقع، كما يقترح إصلاحات جذرية للحفاظ على مستقبل شبكة مفتوحة، وسط صراعات سياسية وتقنية تهدد مستقبل الإنترنت العالمي.

ناقوس الخطر

منذ نشأته، صمم الإنترنت ليصبح فضاءً مفتوحاً لتبادل البيانات والمعلومات، لكنه سرعان ما تطور ليصبح أداة للبحث والمعرفة، وصولاً إلى الويب العالمي. مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تضاعف حضوره في حياتنا اليومية، حتى بات من الصعب الاستغناء عنه. وهو ما أفضى إلى وضعه في قفص الاتهام، باعتباره المسؤول عن إلحاق الأذى بالصحة النفسية، خصوصاً لدى المراهقين.

 في الفصل الأول، يحاول كليغ دحض هذه الاتهامات التي نعرف مدى ملامستها للحقيقة، وعلى رغم إقراره بالتراجع الملحوظ في الصحة النفسية خلال العقد الأخير، فإنه يصر على أن هذه الأزمة وغيرها لم تنشأ عن المنصات الرقمية ذاتها، بل عن الإفراط في استخدامها.

يستند كليغ إلى دراسات أكاديمية، إلا أن انتقائيته في اختيارها وعرضها تكشف انحيازاً واضحاً إلى خطاب ميتا، متجاهلاً أبحاث في الاتجاه المضاد. وعلى رغم ذلك يؤكد: "ليس الهدف من هذا الكتاب أن أدافع عن نفسي أو عن ميتا أو عن شركات التكنولوجيا الكبرى، بل إن أدق ناقوس الخطر تجاه الأخطار الجسيمة التي تهدد مستقبل الإنترنت ومن سيستفيد من هذه التقنيات الثورية".

يتحدث كليغ، الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء البريطاني بين عامي 2010 و2015 قبل أن ينتقل إلى عالم التقنية، عما يسميه "الهجوم على التكنولوجيا"، أي التحول الحاد في الرأي العام ضد شركات التقنية في أواخر العقد الأول من الألفية، طارحا أسئلة كفيلة بإقناعنا من قبيل، هل يمكننا إيقاف بعض الابتكارات؟ بالطبع لا. هل كنا سنكون أفضل حالاً بلا هذه الحريات الرقمية؟ لكن هذا الخط الدفاعي سرعان ما يتهاوى أمام ما نعرفه من وقائع. فـ"ملفات فيسبوك" المسربة عام 2021 أظهرت أن الشركة كانت تدرك تماماً أن خوارزمياتها تغذي خطاب الكراهية والانقسام، لكنها آثرت الصمت حفاظاً على نسب التفاعل. وعلى المنوال نفسه، كشفت تقارير عدة أن يوتيوب يقود مستخدميه تدريجاً نحو محتوى أكثر تطرفاً، من نظريات المؤامرة إلى الدعاية الإرهابية. مثل هذه الأمثلة تجعل دفاع كليغ أقرب إلى التعمية، خصوصاً إذا ما قارناه بما وثقه ماكس فيشر في كتابه "آلة الفوضى" من دلائل دامغة على أن الخوارزميات صممت أصلاً لتعزيز الانفعال. وما يبدو "مبالغة" في نظر كليغ، صار في نظر ملايين المستخدمين واقعاً يومياً لا يحتاج إلى دليل سوى جولة سريعة على شاشاتهم. فما الذي يعنيه بإنقاذ الإنترنت وممن تحديداً؟

جزر رقمية

منذ فجر التاريخ، بدا كل ابتكار وعداً بالحرية، قبل أن يقع في قبضة الهيمنة. المطبعة التي بشرت بانتشار المعرفة، وضعتها الكنيسة تحت وصايتها الصارمة. وطرق التجارة التي ربطت القارات، تحولت إلى ساحات صراع بين إمبراطوريات جشعة. واليوم يقف الإنترنت عند مفترق مماثل، طالب في ساو باولو يحرم من منصة تعليمية متاحة لزملائه في نيويورك، وعاشقان أحدهما في بكين والآخر في باريس يعجزان عن عبور الجدار الرقمي، ومهاجر في موسكو لا يرى سوى نسخة محلية من شبكة قيل لنا إنها كونية. لقد جرؤت الصين أن تبني داخل العالم الرقمي جدارا عازلا، وجربت روسيا عزل شبكتها عن العالم، فيما فرضت الهند والبرازيل قوانين تحصر البيانات داخل حدودها، وشدد الاتحاد الأوروبي قبضته عبر تشريعات الـGDPR، بينما تخوض الولايات المتحدة معارك مع شركات التقنية العملاق. النتيجة التي يحذر منها كليغ أن نصحو ذات يوم فنجد أنفسنا في أربعة عوالم متباعدة: صيني وروسي وأوروبي وأميركي، بدلاً من فضاء يسع الجميع.

صناعة الوهم

إلى جانب هذا التشظي، يرى كليغ أن الخطر الثاني الذي يهدد مستقبل الإنترنت يتمثل في الذكاء الاصطناعي وما يثيره من تعقيدات غير مسبوقة. فالتقنيات التوليدية الحديثة، مثل نماذج OpenAI أو Google Gemini، تنتج صوراً ونصوصاً ومقاطع بكثافة وسرعة قد تفوق قدرة البشر على التحقق منها، وهو ما يفتح الباب أمام المعلومات المضللة. لم يعد المشهد مقتصراً على الانتخابات الأميركية، بل أصبح مألوفاً أن يستيقظ الناس على تسجيل صوتي منسوب لسياسي أو نجم غنائي، ليتبين لاحقاً أنه مصنوع بتقنية deepfake. تخيل طالباً جامعياً يسلم بحثاً كاملاً لا يعرف شيئاً عن محتواه، أو صحافياً يطارد خبراً كاذباً لأنه انتشر بسرعة البرق. ولسنا بمنأى عن هذه الدوامة، فقد اصطدمت بها في رحلتي الأكاديمية حتى خيل إلى أنني حضرت حفلة تنكرية بوجهي الحقيقي. وهكذا يمضي العالم في حفلة التفاهة، فيما تظل الحقيقة خلف الكواليس.

ولا تقف الإشكالية عند التضليل المباشر، بل تمتد إلى غياب الشفافية في الخوارزميات التي تتحكم في ترتيب ما نراه. على "تيك توك"، قد تجد مراهقاً يظن أن ما يعرض أمامه هو العالم كله، بينما هو في الحقيقة مجرد نافذة صممت بعناية لخدمة أجندة ما، سياسية كانت أو تجارية. ومع الوقت تتحول تجربة التصفح من فضاء حر إلى دهليز يحدد الآخرون مساراته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحذر كليغ من أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول من أداة للمساعدة إلى وسيلة للتقييد. في الصين، يراقب ما يقوله الناس وما يفعلونه كما لو أننا في عالم أورويل المظلم. في الغرب، تعيدنا الشركات دائماً إلى الدائرة نفسها من الصور والأخبار. والنتيجة تطاول أياً منا: شاب في الهند يسمع خطاباً لم ينطق به أحد، ومواطن في أوروبا يكتشف أن وعيه تشكل من أفكار مزيفة. فهل نعيش حقاً الحياة كما هي، أم كما أريد لنا أن نعيشها؟ وهل ما نراه على شاشاتنا واقع، أم مجرد عرض متقن الإخراج؟

بين المديح والاستهجان

بعد استعراض الأخطار، ينتقل الكتاب إلى ما يراه حلولاً لإنقاذ الإنترنت من التفكك. أول هذه الحلول هو الشفافية: أن تشرح المنصات كيف تعمل خوارزمياتها وكيف تختار ما نراه من أخبار ومحتويات، بدلاً من أن تظل آلياتها غامضة. ثم يأتي التعاون الدولي، لأن شبكة عابرة للحدود لا تستطيع أي دولة أو شركة وحدها حمايتها، لذلك يقترح اتفاقات بين القوى الكبرى كما حدث مع قضايا التجارة أو المناخ. ويضيف إلى ذلك إنشاء مجالس مستقلة تراجع قرارات الحذف أو الحجب وتضع قواعد أخلاقية لا تخضع لمصالح الشركات. وأخيراً، يشدد على المساءلة، سواء عبر هيئات تنظيمية أو ضغط المجتمع المدني، حتى لا تبقى شركات التكنولوجيا وحدها صاحبة الكلمة العليا في فضائنا الرقمي.

وعلى رغم الطابع التحذيري للعمل، فقد لقي استقبالاً متبايناً. وصفه توني بلير بأنه "جرس إنذار لا يمكننا تجاهله"، واعتبره ريد هوفمان "قراءة حيوية لكل من ينشئ أو ينظم عصر التكنولوجيا القادم". وفي المقابل، رأت صحيفة التايمز أنه كتاب "مثير للاشمئزاز ومفتقر للمضمون"، مركزة على دفاعه المستميت عن سياسات ميتا المثيرة للجدل، وانتقدت تشبيهاته السطحية ومقترحاته "الجوفاء"، مثل معاهدة دولية لإنقاذ الإنترنت. أما في الغارديان، أعرب جوناثان هايدت عن شكوكه في إمكان نجاح هذه المبادرات، مشيراً إلى أن الوقت قد يكون فات لتطبيقها على شركات تسيطر بالفعل على جزء كبير من الشبكة. استشهد هايدت برأي الصحافية التقنية كارا سويشر، التي وصفت فيسبوك بأنه "مدينة بلا لافتات، شوارع بلا شرطة، بلا عمال نظافة… لكنها تجمع الإيجارات على كل شيء"، ما جعلها مرتعاً للمحتالين والمتطرفين.

يبدو أن مستقبل الإنترنت يقف اليوم بالفعل على مفترق طرق: إما أن يظل فضاءً مشتركاً يعد بالانفتاح والتعددية، أو أن يتفتت إلى جزر رقمية تتنازعها الدول والشركات. صحيح أن كليغ يراهن على إمكان الإصلاح عبر الإرادة السياسية والتعاون الدولي، لكن دروس التاريخ تذكرنا بأن القوى المهيمنة نادراً ما تتنازل طوعاً عن امتيازاتها، فكيف لمن استمد نفوذه من الفوضى الرقمية أن يتحول فجأة إلى حارس للنظام؟

اقرأ المزيد

المزيد من كتب