ملخص
بعد أكثر من واحد وعشرين قرناً على إعدام سقراط في أثينا، أعاد الرسام الفرنسي جاك لوي دافيد (1748 – 1825) إحياء القصة بلغة الفن.
في عام 399 قبل الميلاد، وقف سقراط العجوز في السبعين من عمره أمام قضاة أثينا، محاطاً بنظرات الشك والاتهام. لم يكن الاتهام بسيطاً، بل كان خطيراً: "إفساد عقول الشباب" و"التلاعب بآلهة المدينة". كان بإمكانه أن يختار النفي وينجو، لكن الرجل الذي عاش معلماً لم يقبل أن يرحل منفياً عن أفكاره واختار أن يبقى وفياً لمبادئه، حتى لو كان الثمن حياته وصدر الحكم بالإعدام، لا بسيف ولا بحبل، بل بكأس من نبات الشوكران السام.
في كتابه "فيدو"، ينقل لنا أفلاطون المشهد الأخير حيث قال "سقراط جالساً بهدوء، يواصل النقاش مع تلاميذه عن جوهر النفس والحياة وكأن الموت بعيد، ثم يرفع الكأس بثبات، ويودع الدنيا بجملته التي بقيت خالدة: "الحياة التي تخلو من التجارب لا تستحق أن تعاش".
من أثينا إلى باريس
بعد أكثر من واحد وعشرين قرناً على إعدام سقراط في أثينا، أعاد الرسام الفرنسي جاك لوي دافيد (1748 – 1825) إحياء القصة بلغة الفن.
ففي عام 1787 كشف عن لوحته الشهيرة "موت سقراط" في صالون باريس، في لحظة لم تكن بعيدة من العاصفة الثورية التي هزّت فرنسا بعد عامين فقط. كان المجتمع الفرنسي يومها يغلي تحت وطأة الملكية وسطوة الكنيسة، فجاءت اللوحة أشبه بمرآة للتاريخ ورسالة سياسية في آن، إذ صاغ دافيد من مشهد الفيلسوف الذي يواجه كأس السم صورة رمزية للمثقف الذي يصر على أفكاره حتى النهاية، ويقف بوجه الاستبداد لا بالسيف بل بالفكر.
تفاصيل اللوحة
نفذ دافيد عمله على قماش متوسط الحجم (129 × 196 سم). يظهر سقراط جالساً على سريره الخشبي، يمد يده بثبات نحو كأس السم الذي يحمله السجان، من دون خوف أو ارتجاف، وكأنه يلقي درساً أخيراً في قيمة الحياة والموت.
حول سقراط تتوزع الشخصيات في مشهد مسرحي دقيق، كريتو يجلس عند قدميه متشبثاً به وكأنه يحاول إبقاء معلمه حياً. أفلاطون يجلس برداء أبيض، متأملاً وصامتاً، وقد اختاره دافيد ليكون شاهداً يوثق اللحظة أكثر من كونه مشاركاً فيها. أبولودوروس يقف عند القوس الحجري، يغطي وجهه بيديه في تعبير عن حزن عميق.
وفي الخلفية، عند الزاوية البعيدة، تظهر زوجة سقراط كزانثيب وهي تغادر بخطوات مثقلة، تاركة المشهد للحظات التاريخية بين الفيلسوف وتلاميذه.
ألوان اللوحة توحي بالانتقال من العتمة إلى الضوء، الحواف قاتمة بينما يتوهج المركز عند يد سقراط الممدودة، في إشارة إلى أن الأفكار تبقى مضيئة حتى عندما يذوي الجسد. والخطوط والكتل مرسومة بانضباط هندسي يعكس أسلوب الكلاسيكية الجديدة الذي تميز به دافيد.
أراد دافيد أن يجعل المشهد رمزاً للحرية الفكرية وللقدرة على مواجهة الموت من أجل المبدأ. وهكذا تحولت القصة القديمة إلى مانيفستو بصري يخاطب زمن الثورة الفرنسية، حيث كان المثقفون يسعون إلى إسقاط الملكية وبناء نظام جديد.
مشهد موت سقراط لم يلهم دافيد وحده، فقد سبقه الفنان الإيطالي جيامبيتينو تشينيارولي عام 1760 في رسم نسخة رومانسية من الحادثة، كما قدم جان فرانسوا بيير بيرون لوحة أخرى في العام نفسه الذي عرض فيه دافيد عمله، لكنها لم تحظ بالشهرة ذاتها. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين استعاد فنانون أوروبيون مثل جوزيف أبل والفونس موخا بعض عناصر المشهد في أعمال مستوحاة من الفلسفة الإغريقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأبعاد الفلسفية للوحة
حين عرضت اللوحة في باريس، كان صداها سياسياً بقدر ما كان فنياً. رأى النقاد والمشاهدون في سقراط صورة المثقف الثائر، وشبهوا الموقف بمواجهة المجتمع الفرنسي للسلطة المطلقة، فلم تكن اللوحة مجرد استعادة لقصة من التاريخ الإغريقي، بل نبوءة بقدوم ثورة ستغير وجه فرنسا إلى الأبد.
لم تبق لوحة "موت سقراط" مجرد عمل فني يزين جدران متحف، بل تحولت إلى مادة فلسفية تدرس في الجامعات حول العالم. فهي تفتح باباً للنقاش عن العلاقة بين الفكر والسلطة، وعن معنى الحرية الفردية في مواجهة القوانين الجائرة. كثير من الباحثين يرون أن دافيد لم يرسم سقراط كشخصية تاريخية فقط، بل كرمز خالد لكل مثقف يرفض المساومة على قناعاته.
ولذلك صارت اللوحة مرجعاً بصرياً يرافق نصوص أفلاطون في الحقول الأكاديمية، وأداة تفسيرية لفهم الفلسفة القديمة في سياقها الإنساني والسياسي.
ويقف زوار متحف المتروبوليتان في نيويورك أمام اللوحة وكأنهم يشهدون لحظة حية. يتأملون ضوء الفكرة وسط عتمة الجسد، ويقرأون في ملامح سقراط درساً في الثبات على المبدأ. بالنسبة لكثيرين، اللوحة ليست عملاً فنياً فحسب، بل شهادة على أن الفيلسوف يمكن أن يموت جسداً لكنه يظل حياً في الفكر.