ملخص
ماذا عن "العلاقة" الحقيقية بينهما خارج نطاق علاقة الأستاذ أفلاطون والتلميذ أرسطو؟ هل كانت علاقة تناحر أو علاقة تكامل؟ هل كان ما بينهما هما اللذان عاشا في زمن واحد قريبين جداً من بعضهما بعضاً، تواطؤاً أم تنافراً تاماً؟ وكيف استطاع الرسام النهضوي رافائيل أن يرصد أبعاد الشخصيتين في لوحته الشهيرة؟
عاشا في زمن واحد وبقي فكرهما وذكرهما حيين على رغم مرور نحو ألفيتين ونصف الألفية من السنين على زمنهما، بل إن الفكر الذي أبدعه كل منهما، وتحديداً بوصف أولهما أفلاطون معلماً لثانيهما، أرسطو، لا يزال هو هو حتى اليوم الفكر المؤسس والأكثر حضوراً في تاريخ الفلسفة الإنسانية التي "اخترعاها" تباعاً في مسيرة بدأت مع أولهما وتوريثا منه إلى ثانيهما، على خطى المعلم الأول سقراط.
وفي هذا السياق لا شك أننا نجد أنفسنا دائماً أمام إغراء اعتبارهما معاً أول فيلسوفين إنسانيين حقيقيين على رغم ما سبقهما من "فكر فلسفي" مصري وهندي، وربما صيني، بل حتى إغريقي ما قبل سقراطي، وذلك بالتحديد بالنظر إلى أن فلسفتهما كانت الأقدم مما وصلنا ممنهجاً معقلنا وربما متكاملاً أيضاً، كما بالنظر إلى أن كلاً منهما، على طريقته وفي أثينا القديمة قد رفد فلسفته بمدرسة خاصة بها، الأكاديمية بالنسبة إلى أفلاطون والليسيوم بالنسبة إلى أرسطو. ولئن يستند كثر في أزمنتنا هذه إلى ما قاله الفيلسوف هوايتهد من أن فلسفة الإنسانية كلها تبدو خلال ما يزيد على ألف عام، وكأنها مجرد هوامش على صفحة واحدة من صفحات أفلاطون، فإن كثراً كذلك يتساءلون حقاً عما إذا كان من شأن كثير من الأفكار الدينية التي تشغل دائماً الغالبية العظمى من أبناء البشر كانت ستقوم لها قائمة لولا دعم أتاها من الفكر الأفلاطوني وآخر من الفكر الأرسطي، علماً أن جزءاً لا بأس به من الفكرين، إنما وصل العالم الحديث من طريق الوسيط العربي الإسلامي.
ومع ذلك ثمة دائماً ذلك السؤال الشائك: ولكن ماذا عن "العلاقة" الحقيقية بينهما خارج نطاق علاقة الأستاذ والتلميذ؟ هل كانت علاقة تناحر أو علاقة تكامل؟ هل كان ما بينهما هما اللذان عاشا في زمن واحد قريبين جداً من بعضهما بعضاً، تواطؤاً أم تنافراً تاماً؟
لوحة رافائيل ولغة الجسد
الحقيقة أنه كلما نحا المعنيون بهذه القضية إلى تناسيها أو نسيانها فعلاً، تطل عليهم لوحة لعلها واحدة من الأشهر من نوعها في عالم الفن، بل الأشهر حقاً في عالم الفلسفة، لتعيد تذكيرهم بها.
وما نتحدث عنه طبعاً هنا هو لوحة النهضوي رافائيل الجدارية الضخمة المرسومة على أحد أضخم جدران قاعة التوقيع في قسر الأوفيزي بفلورنسا الإيطالية. وهي بالطبع لوحة "مدرسة أثينا" التي تشغل ألوف الصفحات شرحاً وتحليلاً، وتعد في مرجعيتها الفلسفية/ الفنية مرآة لنظرة عصرها وكل العصور السابقة عليها، إلى الفلسفة، بل تحديداً إلى الدور الذي يحتله الفيلسوفان الإغريقيان اللذان نحن بصددهما في تاريخ هذا اللون الفكري السامي: أفلاطون وأرسطو.
فهما محاطان بالعشرات من مفكري البشر حتى الزمن النهضوي الإيطالي، يحتلان المركز العلوي الأكثر بروزا على مسطح اللوحة واقفين كالمتجادلين، وقد جعل الرسام من وقفة كل منهما و"لغته الجسدية" تعبيراً عن فكره العميق ومكانته في تاريخ الفكر الإنساني.
ولئن كنا قد توقفنا عند هذه الجزئية، الأساسية على أية حال، مرات عديدة من قبل، فإنه لا مفر من العودة إليها هنا بأكبر قدر ممكن من الاختصار، حيث يمكننا دائماً أن نلاحظ كيف أنه في مقابل أفلاطون الذي يحمل تحت إبطه الأيسر كتابه "تيماوس"، مشيراً بسبابة يده اليمنى إلى الأعلى معلناً سيادة السماوات وألوهيتها كإيمان منه بأولوية ذلك السمو، فيما الثاني، أرسطو، يحمل نسخة من كتابه "الأخلاق"، مشيراً بسبابته إلى الأرض والحياة الدنيا، معلناً أن ها هنا يبدأ كل شيء وتسود الأهمية المطلقة لوجودنا.
وفي الحقيقة إن هذا التفسير من قبل الرسام النهضوي قد يبدو خطياً وتبسيطياً بالمقارنة مع العمق الفلسفي لكل من الفيلسوفين، لكنه يفي بالغرض في هذا المجال ويضعنا، إلى حد بعيد، على تماس مع "المجابهة الحقيقية" التي قد يتعين علينا أن نفترض أنها موجودة بين قطبي بدايات الفلسفة (وربما نهاياتها أيضاً!). كما أنها تفيد دائماً في مجال الطرح الجدي للأسئلة التي طرحناها أول هذا الكلام وتبقى مطروحة.
بين مؤسسين
وهي في المقام الأول على أية حال، تستكمل الإجابة عن سؤالنا الأساس هنا. وهي إجابة يمكننا، أن نتحرى مصادرها في أزمنة موغلة في القدم ومنذ كتابات ديوجين اللائرسي الذي كان واحداً من همومه بالنسبة إلى أفلاطون وأرسطو أن يتوقف عند مواصفات كل منهما الشخصية، فيفيدنا مثلاً بأنه في مقابل سمات أفلاطون الرياضية، التي ربما تعود إلى أرستقراطية منبته، وكونه رياضياً شارك في الألعاب الأولمبية ويعكس حتى اسمه قوته الجسدية، كان أرسطو أكتع بعض الشيء ضامر الجسد نحيل الساقين بالكاد يتحمل ضربة عابرة.
غير أن أرسطو عرف في المقابل كيف يشتغل على مظهره بحلاقة لحيته وقص شعره وتزيين أصابعه بالخواتم ومشيته التي كانت تنحو إلى رهافة تكاد تكون أنثوية، مقارنة بمشية أفلاطون الصلبة التي تكاد تكون همجية. وهي أمور يضيف إليها الكاتب آليين بعد ديوجين بخمسة قرون ما يفيد بأن أرسطو كان يحرص على أن يرسم على وجهه دائماً ابتسامة ساخرة تنم عن نوع من احتقار للآخرين مقابل تبسُّطية أفلاطون ونزوعه إلى التوقف في الشارع وتحدثه مع كل من يطلب منه ذلك.
وفي مقابل هذه السمات الجسدية ها هو الباحث والصحافي الفرنسي المعاصر سفين أورتولي يخبرنا في عدد كرسه لأفلاطون من مطبوعته الرائجة في فرنسا هذه الأيام، "الفلسفة"، لأفلاطون، أن تلك الفروق نفسها تنعكس، بالتضافر مع ما تقترحه لوحة رافائيل من فروق في لغة الجسد بين الفيلسوفين، أن السمات الجسدية والسلوكية بينهما إنما تعكس تمايزات في الفكر نفسه، "لكنها ربما تكون تمايزات مصطنعة من ناحية أن لها وظيفة محددة هي التعبير المقصود عن التكامل بين فلسفتين". وهو تكامل قد يمكن أن يكون - في سياق تحليلي يمكن الوصول إليه انطلاقاً من تلك المقدمات التي تتكامل عبرها نظرة إلى "العلاقة" بين الفيلسوفين، لا تتوقف عن إثارة اهتمام الباحثين حتى اليوم - مرآة لتلك الولادة، التي أتت متكاملة مع ولادة المسرح اليوناني لتشكل كل هذه الأبعاد نوعاً من تأسيس لفكر إنساني يرث الفكر الأسطوري الذي كان انطلق مع هوميروس والفكر الطبيعي كما عبر عنه هسيود وأوفيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الأسلوب إلى الفكر
وهو ما ينقلنا من المقارنة بين السمات المظهرية لفيلسوفين إلى عمق فكريهما وتوظيف كل منهما لفكره الخاص، وهو توظيف لا شك أنه يأتي متقابلاً تمام التقابل إلى درجة تبدو التفاوتات بين كل منهما والآخر مقصودة ومدروسة بعناية.
فأفلاطون كان يكتب تحفاً أدبية شديدة الرهافة وغنية بالصور المبتكرة وبادية التعقيد، فيما كان أرسطو يكتب بشيء من التسرع نصوصاً تعليمية يتوخى منها أن تستفز الآخرين للسجال بأكثر مما تستدعي الإعجاب. وهو، في مجال الفصاحة خاصة، كان في رأي أورتولي، يكتب بالتعارض مع ما يعبر عنه أفلاطون في نصه "فيدر" مثلاً مرجحاً كفة الدقة على توخي التزيين اللغوي، بل إنه كان يفضل التعبير عما هو أكثر قرباً من الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بالمسائل الجمالية، بالتالي يفضل ألا يخوض في الأساليب الجدلية التي كانت ذات حظوة جماهيرية بتأثير من السوفسطائيين. بالنسبة إليه يجب أن يكون الأسلوب واللغة مباشرين واضحين. وأرسطو كان في هذا المجال يأخذ على أفلاطون لجوءه إلى الجدل في الكتابات الأخلاقية كما في الكتابات الفيزيائية غير مفرق بين العالمين. أما هو فكان يتباهى بكونه ينطلق مما هو ملموس وفي لغة شديدة التبسيط لكي يصل إلى ما هو معقد ومركب بالنظر إلى أن غايته انما كانت أن يفهم لا أن يعجب.
ومعنى هذا في نهاية الأمر أن أرسطو إنما كان يريد الإحاطة بكل شيء وتصنيف كل ما يعرف وترتيب كل ما يلتقط في الأخلاق أو الفصاحة أو السياسة أو الاقتصاد أو الشعر أو الكوزمولوجيا، وصولاً حتى إلى تاريخ الحيوان، وهذا ما جعله يرفض ميتافيزيقا أفلاطون القائمة على ازدواجية الروح والجسد، ولكن لمصلحة فكر لا يفرق بينهما. ومن هنا رفضه للمثل الأفلاطونية مكتفياً بفكرة المدينة بوصفها مكاناً يمثل بالنسبة إليه، فحسب، فضاء للحياة السعيدة التي هي وحدها ما يسمح للإنسان، بوصفه "حيواناً سياسياً أن ينجز ذاته في هذه الحياة الدنيا".