ملخص
في ضوء التهديدات المتصاعدة داخل منطقة القرن الأفريقي يبدو أنه على العرب في هذه المرحلة تقييم ترتيبات الشراكة مع دول القرن الأفريقي على الصعيد الثنائي والمتعدد الأطراف في ضوء الطموحات البحرية الإثيوبية، والأخطار المتصاعدة في البحر الأحمر، فضلاً عن احتمالية تعطل الموانئ تحت مظلة صراعات عسكرية محتملة مع إريتريا، التي تواجه التصعيد الإثيوبي ضدها بنسج علاقات تحالف مع قادة إقليم تيغراي، وكذلك بلورة تحالف مع مصر التي توجد قواتها في الصومال تحت مظلتين الأولى بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي، واتفاق ثنائي مع الحكومة الصومالية بما أتاح نشر 10 آلاف جندي مصري في الصومال.
يقف القرن الأفريقي اليوم في مفترق طرق حاسم مع إعادة تشكيل طموحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد البحرية للمشهد الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر، إذ يشكل السعي الإثيوبي المتجدد للوصول المباشر إلى البحر أكثر من مجرد نزاع ثنائي مع إريتريا، إذ إنه يشكل تحدياً أساساً للتوازن الدقيق للقوى الإقليمية الذي حكم العلاقات العربية - الأفريقية عقوداً.
الخطاب الإثيوبي المتزايد حول ما يسميه آبي أحمد "الحدود الطبيعية لإثيوبيا" يدخل متغيراً جديداً في الحسابات التي تمحورت تقليدياً حول الدول العربية الساحلية الراسخة، وشراكاتها الأفريقية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
في هذا السياق يكشف تطور تصريحات آبي أحمد منذ خريف عام 2023 في شأن الوصول إلى البحر الأحمر وأنه يشكل "مسألة وجودية" لإثيوبيا، وكذلك وعده بـ"تصحيح الخطأ" المتمثل في التنازل عن الوصول إلى ميناء عصب الإريتري عن تصعيد محسوب تمت هندسته في أديس أبابا على الصعيد الاستراتيجي، لممارسة الضغط على الفاعلين الإقليميين في شأن إعادة تشكيل خريطة الأوزان عربياً وأفريقياً في منطقة القرن الأفريقي.
تطور التضاغط العسكري الراهن على الحدود بين إثيوبيا وإريتريا يرشح القرن الأفريقي للدخول في حرب استنزاف طويلة، وذلك بسبب طبيعة التوازنات العسكرية بين الطرفين وظروفهما الاقتصادية، مما سينتج منه موجات نزوح ولجوء جديدة تشكل أعباء إضافية على المحيط العربي، خصوصاً مصر والسودان واليمن.
وفي ضوء الأهمية الاستراتيجية لممر البحر الأحمر بالنسبة إلى الدول العربية بوصفه شرياناً حيوياً يربط البحر المتوسط بالمحيط الهندي، ويعد ممراً حيوياً لمصادر الطاقة الخليجية، ويصنف شريان حياة لمصر عبر قناة السويس، ويبقى بالغ الأهمية للموانئ الغربية للسعودية والوصول البحري للأردن وكذلك إسرائيل، فضلاً عن تأثيره المباشر في العلاقات التجارية بين العرب والأفارقة فإن تدهور العلاقات الإثيوبية - الإريترية تحت وطأة الطموحات الإثيوبية البحرية يحمل تداعيات عميقة لمصالح الدول العربية، إذ إن الموقع الاستراتيجي لإريتريا على طول البحر الأحمر جعلها شريكاً قيماً لدول الخليج التي استثمرت في مرافق الموانئ الإريترية واتفاقات التعاون العسكري. بالتالي فإن الضغط الإثيوبي على إريتريا يهدد بزعزعة الترتيبات التي تخدم المصالح الاستراتيجية العربية الأوسع في الحفاظ على النفوذ على ممرات الشحن في البحر الأحمر.
من منظور إقليمي - عربي - أفريقي يكمن الجانب الأكثر إثارة للقلق من الاستراتيجية الإثيوبية في استعدادها لتحدي مبدأ السلامة الإقليمية الذي دعمه الاتحاد الأفريقي في مرحلة ما بعد الاستعمار، فوجود مرافق بحرية إثيوبية على ساحل أرض الصومال يخلق وجوداً عسكرياً جديداً في مياه أثرت فيها الدول العربية تقليدياً من خلال الشراكات الثنائية مع دول القرن الأفريقي، ويخلق أيضاً ديناميات تنافسية جديدة في خليج عدن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشكلت مبادرات رئيس الوزراء الإثيوبي تجاه أرض الصومال وتقديم الاعتراف الدبلوماسي مقابل المرافق البحرية، سابقة خطرة يمكن أن تشجع الحركات الانفصالية في جميع أنحاء القرن الأفريقي، خصوصاً السودان الذي عانى ولا يزال ضغوطاً انفصالية متكررة خلال العقود الماضية، إذ تخلق الطموحات الإثيوبية في البحر الأحمر تعقيدات إضافية، ذلك أن الساحل السوداني على البحر الأحمر ومرافق بورتسودان تمثل أصولاً مؤثرة في أية منافسة بحرية إقليمية، وذلك في ضوء وجود فرص كبيرة أن يمتد الضغط الإثيوبي على إريتريا إلى الأراضي السودانية، نظراً إلى الروابط العرقية والقبلية التي تعبر الحدود الإريترية - السودانية المشتركة بما يؤثر في المصالح السودانية الاقتصادية والجيوسياسية.
أما على صعيد الحسابات الاستراتيجية المصرية، فإنها تأخذ بعين الاعتبار القدرات البحرية الإثيوبية التي يمكن أن تؤثر في أمن قناة السويس وأمن الشحن بالبحر الأحمر، في ضوء عدد من المعطيات منها الحجم الديموغرافي الإثيوبي، وإمكاناتها الاقتصادية التي تعني تطوراً كبيراً في القدرات البحرية خلال جيل واحد.
وربما يكون واضحاً للمراقبين على المستويين الإقليمي والدولي أن الطموحات الإثيوبية في البحر الأحمر تقودها ديناميكيات محلية تسعى للقفز على التحديات الداخلية المرتبطة بصراعات القوميات وإخفاقات الحكم المحلي في ملفين أساسيين، هما تصاعد التوتر مع إقليم تيغراي بعد فترة من التدخل فيه تنذر بحرب إثيوبية داخلية. أما الملف الثاني فهو سد النهضة الذي لم يحضر حفل افتتاحه إلا أربعة من القادة الأفارقة الذين هم جيران مباشرون لإثيوبيا، بينما تقزمت استخداماته في تخزين المياه دون قدرة لوجيستية على الاستفادة منها، وذلك في ظل عدم وجود شبكة للكهرباء في أنحاء إثيوبيا، كما أن الإدارة الإثيوبية اضطرت إلى اللجوء لمفايض الطوارئ للسد في ظل عدم فاعلية منظومة التوربينات خلال وقت فيضان نهر النيل.
إجمالاً، وفي ضوء التهديدات المتصاعدة داخل منطقة القرن الأفريقي يبدو أنه على العرب في هذه المرحلة تقييم ترتيبات الشراكة مع دول القرن الأفريقي على الصعيد الثنائي والمتعدد الأطراف في ضوء الطموحات البحرية الإثيوبية، والأخطار المتصاعدة في البحر الأحمر، فضلاً عن احتمالية تعطل الموانئ تحت مظلة صراعات عسكرية محتملة مع إريتريا، التي تواجه التصعيد الإثيوبي ضدها بنسج علاقات تحالف مع قادة إقليم تيغراي، وكذلك بلورة تحالف مع مصر التي توجد قواتها في الصومال تحت مظلتين الأولى بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي، واتفاق ثنائي مع الحكومة الصومالية بما أتاح نشر 10 آلاف جندي مصري في الصومال.
وفي سياق مواز قد يكون من المناسب ضمن هذه المرحلة الشروع في بلورة إجراءات تعاون أمني ومعلوماتي عربي، في ضوء تأثير تصاعد التهديدات على كل من اليمن والسودان.
أما على صعيد الهياكل الإقليمية فإنه من الضروري تنشيط التواصل بين الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي خلال هذه المرحلة، بهدف خفض مستويات التوتر الراهن بين كل من إثيوبيا وإريتريا والاستعانة بالشركاء الأوروبيين في هذا المجهود، خصوصاً في ضوء الرسائل التي وصلت إلى أديس أبابا أخيراً من مجلس العلاقات الخارجية الأوروبية، وكذلك من الخارجية الأميركية، وهي الرسائل التي أكدت أن استمرار عدم احترام الحدود الصومالية أو التصعيد الإثيوبي مع إريتريا قد يترتب عليه تقييد المساعدات الأوروبية والأميركية معاً، وتجميد برامج التعاون، أو فرض عقوبات على عناصر أو جهات تدعم مسارات المواجهة العسكرية المحتملة.
وقد يكون من الأهمية بمكان ضرورة الانتباه العربي لآليات الدبلوماسية العقابية التي يمارسها الغرب في حال تصاعد التهديدات المؤثرة، إذ يملك العرب أدوات ناجزة داخل منطقة القرن الأفريقي، خصوصاً في المجال الاستثماري، أظن أن من شأن تفعيلها تحجيم فرص الصراع العسكري المحتمل داخل منطقة التخوم العربي في القرن الأفريقي.