ملخص
أزمة الإسكان في بريطانيا بلغت مستوىً وجودياً مع عجز معظم الأسر عن شراء أو استئجار منزل، وتحوّل السوق إلى عبء خانق على المعيشة والاقتصاد. إصلاح هذه الأزمة بات ضرورة عاجلة لتجنب مزيد من الغضب الشعبي وصعود الشعبوية.
فظيعة؟ يائسة؟ كارثية؟ اختاروا ما شئتم من الأوصاف لوصف سوق الإسكان البريطانية البائسة (إليكم نعت إضافي).
ليس مكتب الإحصاءات الوطنية سوى أحدث جهة تثير مسألة القدرة على تحمل كلفة شراء مسكن، أو بالأحرى، انعدام هذه القدرة تماماً، لدى المشترين الجدد المحتملين.
فقد أوضح المكتب أن نسبة سعر المنزل الوسيط [السعر الذي يقع في منتصف قائمة الأسعار] للمنازل العادية إلى الدخل الأسري [السنوي] المتاح للإنفاق بلغت 7.9 في إنجلترا، و5.4 في ويلز، و5.3 في اسكتلندا. أما في إيرلندا الشمالية فسجلت 4.6 وهو استثناء إيجابي، إذ يعكس ارتفاع المداخيل هناك.
وأضاف المكتب أن هذا يعني أن شراء منزل بسعر وسطي في ويلز أو اسكتلندا ممكن فقط بالنسبة إلى أعلى 40 في المئة من الأسر بحسب الدخل، بينما يقتصر الأمر في إنجلترا على أعلى 10 في المئة. أما في لندن، فحتى هذه الشريحة لا تستطيع في معظمها تحمل الكلفة. ووفق هذا التحليل، تبدو سوق العاصمة حكراً على مديري صناديق التحوط وكبار المصرفيين والرؤساء التنفيذيين.
ومع ذلك، انتقد الاقتصادي المدير السابق لمعهد الدراسات المالية بول جونسون أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية عبر منصة "إكس" (’تويتر‘ سابقاً). وقال إن المكتب اعتمد "مقياساً غير منطقي للدخل" في حساب القدرة على تحمل الكلف، وتجاهل احتساب الدفعة الأولى المطلوبة لشراء المنزل. وأكد أن الواقع لا يقتصر على أن أعلى 10 في المئة من أصحاب الدخل وحدهم يشترون المنازل في لندن، إذ إن هناك آخرين خارج هذه الفئة يتمكنون من الشراء أيضاً.
ومع ذلك، حتى لو أخذنا بانتقادات جونسون فإن سوق الإسكان في العاصمة تبقى جحيماً لا يطاق، وهو ما يشهد عليه كل من يحاول خوضها. وجونسون نفسه يعترف بأن القدرة على تحمل الكلف ما زالت "مشكلة حقيقية". وإذا تجاوزنا أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية، فإن بيانات مؤسسة "نايشن وايد" للادخار والرهن العقاري تعكس الصورة ذاتها. ففي مؤشر أسعار المنازل الأخير، أوضح كبير اقتصادييها روبرت غاردنر أن "المشتري العادي الذي يقتني منزلاً نموذجياً للمرة الأولى مع دفعة أولى بنسبة 20 في المئة، يضطر إلى دفع أقساط شهرية تعادل نحو 35 في المئة من صافي دخله، وهو مستوى يفوق بكثير المتوسط الطويل الأمد البالغ 30 في المئة". وأضاف أن نسبة أسعار المنازل إلى الأجور "لا تزال أعلى بكثير من متوسطها التاريخي".
أما بالنسبة إلى الدفعة الأولى، فهي ما زالت تشكل "عقبة كبيرة" وفق "نايشن وايد"، ولا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة التي ترتفع فيها أسعار الغذاء بسرعة وتظل فواتير الخدمات عند مستويات مرتفعة. ولو كان ما يعرف بـ"بنك الأب والأم"، الذي يمول في كثير من الأحيان الدفعة الأولى، شركة مدرجة في بورصة لندن، لكان من بين الأسهم الأكثر رواجاً وربحية.
لا يسعني إلا أن أتعاطف بصدق مع كل من يحاول شراء منزل اليوم، خصوصاً إذا كان في لندن. فحساب الأرقام بعد العودة من جولات معاينة المنازل لا بد أن يكون تجربة محبطة للغاية.
من البديهي القول إن ارتفاع كلف السكن يضغط على مستويات المعيشة ويضر بالاقتصاد الاستهلاكي. وقد وجدت مؤسسة "ريزولوشن فاونديشن"، المعنية خصوصاً بالأسر ذات الدخل المنخفض، أن "حجم التباطؤ في مستويات المعيشة ببريطانيا خلال الأعوام الـ20 الماضية كان هائلاً، إلى حد أن الأسرة النموذجية اليوم كانت ستكون أغنى بمقدار 20 ألف جنيه استرليني لو استمر نمو الدخل بالوتيرة التي كان عليها عام 2005". وهو العام نفسه الذي تأسست فيه المؤسسة.
قالت المديرة التنفيذية للمؤسسة روث كيرتيس "مع تطلعنا إلى المستقبل، فإن تحدي رفع مستويات المعيشة في بريطانيا بات أعظم من أي وقت مضى، ولا يمكننا ببساطة تحمل مزيد من الركود".
أحسنت القول يا روث، أحسنت.
أجد الوضع مقلقاً للغاية. فقد اشترت زوجتي وأنا منزلنا الأول في أوائل العشرينيات من عمرنا، خلال وقت كانت دخولنا متواضعة جداً. وهذا أمر نادر للغاية بمعايير اليوم، إذ يضطر معظم الناس إلى الانتظار حتى منتصف الثلاثينيات أو أواخرها.
حتى خلال ذلك الوقت، قال لنا مستشار الرهن العقاري في أول بنك قصدناه إن "الوقت غير مناسب للشراء"، كانت الأسعار ترتفع بسرعة. ومع ذلك، أنا سعيد جداً لأننا تجاهلنا نصيحته وأقدمنا على الشراء. فقد واصل السوق ارتفاعه بحيث إن الشقة الصغيرة التي اشتريناها في ساوث توتنهام كانت ستصبح بعيدة تماماً عن متناولنا لو أننا قررنا الانتظار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شيء يضاهي الشعور بالأمان الذي يمنحه امتلاك المرء منزله الخاص. كنت أعلم، عندما كنت أتعافى من حادث سير كاد يودي بحياتي - خلال وقت لم نكن واثقين فيه إن كنت سأتمكن من العودة إلى العمل يوماً بسبب الإصابات التي تعرضت لها - أن مسألة السكن كانت مؤمنة. كان بوسع عائلتي أن تنعم بسقف يؤويها. وكنا قادرين على تدبر أمورنا.
يعد بعض اليساريين أن القلق في شأن فرص تملك المنازل لدى من يملكون القدرة المبدئية على الشراء ليس المشكلة الجوهرية. فالمشكلة الحقيقية - في رأيهم - تكمن في الإسكان الاجتماعي، إذ قوائم الانتظار طويلة للغاية، ويزداد الغضب حين يجد سكان بيوت المجلس البلدي أن أبناءهم مضطرون للانتقال مسافات بعيدة ليستأجروا مساكن لأنفسهم. وإذا كان وضع الراغبين في التملك صعباً، فإنه يظل أفضل بكثير من معاناة من لا يجدون أي سكن على الإطلاق، بينما يرزحون خلال الوقت نفسه تحت وطأة أسعار الغذاء المرتفعة وفواتير الإيجار الثقيلة.
غير أن هذا الانتقاد في غير محله، لأنه يتجاهل تطلعات ملايين الناس العاديين ممن لا تعد دخولهم مرتفعة. ويؤكد خبراء الإسكان أن حل المشكلات في جزء من السوق ينعكس تلقائياً على الأجزاء الأخرى. فكلما ازداد عدد القادرين على الشراء، اتسع المعروض من المساكن المخصصة للإيجار، وهو ما يخفض بدوره أسعار الإيجارات.
وفي المقابل، ينشغل المحافظون الاجتماعيون [الذين يركزون على قضايا الأسرة والقيم التقليدية] بالقلق من تراجع معدلات المواليد وما يرونه تراجعاً في دور الأسرة. غير أن الإقرار بوجود مشكلة ديموغرافية وسكان يتقدمون في العمر داخل بريطانيا لم يعد مقتصراً على هؤلاء وحدهم، بل أصبح أمراً يعترف به طيف أوسع من المجتمع. فالمسألة ببساطة أنه إذا كنت تريد للناس أن ينجبوا، فعليك أن تضمن لهم مساكن آمنة ومستقرة.
لذلك تعد أزمة الإسكان في بريطانيا أزمة وجودية بكل معنى الكلمة. فمعالجتها كفيلة بإزالة كثير من الأزمات، والتخفيف من حال السخط الكامن - إن لم يكن الغضب الصريح - التي تدفع الناخبين إلى ردود فعل غاضبة باللجوء إلى الشعبويين على طرفي الطيف السياسي.
على رغم مزاعمها، ما زلت غير مقتنع بأن الحكومة الحالية تدرك حقيقة الأزمة. في الأقل ليس بعد. صحيح أن الأمر لا يقتصر على هذه الحكومة وحدها، فالمشكلة قديمة ومتجذرة، لكن ذلك لا يشكل عذراً مقبولاً.
لقد حان وقت البناء. ليس الأسبوع المقبل، بل الآن.
© The Independent