ملخص
يشكل الموقف الرسمي ضد عمل بعثة تقصي الحقائق في السودان أحد أبرز العقبات أمام تحقيق ولايتها بالكامل، ويستدعي حلولاً مبتكرة توازن بين الحساسيات السياسية وضرورات العدالة. ويحمل تمديد البعثة تحديات إقليمية، فقد يعتبره بعض القوى محاولة لإعادة صياغة النفوذ الدولي في السودان والمنطقة، مما قد يثير حساسيات أو تنافساً بين قوى دولية وإقليمية حول مسار العدالة ومخرجاتها.
تشكل بعثة تقصي الحقائق المعنية بالأوضاع في السودان أحد أبرز الآليات الأممية التي استحدثت استجابة للانتهاكات الجسيمة التي رافقت الحرب المندلعة بن الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ أبريل (نيسان) عام 2023. أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، في أعقاب تصاعد أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، بهدف توثيق الحقائق، وتحديد المسؤوليات، وتعزيز مسارات العدالة الانتقالية والمساءلة. وتضمنت مهمات البعثة التحقيق في الحقائق والظروف وجذور الانتهاكات المرتكبة في حق المدنيين واللاجئين، وجمع الأدلة وتحليلها مما من شأنه دعم المسار القضائي المستقبلي، إضافة إلى التعرف على مرتكبي الانتهاكات، مما يسهم لاحقاً في ملاحقات قضائية وتقديم التوصيات اللازمة لتحقيق المحاسبة والعدالة.
بدأ أعضاء البعثة عملهم فعلياً في أواخر عام 2023، وأعدوا تحديثاً شفهياً لنتائجهم في جلسة يونيو (حزيران) - يوليو (تموز) عام 2024، قبل تقديم تقرير شامل لاحق إلى الدورة الـ57 للمجلس، وجرى عرضه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر من العام ذاته. بعدها مدد المجلس ولاية البعثة، مؤكداً أهمية دورها في إطار مواجهة الإفلات من العقاب واستعادة المسار نحو العدالة.
وعلى رغم الدعم الشعبي والمناشدات المتصاعدة من المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية بضرورة تمديد عمل البعثة، إلا أن ذلك جوبه برفض السلطات السودانية، التي عدت ذلك تجاوزاً للسيادة الوطنية وتدخلاً في شؤونها الداخلية. كما فرضت قيوداً على تحرك أعضائها داخل البلاد، مما قيد قدرتها على التوثيق الميداني وجمع الشهادات الحيوية، وفقاً لأساليبها الموضوعية.
هذا التباين بين المطالب الشعبية والضغط الرسمي الرافض يجعل عمل البعثة في وضع دقيق ومعقد، يثير تساؤلات جوهرية حول ضمان استمرار تحقيق العدالة في ظل هذه التحديات التي فرضتها ظروف الحرب، والتقييدات التي فرضتها الحكومة بحجة احترام سيادة، ومطالب تحقيق العدالة للضحايا.
توثيق الحقائق
تضم البعثة ثلاثة خبراء دوليين مستقلين يختارهم مجلس حقوق الإنسان لضمان التخصص والنزاهة، وتتمثل ولايتها في التحقيق وجمع المعلومات وتحليلها في شأن انتهاكات حقوق الإنسان، وانتهاكات القانون الدولي الإنساني المرتكبة في سياق النزاع، بما في ذلك العنف الجنسي، والانتهاكات ضد الأطفال، والهجمات على المدنيين والبنى التحتية الحيوية. كما خولت البعثة تقديم توصيات عملية للسلطة في السودان والمجتمع الدولي حول سبل المساءلة ومنع الإفلات من العقاب، إضافة إلى تعزيز جهود حماية المدنيين ودعم مبادرات المصالحة والعدالة الانتقالية.
وقالت المحامية وصال عبدالله "تعمل البعثة على توثيق الحقائق باستخدام منهجية مهنية تعتمد على الشهادات المباشرة، وصور الأقمار الاصطناعية، وتحليل الوثائق الرسمية وغير الرسمية، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية، مع ضمان حماية الشهود وسرية المعلومات. وهي ترفع تقارير دورية إلى مجلس حقوق الإنسان حول تطورات الأوضاع والانتهاكات الموثقة، وتقدم توصيات في شأن الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لدعم سيادة القانون في السودان"، وأضافت "حظيت البعثة منذ لحظة إنشائها بتأييد واسع من قطاعات المجتمع المدني السوداني ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية، ونتيجة لاستمرار الانتهاكات المتعلقة بالحرب، أصبح لدى فئات واسعة من الشعب السوداني إحساس قوي بأن الآليات الوطنية لم تعد قادرة على توثيق الجرائم ومحاسبة مرتكبيها، مما عزز التوجه نحو دعم وجود آلية دولية مستقلة تتمتع بالصدقية والقدرة على جمع الأدلة بصورة منهجية. وقد ترجم هذا الدعم نفسه في شكل بيانات ومذكرات مشتركة وحملات مناصرة على المستويين المحلي والدولي، تطالب كلها بتمديد ولاية البعثة وعدم إنهاء عملها في هذا التوقيت الحرج". ورأت عبدالله أن "تقارير البعثة تمثل مرجعاً مهماً لتوثيق الانتهاكات المستمرة، وخطوة أساسية لردع مزيد من الجرائم في المستقبل. كما أن مطالب التمديد تستند إلى حقيقة أن النزاع لا يزال مستعراً وأن الانتهاكات لم تتوقف، مما يجعل إيقاف عمل البعثة أو تقليص ولايتها في هذه المرحلة بمثابة تقويض لفرص المحاسبة المستقبلية".
أولوية المساءلة
أفاد تقرير صادر عن الأمم المتحدة بأن بعثة تقصي الحقائق، وصفت في تقريرها الصادر في يونيو عام 2025، ما يدور في السودان بأنه "صراع وحشي ومتعدد الأوجه ومتزايد التعقيد، تشمل ديناميكياته المتغيرة عمليات قتل وأعمال انتقامية. في ظل هذه الظروف، وعلى رغم التحديات المستمرة لدى الأمم المتحدة واستمرار رفض السلطات السودانية التعاون، تمكنت بعثة تقصي الحقائق من أداء عملها. ولا تزال آلية دولية بالغة الأهمية تتمتع بالولاية والموارد والخبرة والتجربة للتحقيق المستقل في الانتهاكات المرتكبة في كل أنحاء السودان والإبلاغ عنها، مع إعطاء الأولوية للمساءلة"، وأضاف التقرير "مع اقتراب الدورة الـ60 لمجلس حقوق الإنسان، وكما كتب الموقعون على الرسالة، ليس أمام المجلس خيار آخر سوى تمديد ولاية بعثة تقصي الحقائق لمدة عامين لمنح المحققين الوقت والاستقرار اللازمين لجمع الأدلة وبناء ملفات القضايا المتعلقة بالجناة، كما سلط الموقعون الضوء على عدد من السبل التي يمكن من خلالها للمجلس تعزيز الاهتمام الدولي بالسودان"، وأوضح أن هذه السبل تشمل خلق وسائل أكثر تشاركية لتسليط الضوء على السودان، من خلال إتاحة نقاشات عامة حول وضع البلاد، تشمل مشاركة المجتمع المدني والضحايا والناجين. ويمكن تحقيق ذلك من خلال حوارات تفاعلية "معززة" في دورات المجلس المقبلة، وأوصى تقرير الأمم المتحدة بأن تحيل الجمعية العامة للأمم المتحدة تقارير البعثة إلى مجلس الأمن لاتخاذ الإجراء المناسب، بل حثه على أن يعمل على توسيع نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل كامل أراضي السودان (خارج دارفور)، واعتماد تدابير محددة، بما في ذلك فرض عقوبات، ضد المسؤولين الرئيسين عن الفظائع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقف رافض
أفاد الناشط محمد المدني بأنه "منذ بدء عمل بعثة تقصي الحقائق، اتسم موقف السلطات السودانية تجاهها بالتحفظ المتزايد، وصولاً إلى الرفض العلني لتمديد ولايتها، فالحكومة التي تواجه تحديات أمنية وسياسية داخلية عميقة، تنظر إلى البعثة باعتبارها تدخلاً في الشؤون الداخلية، وتعبر عن مخاوف من أن تتحول تقاريرها إلى أداة ضغط دولي أو إلى أساس لإجراءات قضائية دولية قد تطاول مسؤولين سودانيين أو تضر بموقف الدولة في المحافل الأممية. وقد عبر مسؤولون رسميون مراراً عن موقفهم الرافض لاستمرار البعثة، مستندين إلى مفهوم السيادة الوطنية وضرورة حل القضايا داخلياً بعيداً من التسييس الدولي، وهو خطاب يلقى صدى في أوساط سياسية وإعلامية معينة داخل البلاد"، وأضاف "هذا الموقف الرسمي انعكس عملياً في سلسلة من العقبات التي واجهتها البعثة، بدءاً من صعوبة الحصول على تأشيرات دخول أو تصاريح تنقل داخل الأراضي السودانية، وصولاً إلى حرمانها من الوصول إلى مناطق النزاع الأكثر تضرراً أو إلى مراكز الاحتجاز والشهود الرئيسين. كما شملت العقبات انقطاع قنوات التعاون مع بعض المؤسسات الحكومية والأمنية، وتحديات في ضمان حماية المصادر المحلية التي تتعاون مع البعثة في ظروف شديدة الحساسية والخطورة". وتابع المدني "هذه القيود مجتمعة قلصت من قدرة البعثة على إجراء تحقيقات ميدانية مباشرة، واضطرتها إلى الاعتماد أكثر على مقابلات خارج السودان أو على مصادر ثانوية وتحليل صور الأقمار الاصطناعية والبيانات المفتوحة، مما قد يعقد عملها في حفظ الأدلة وفق المعايير القضائية الصارمة"، ورأى المدني هذه المشكلة كاختبار حقيقي لمدى فاعلية آليات حقوق الإنسان الأممية في بيئات النزاع المعقدة، إذ يواجه المجتمع الدولي تحدياً مزدوجاً، "احترام السيادة الوطنية من جهة، وضمان حقوق الضحايا والعدالة من جهة أخرى. كما يطرح الموقف الرسمي السوداني تساؤلات حول البدائل الممكنة لتعزيز عمل البعثة، سواء عبر الضغط الدبلوماسي لضمان تعاون الحكومة، أم من خلال بناء شراكات محلية أكثر مرونة وأماناً لجمع المعلومات. وبذلك يشكل الموقف الرسمي ضد عمل البعثة أحد أبرز العقبات أمام تحقيق ولايتها بالكامل، ويستدعي حلولاً مبتكرة توازن بين الحساسيات السياسية وضرورات العدالة"، وأورد أنه "إلى جانب العراقيل التي تفرضها الحكومة على عمل البعثة، فإنها تعاني انعدام الأمن في المناطق المتأثرة بالنزاع، بما في ذلك انتشار الميليشيات المسلحة وتدهور الخدمات الأساسية، مما يهدد سلامة فرقها الميدانية وتصعب إقامة مقابلات آمنة مع الضحايا والشهود".
الموقف الإقليمي
إضافة إلى ما أثاره النقاش حول تمديد ولاية بعثة تقصي الحقائق في السودان من انقسام داخلي بين الموقف الرسمي والشعبي، فعلى المستوى الإقليمي شهد تمديد ولاية البعثة أيضاً جدلاً يتعلق بموقف دول الجوار والفاعلين الإقليميين، ومنهم من وصل إلى إدراك أن المجتمع الدولي جاد في مراقبة الانتهاكات في السودان، وهو ما قد يدفعها إلى دعم جهود المجتمع المدني. كذلك يمكن أن يفتح التمديد الباب أمام تعاون أو تنسيق أكبر بين البعثة والمنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي أو "إيغاد"، لتوحيد الجهود في مجال التوثيق والضغط الدبلوماسي، غير أن هذا التمديد يحمل أيضاً تحديات إقليمية، فقد يعتبره بعض القوى محاولة لإعادة صياغة النفوذ الدولي في السودان والمنطقة، مما قد يثير حساسيات أو تنافساً بين قوى دولية وإقليمية حول مسار العدالة ومخرجاتها. ومع ذلك، فإن تمديد الولاية يبقى أداة أساسية لتعزيز مبدأ المساءلة في سياق نزاع معقد، وفرصة لبناء مسار عدالة أوسع يتجاوز الحدود السودانية، ليؤكد التزام المجتمع الدولي بحماية المدنيين في المنطقة بأسرها.