ملخص
على الرغم من أن أحمد الشهاوي يشدد على أن نصَّه، شعراً أو نثراً، "حرٌ من التقاليد الموضوعة سلفاً"، إلا أنه اختار لكتابه الأحدث عنواناً يناقض هذا: "وصايا الكتابة: كيف نكتب ولماذا؟".
ثمة مساحة كبيرة من متن الكتاب تتضمن نصائح لكاتب افتراضي، وتحوي ما ينبغي أن يفعله، وما ينبغي أن يتجنبه في "الكتابة"، وكان من الأفضل أن يجعله كله حول سيرته مع الحرف، التي بدأت قبل نجو أربعة عقود وتُوجت بحصوله هذا العام على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.
يقول الشاعر أحمد الشهاوي في أحد فصول كتابه "وصايا الكتابة: كيف نكتب ولماذا" (الدار المصرية اللبنانية): "يظل المرء، حتى آخر العمر، يذهب إلى الكتابة كأنه يكتب للمرة الأولى. الكتابة تنقذ من الاكتئاب، وتصرف نظر القاتل عن استعمال مسدسه في وجه مَن اختطفه في الظلام". وهو كما يقول في الكتاب نفسه ذهب إلى الرواية والفن التشكيلي من كونه شاعراً، وهو ما ينطبق على هذا الكتاب أيضاً. وهو أمر بديهي، بما أن الشعر كان دائماً في قلب تجربة الشهاوي، مع الكتابة، وهي تجربة ثرية، إذ اشتملت على أجناس عدة منها ما أسماه هو "أدب العشق" ومن أبرز ما قدمه فيه كتاب "الوصايا في عشق النساء" الذي صدر الجزء الأول منه عام 2003، والثاني في العام 2006.
ويبدو أن "الوصايا" تصلح أيضاً أن تكون جنسا قائما بذاته ضمن الأجناس التي كتب فيها الشهاوي، متأثراً بنهج معروف في التراث العربي. كما كتب في "فلسفة الدين" و"الأدب الصوفي"، وفي الرواية. يستهل الشهاوي كتابه بالاقتباس التالي من العماد الأصفهاني: "إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيدَ كذا لكان يُستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر". وهو ما سبق أن طبقه الشهاوي على شعره، عندما أصدر منه ثلاثة "مختارات": "الأحاديث" 1996، "مياه في الأصابع" 2002، و"أنا خطأ النحاة" 2021.
أما روايته الوحيدة حتى الآن "حجاب الساحر" 2022 فقد لاجظ في كتابه "وصايا الكتابة" أنها دخلت القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الآداب، من بين 688 عملاً، بعد ثلاثة أعمال شعرية له تضمنتها القائمة نفسها في دورات مختلفة وهي: "سماء باسمي"، "لا أراني"، و"ما أنا فيه". في الرواية؛ استخدم الشهاوي، كما يقول أساليب وتقنيات كثيرة، مثل السيرة الذاتية، والشعر، وأدب الرسائل، والأدب الجغرافي، وأدب الرحلة، والتحقيق الصحافي. ويضيف في هذا الصدد: "منذ كتاباتي الأولى التي استفدتُ فيها من القرآن والنصوص الصوفية والإرث الديني عموماً والتراث العربي، وأنا أنحو تجاه التعالق أو الترافد أو التناص؛ حتى يمكن للقارئ أو الناقد أن يسمي نصي بـ "النص الجامع أو النص المفتوح أو النص الحر"، وهذا تحقق بشكل كبير في روايتي". ويقول الشهاوي أيضاً: "أنا ابن للموسيقى والغناء في كل تجلياتهما، وكذا الفن التشكيلي، وأعتبر نفسي مولوداً في سريرين أحدهما من الحروف، والآخر من الألوان، فنصي يُزَوَّد من الأجناس والأنواع كلها، وهو نص حر من التقاليد الموضوعة سلفاً، وينحدر من ثقافات مختلفة في تنوعها الثقافي والحضاري".
في المقدمة يتحدث الشهاوي عن كُتابٍ بدأوا الكتابة بعد سن الأربعين ومنهم الروائي الفرنسي ستندال، وكذا الفرنسيان جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار "لم ينشرا إلا في سن الـ 35"، والألماني باتريك زوسكند؛ "نشر روايته الأولى وهو في سن السادسة والثلاثين"، كما أصدرت الأميركية توني موريسون روايتها الأولى وهي في الأربعين من عمرها. ثم يوصي الكاتب الافتراضي: "عليك أن تسأل نفسك دائماً: هل أنا جاهز الآن معرفياً للبدء؟".
بهجة الكتابة
أما الشهاوي المولود عام 1960، فقد نشر عمله الأول "ركعتان للعشق"، وهو في الثامنة والعشرين من عمره. يقول: "لم أذهب إلى الكتابة إلا لإدخال البهجة على نفسي أولاً، فمثلي يبتهج بالتأمل والنظر عميقاً نحو ما لا يراه الآخرون، ساعياً نحو تسجيل أو خلق عالم مواز. لم أكتب لأحقق مالاً. ورغم مرور سنوات على الإمساك بالقلم وممارستي الكتابة، ما زلت أخشى الورق والحبر، وأهرب من الكتابة نحو القراءة، إذ كل كتابة هي مسؤولية جسيمة ومحفوفة بخطر مساءلة الذات وتقويم الآخر". ويؤمن الشهاوي بأن لا أحد يكتب مِن أو في الفراغ، "فمن المؤكد أن لحياته أثراً وظلاً ينعكسان في النص الذي يكتب، سواء أكان قصيدة أم رواية، إضافة إلى خياله الذي يهندس ويبني النص ويشطح تبعاً لأهواء الكاتب". ويرى صاحب الكتاب الشعري "بابٌ واحدٌ ومنازل" أن الخيال، "لا يتكون من دون معرفة، ودأب وذكاء متوقد، ودقة وصرامة، وممارسة وتجريب، وبيئة تحضن أصحاب الجموح والشطح".
ولاحظ الشهاوي في هذا الصدد أن أغلب الكتب التي وزعت ملايين النسخ وحقق أصحابها شهرة تاريخية ونجومية غير مسبوقة، "رُفضت" في البداية، فرواية "لوليتا" لفلاديمير نابوكوف رفضتها دار "كتوبف"، وباعت بعد ذلك ما يزيد على 50 مليون نسخة بعد نشرها بواسطة "أولمبيا بريس" في باريس عام 1955، وكذا قيل للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث عن روايتها الوحيدة "الناقوس الزجاجي": "لا توجد موهبة عند الكاتبة، ولن نلتفت إلى عمل كهذا". ثم صارت من أشهر الأعمال الأدبية الأميركية التي تُرجمت إلى العديد من لغات العالم. ورواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل رفضت أربع مرات ونال صاحبها بعد ذلك جائزة نوبل. ويرى في سياق مختلف أن غوته تعلم الفارسية وهو في سن السبعين، وتعلم بورخيس اللغة العربية وهو في الثمانين من عمره؛ "لأنهما كانا شغوفين بتراث الشرق وإبداعه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكاتب لا ينبغي أن ينشغل بالشهرة والنجومية، وهنا يضرب الشهاوي مثلاً: "ماركيز قال ذات يوم بعد شهرة روايته "مئة عام من العزلة": "لا أريد النجومية على الإطلاق، يجب أن أحافظ على حياتي الخاصة".
حضور المرأة
ومن واقع تجربته يؤكد الشهاوي أن في الكتابة "نحن لا نقول كل شيء، فلا بد من ترك مساحة ما بيضاء، ليملأها القارئ بمشاعره وأحاسيسه، كأنه يكتب أحواله عبر مخيلته". ثم يوصي:ٍ "لا تعول كثيراً على قوائم القراءة التي وضعها كبار كتاب العالم وشعرائه، ولا تجعلها هادياً ومرشداً لأنك ابن ثقافة أخرى". ويقول إن أجمل قصائده لم يستطع تدوينها؛ "لأنني عجزتُ عن إيجاد لغة تستوعب حالي وما أنا فيه. إن اللغة أقل وهجاً من حالي" ص 81
ولا يكاد عمل إبداعي للشهاوي يخلو من حضور المرأة، بدءاً من الإهداء الذي يوجهه دائما إلى أمه نوال عيسى (فعلها في كل كتبه). وهو هنا يقول لها: "بعتُ الدنيا كي لا تفلت لغتي مني". فاللغة هاجس أساسي في تجربة الشهاوي مع الكتابة. أما المرأة عموماً فهي بالنسبة إليه؛ "الفكرة والمعيار والحرية والمرجع ومرشد الروح، بل هي خالقة صور ومنتجة مجازات غير تقليدية وغير مكرورة أو معادة، وأنا أحبها أكثر مما أحب أرض الأسلاف، إذ هي الأسلاف والأخلاف معاً، ولذا لم أناد مرة واحدة بـ "تحرير المرأة"؛ لأن المرأة هي الكائن الأكثر حرية على كوكب الأرض، لما مُنحت من مواهب وروافد وطاقات، وبالطبع أرواح، وهي القوة المتفجرة الأعلى من أكبر ثورة في التاريخ" ص 84.
ويؤمن الشهاوي كذلك بأنه لا يوجد شيء راسخ ومستقر في الفنون والآداب، فالشكل دوماً في تطور وتغير، ولا يوجد تعريف واحد للشعر أو الرواية على سبيل المثال، لأن هناك شعريات كثيرة، وحداثات أكثر، وأشكال وأنواع لم تكتشف بعد". ويضيف: "لستُ من أهل العجلة، فأنا دائماً متشكك فيًما أكتب، وقلق كأن النار – وليست الريح كما قال المتنبي – تحتي، أحذف أكثر مما أثبت. ما أنا متأكد منه هو أن الشعر لا يبارح أي مكان تحل فيه روحي" ص 102.
محنة الشعر
وهنا يعود إلى البواكير: "لم يشجعني أحدٌ من الأهل أو أصدقاء الأسرة، كي أكون شاعراً؛ لأنني لم أر شاعراً يعيش في قريتي وقتذاك، يمكن أن أهتدي به، أو أتأثر بمسيرته. لكن الأجواء النفسية والحياتية، التي عشتُ فيها، ساعدتني في أن أكتب الشعر وأنا في المدرسة الابتدائية: اليُتْم المبكر بوفاة أمي نوال عيسى سنة 1965، ثم أبي سنة 1975، وجود كتب شعرية وروائية وقصصية وتراثية وصوفية ودينية في البيت تحث على القراءة، تشجيع من الأب الأزهري على الدراسة والسلوك على القراءة بدأب".
ويرى الشهاوي أن مقولة "كتب الشعر لا تبيع"، "أكذوبة يرددها الجميع، بمن فيهم الشعراء قبل الناشرين، لأنه لو أتيحت لكِتاب الشعر الحرية في الانتقال من مكان إلى آخر، دون قيد أو شرط، لنفدت طبعته الأولى في أسبوع". ويذكر في هذا الصدد تجربته مع مشروع "مكتبة الأسرة": "عندما صدرت لي أربعة كتب شعرية ونثرية في "أدب العشق" طُبِع من كل كتاب 25 ألف نسخة، بيعت جميعها، لأن الكتاب كان يباع بسعر زهيد، فضلاً عن إتاحته لدى باعة الصحف وفي المكتبات في سائر أنحاء مصر". أما الآن: "صار من الصعب أن تنشر كتاباً شعرياً، فإما أن تنتظر دورك لو أردت النشر في مؤسسة رسمية، أو أن تنشر بمقابل مالي. وحتى الشعر المترجم إلى العربية، لا يجد من يتحمس لنشره. والأمر ينطبق كذلك على نشر نقد الشعر ما جعل الجوائز الكبرى بعيدة عن الشعر والشعراء" ص 167.