Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا أراد نجيب محفوظ من "نقاهة" طعنة الإرهاب؟

"الأحلام" فلسفة حياة وفكر ونوع مبتكر من كتابة سيرة الذات وتمثل درساً لمن سيأتي من بعده

نجيب محفوظ (1911 – 2006) (مواقع التواصل)

ملخص

يمكننا أن نفلسف كل ما نريد ونبرر كل ما نريد. وهكذا، عبر 230 فقرة قدم نجيب محفوظ في "أحلام فترة النقاهة" 230 حكاية و230 عبرة و230 لغزاً وبشكل خاص، وإن بين السطور، 230 وصية أخلاقية جاعلاً من كل هذا مفتاحاً ربما لفهم حياته نفسها وأدبه، ناهيك عن تقديمه 230 سبباً لعيش لذة القراءة.

خلال لقاءاتنا الموسمية معه في القاهرة خلال الـ20 عاماً الأخيرة من حياته كان أستاذنا نجيب محفوظ في كل مرة نبادره بالسؤال عن صحته وعمَّ يكتب، يقول بهدوء إن علينا "نحن الذين أدركتنا حرفة الأدب" (وهذه بالذات يقولها بالفصحى المطلقة وبتفخيم أين منه أداء يوسف وهبي المسرحي!) علينا الكتابة، ومهما كانت الظروف طالما نستطيع ذلك، و"يا ريت حتى اليوم ما قبل الأخير في حياتنا".

غير أن محفوظ لم يتمكن من العمل هو نفسه بنصيحته بالذات بالنظر إلى أن أمنيته الأخيرة لم تتحقق. فلقد عاش السنوات الأخيرة من حياته عاجزاً إلى حد بعيد عن أن يكتب ما يخطط لكتابته حتى أيامه الختامية، وذلك بالتحديد لأن الإرهابيين الذين حاولوا اغتياله يوم الـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) 1994، حتى وإن كانوا قد عجزوا عن وضع حد لحياته في ذلك اليوم، فإنهم وضعوا نهاية لقدرته على الكتابة بأساليبه المعتادة.

ولقد اضطره ذلك إلى الاكتفاء بكتابة سريعة وفقرات موجزة لا ترقى بالتأكيد إلى مستوى أعماله الكبرى التي كانت خاتمتها رواية "قشتمر" (1988)، ومنها بشكل خاص ما جمع في نصه ما قبل الأخير "صدى النسيان" ثم، وبشكل أكثر أهمية ودلالة في الكتاب الأخير الذي حمل عنوان "أحلام فترة النقاهة".

صحيح أن "صدى النسيان" اعتبرت نوعاً خاصاً من الرواية على النمط المحفوظي تتأرجح بين "حديث الصباح والمساء" و"المرايا" و"حكايات حارتنا" بمعنى أنها لم تأتِ بجديد حتى ولا على صعيد التوضيح كما سنرى، لكن "أحلام فترة النقاهة" أتت غير ذلك. فلئن كانت الأولى تقنية تحاول أن تلقي مزيداً من الضوء على الجغرافيا الشاهينية وحارته وأبناء الحارة، فإن الثانية أتت أكثر ابتكاراً وجوانية بالنسبة إلى العالم المحفوظي الخاص، بل لنقل أتت نوعاً من وصية فكرية لم يكن من الصدفة أن تكون بها خاتمة حياة محفوظ، بل خاتمة إنتاجه ككاتب.

وصية مزدوجة

يقال عادةً إن محفوظ قد دبج هذا النص المتنوع والمؤلف من نحو 230 فقرة تراوح في طولها ما بين بضع عشرات وبضع مئات من الكلمات، في خضوع منه للظروف الصحية التي حتمت عليه أن يكون هذا "الكتاب" على هذه الطريقة، فإن تلك الظروف هي نفسها ما مكن كاتبنا من أن يختصر، وأحياناً في الحد الأدنى من الكلمات أو الجمل السريعة، عشرات المشاريع التي كانت من النوع الذي كان يخطر بباله في مراحل سابقة، لكنه كان دائماً ما يؤجلها تبعاً لأولويات لا يملك غيره سرها. وهو أخيراً، منهك ويشعر أن الزمن المتاح له بات قصيراً جداً وأنه ليس من شيمته أن يترك أموره الإبداعية معلقة، وأدرك أنه لا مهرب له من تدوينها و... ليكن ما يكون.

ومن هنا خطرت له كما يبدو فكرة بديعة تضمن تمكنه من تدوين ما قد يصل عدده إلى عدد الأفكار التي تحوم في رأسه، وقد أدرك أن يومياته نفسها قد لا تسمح له بالاستغراق في أي منها بقدر ما تحتاج، فكان الحل بالنسبة إليه أن يجعلها وكأنها تدوين لأحلام كانت تُواتيه خلال الليل. وهو بهذه الطريقة تمكن من الإفلات من أي منطق سردي واقعي مع الحفاظ على عمق أفكاره. فالاحلام أحلام، حتى ولو تحولت إلى حبر على الورق إلى نصوص ينبغي أن تفهم من قبل قارئيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن هل ترانا حقاً مجبرين حين نروي حلماً من أحلامنا أن نسرده بمنطق محدد يجعله يبدو حقيقياً ووقع فعلاً؟ على الإطلاق. الحلم وعاء يتسع لكل مخيلاتنا وخزعبلاتنا وتقاطع أفكارنا، واستعادة الغائبين إلى ما سنفترض أنه واقعنا، والكذب على أنفسنا بقدر ما نكذب على سوانا، واختراع حيوات ومغامرات ومواقف خاصة بنا. في الحلم يمكننا أن نكون قادرين على الخوارق والمعجزات، وانطلاقاً من الحلم يكون في مقدورنا أن نوجه النصائح لأنفسنا ونوجه أفكارنا كما يمكن للفكر أن يكون حراً.

باختصار يمكننا أن نفلسف كل ما نريد ونبرر كل ما نريد. وهكذا، عبر 230 فقرة قدم نجيب محفوظ في "أحلام فترة النقاهة" 230 حكاية و230 عبرة و230 لغزاً وبشكل خاص، وإن بين السطور، 230 وصية أخلاقية جاعلاً من كل هذا مفتاحاً ربما لفهم حياته نفسها وأدبه، ناهيك عن تقديمه 230 سبباً لعيش لذة القراءة.

"نوبل" التي توجت الأدب العربي

وهذا كله جعل هذا الكتاب يتحول، وتدريجاً، إلى واحدة من الوسائل الأكثر صدقية لفهم نجيب محفوظ وأدبه والكشف عما انغلق دائماً أمام قارئيه ودارسيه. وهو ما يعيدنا إلى الكاتب نفسه وشؤونه ،فلقد جرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ، في ذلك اليوم من عام 1994، أي في وقت كان على الحياة الأدبية أن تحتفل فيه بالذكرى السادسة لحصول صاحب "الثلاثية" و"ملحمة الحرافيش" على جائزة نوبل التي لم ينلها أي أديب عربي من قبله، وكانت ولا تزال، حلماً يداعب خيال كل أديب عربي. لقد كان فوز محفوظ بتلك الجائزة الأدبية العالمية الأرفع، يومها، بمثابة تتويج للأدب العربي ككل، ووسيلة لوضعه داخل الزمن.

 

أما محاولة اغتيال نجيب محفوظ بطعنة خنجر في عنقه لم ينجُ منها إلا بإعجوبة، فإنها أتت لتتوج تلك المعركة العنيفة التي يشنها التطرف ضد المثقفين بشكل عام. والغريب أنه في الوقت الذي يعلن فيه المتطرفون أن معركتهم هي مع "السلطات الغاشمة"، حسب تعبيرهم، ومع الأعداء الخارجين الشياطين الكبرى والصغرى من الأميركيين إلى الإسرائيليين، فإن ما يمكن ملاحظته هو أن ضحايا العنف المتطرف هم، ودائماً، واحد من اثنين، إما مثقفون كتاب وفنانون، وإما أناس أبرياء عزل من السلاح، نساء وأطفالاً وعجائز. ومدهش، بالطبع، أمر تلك "الثورة" الشاملة التي تحاول أول ما تحاول، إفراغ المجتمع من سكانه، ومن مثقفيه.

الكاتب الحقيقي لاعب ماكر

نجيب محفوظ، الذي جرت محاولة اغتياله على ذلك الشكل، كان موقفه حين أدرك ما أصابه ونجا منه، متسامحاً إلى حد كبير مع "جلاده". وهو في التصريحات العديدة التي أدلى بها حول ذلك الأمر، أبدى تفهمه التام لحركة "القاتل"، لكنه تساءل حول السبب الذي بات يجعل من المثقفين المبدعين الذين هم ضمير الأمة، هدفاً أساساً للعنف والإرهاب.

ولئن كان محاولو قتل محفوظ أعلنوا أنهم فعلوا ذلك تحديداً بسبب رواية "أولاد حارتنا"، فإنهم أضافوا "نحن لم نقرأ الرواية، لكن صدر تكليف إلينا بقتل مؤلفها"، وكان ذلك لافتاً بعد قيام الجماعة باغتيال فرج فودة. وأعلن المتهم الأساس في القضية محمد ناجي، يومها أنه "ليس نادماً على ما فعل، ولو قدر له الخروج من السجن فسيعيد ارتكاب المحاولة". مهما يكن من أمر، وإضافة إلى ما قاله نجيب محفوظ حول تلك الجريمة التي ارتكبت في حقه، لا بد أن يلفت النظر أن القسم الأكبر من "أحلام فترة النقاهة" تبدو وكـأنها وليدة ذلك الحدث الكبير والفتاك في حياة الكاتب من دون أن يزعم ذلك.

وللوصول إلى هذا الاستنتاج قد يحتاج المرء إلى التعمق في "قراءة" الدلالات الكامنة في خلفيات نصوص ربما يمكن القول إنها تختلف بصورة جذرية عما يمكن تلمسه في الكتابة المحفوظية حتى حين يحاول الكاتب الكبير الخروج عن الدروب الممهدة لتلك الواقعية في نوع من تجريبية تستند إلى أنواع أدبية متعددة كان محفوظ يطلع عليها بل يحس أحياناً بالحيرة تجاهها حتى اللحظة التي يسطرها فوق أوراقه، ولو عرضاً، وربما في عديد من تلك الأعمال على شكل أحلام عابرة، أو أفكار عارضة، أو حتى حوارات ومواقف تبدو على شكل ألعاب "تجريبية"، ولا سيما في قصصه القصيرة التي تكاد تكون الأكثر تجريبية بين أعماله، لكنها هنا، في النصوص التي جمعت تحت عنوان "أحلام فترة النقاهة" فإنها تبدو لعبة كبيرة ماكرة يمارسها ذلك الكاتب الذي كنا قد نسينا منذ زمن بعيد أنه واحد من أكبر "اللاعبين" في تاريخ الأدب، وذلك الواقعي الذي يبدو أحياناً وكأنه يستقي من "طبيعية" الفرنسي إميل زولا لينسينا أنه ليس ذلك المتعلق بالمنطق إلى الدرجة التي نعتقد، أو في الأقل لتذكيرنا بأن الواقع يتضمن أيضاً أحلامه وعبثيته وتجريبيته من دون أن يلغي ذلك كله سؤالاً نكاد نكون قد أجبنا عنه في ثنايا ما بدأنا به هذا الكلام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة