ملخص
قدمت فرقة" فن بوكس" السعودية عرضها المسرحي "طوق" على مسرح الجامعة الأميركية في وسط القاهرة، ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ32 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وحققت قدراً كبيراً من التوازن بين التجريب والتواصل مع الجمهور.
إذا كان هناك كثرٌ لا يستسيغون بعض العروض المسرحية التجريبية باعتبارها تولي التجريب أهمية قصوى، حتى لو على حساب الجمهور الذي يخرج منها كما دخل، فإن هناك، في الوقت نفسه، عروضاً تجريبية يحرص صناعها على وضع الجمهور في أذهانهم، مقدمين توليفة متوازنة تحقق تلك المعادلة الصعبة، التجريب والانفتاح على الجمهور، حتى لو من زاوية ضيقة.
إلى هذا النوع الأخير، تنتمي المسرحية السعودية "طوق" التي قدمتها فرقة "فن بوكس" في المسابقة الرسمية للدورة الـ32 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وهي من تأليف أحمد بن حمضة وإخراج فهد الدوسري.
على رغم أن المسرحية تنحو منحى تجريبياً، فقد سعى صناعها إلى إحداث توازن ما بين التجريب والتواصل مع الجمهور، وليس الانفصال عنه، بمعنى أنها لم تكُن منغلقة على ذاتها، ولم تبتعد من هموم المشاهد الذي رأى نفسه في شخصياتها، وكأن حياته تجسد أمامه على خشبة المسرح.
الدائرة، أو الطوق، هي العلامة الأبرز في هذا العرض، خمسة موظفين يعملون في إحدى الشركات، يجلسون إلى طاولة دائرية في منتصف المسرح، وتفكك هذه الطاولة في بعض المشاهد لينفرد كل منهم بطاولته الخاصة، وأمامه شاشة حاسوب، هي مجرد إطار فارغ، كأنهم يدورون أيضاً في الفراغ، وفي الخلفية، وعلى ارتفاع نحو مترين، ساعة على شكل دائرة، عند إزاحتها تظهر دائرة مكانها في العمق، يخرج منها مدير الشركة المتسلط الذي يخاطب موظفيه من علِ، وذلك كله وسط إضاءة (تصميم حمد الموجيد) تقوم بدو تعبيري في تصوير أجواء العرض في توتراته ورتابته وانفراجاته، ولفت نظر الجمهور وتعميق شعوره بالحدث أمامه.
توقف الزمن
تشير الدائرة هنا إلى الرتابة والملل، كما تشير أيضاً عقارب الساعة التي لا تتجاوز الـ12، ثم تعود للـ11، وهكذا في دلالة على توقف الزمن، أو اقتصاره على هذه المساحة الضيقة والمحدودة من الوقت، كل شيء مكرر ولا جديد يحدث ولا أحد يشعر بمرور الوقت.
المشاهد نفسها تُكرر، وإن جاء بعضها بتنويعات مختلفة، بعضها يحمل حساً كوميدياً، وبعضها الآخر يعتمد الإيماء بديلاً عن الكلمة، لكن الأحداث لا تتطور، إلا قبل النهاية بقليل، وهو أمر بدا مقصوداً، حتى إن أحد الممثلين يهبط إلى صالة الجمهور، يسألهم عن سر بقائهم على رغم أن شيئاً لا يحدث، وهل لهم القدرة على احتمال تكرار المشهد نفسه بصورة آلية لا جديد أو مدهش فيها.
هذا الملل والتكرار لا يشعر به سوى موظف واحد، هو مدير القسم، بينما الموظفون الأربعة الآخرون يعملون مثل الآلات من دون أي شعور بأنهم يمارسون الأفعال المتكررة نفسها، راضين، راضخين لسطلة المدير وتحكمه، ومستجيبين لأوامره التي يلقيها من علِ، متبوعة بالتهديد والوعيد.
العدوى المسرحية
وحده هذا الموظف (شهاب الشهاب) مدير القسم، من يتمرد على هذا الوضع البائس، ويدرك أن الطوق الذي يحيط به لن يُكسر إلا بمواجهته، ويقرر كسر هذه الدائرة الجهنمية من الرتابة والملل، ومواجهة المدير، صاحب السلطة، بل صفعه، وعلى رغم تعرضه لتهديد هذا المدير (خالد الهويدي) فإنه يواصل تمرده ويحاول تثوير الآخرين كأنه تحول إلى رائد ثقة، لكنهم بدلاً من أن يستجيبوا له، يهاجمون أفعاله باعتبارها لن تؤدي إلى فصلهم من العمل وتشريدهم فقط، بل ربما تؤدي إلى موتهم. إنهم حتى لا يتركونه في حاله، فتتآمر إحدى الموظفات (مريم حسين) مع زملائها لتحل محله مديراً للقسم، ليأمنوا على وظائفهم من تمرده وثورته.
ورويداً رويداً، تبدأ عدوى التمرد تسري في أوصال الموظفين، تتمرد إحداهن (فاطمة الجشي) على قهر زوجها وعنفه، ويتمرد آخر (أحمد الذكر الله) على مخاوفه وتقوقعه على ذاته نتيجة فقد أبويه، وكذلك يتمرد ثالث (عبدالعزيز الزياني) على عنفه وقسوته بسبب عدم قدرته على الارتباط بزميلته التي أحبها نظراً إلى الفروق الطبقية بينهما، وهذا التمرد على الذات يقودهم إلى التمرد على الآخر، بعدما كسروا الطوق الذي بداخلهم.
لقد أدرك هؤلاء الموظفون، بمضي الوقت وتكرار ما يفعلونه، وكذلك بتحريض زميلهم لهم ومحاولته تثوير وعيهم، أنهم واقعون في أسر طوق يسحق إنسانيتهم، ويحولهم إلى مجرد آلات، وأن عليهم المواجهة، لا الرضوخ للاستلاب والقهر، فكان أن كسروا أطواقهم جميعاً.
لم يكُن الطوق هنا رمزاً فقط لبيئة العمل، بل للحياة بكاملها، فلكل منهم طوقه الذي كان عليه أن يكسره بالمواجهة لا بالهروب والتواري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نعم إن هذه الأحداث التي جاءت غير محددة المكان، لكنها أخبرتنا فقط بأنها تدور في وقتنا الحالي، إنما جاءت على هذا النحو لتتماس مع إنسان هذا العصر في كل مكان، ذلك الإنسان المسحوق دائماً تحت وطأة الرأسمالية التي تعامله كآلة، أو كترس في عجلة الإنتاج، ليس له سوى أن يعمل ويعمل، ويكرر أفعاله على نحو آلي ليس فيه أي جديد، أو مثير، ويظل مطيعاً للأوامر والتعليمات، ليحصل في النهاية على الفتات الذي يمكنه من البقاء فقط على قيد الحياة، بينما يجني أصحاب الشركات والمصانع الملايين على حساب إنسانيته، لكن الدلالة هنا تتسع لتشمل الحياة برمتها وليس بيئة العمل فقط، فهي لا تتعلق بقسوة الرأسمالية وحدها، بل بقسوة الإنسان صاحب السلطة عموماً، سواء كان رئيساً في العمل، أو زوجاً، أو أباً، أو غير ذلك.
من هنا يخاطب العرض الإنسان في كل مكان، لا ينشغل بالشكل فحسب، بل بالمضمون أيضاً، مما تغفل عنه معظم العروض التجريبية التي تبدو نخبوية ونوعية، غير مشغولة سوى بالاستعراض والإيغال في الاهتمام بالشكل.
وعلى رغم حرص العرض على التواصل مع الجمهور، فقد تجنب المباشرة الفجة، وترك مساحات من التأويل والأسئلة، ولم يكتفِ بالمتعة البصرية التي حققتها السينوغرافيا (فيصل العبيد) وكذلك الأداء التمثيلي، والحركة المرسومة بعناية، بل حرص على المتعة الفكرية التي تثير المشاهد وتعمل على تثويره في مواجهة كل ما ينتهك إنسانيته.
"طوق" عرض مسرحي امتلك صناعه وعياً بأن المسرح، أياً كان شكله، موجه بالأساس لجمهور ومعبر عنه، وأن التجريب لا يعني اللعب في الفراغ، فثمة رسالة وراء "اللعب المسرحي" وإلا تحول إلى "لعب عيال".