ملخص
مدربون من الخارج يعلمون المنقذين في مصر، وشخص مُختبر من الاتحاد يراقب من يجري تدريبهم ويخضعون لاختبارات عملية ونظرية، فلماذا تتزايد حوادث الغرق في مصر؟ الإجابة: شركات سمسرة تنتشر في البلاد متخصصة في إصدار شهادات مزورة، وتنظم دورات غير معتمدة من جهات مجهولة، وتستخرج شهادات بطرق غير مشروعة، فيما تعتمد بعض الشواطئ على هذه الفئة، لتظهر بواجهة توحي بوجود لايف جارد، بينما في الحقيقة لم يتعلموا فنون الإنقاذ من جهة معتمدة
لم تكن رحلة الموت التي أودت بحياة سبعة طلاب في شاطئ أبو تلات بالإسكندرية في منتصف أغسطس (آب) الماضي، واستسلامهم للأمواج التي سحبتهم إلى عمق البحر، سوى مشهد جديد من سلسلة مأسوية لحوادث غرق لا تنتهي في مصر تطرح معها تساؤلات حول كفاءة فرق الإنقاذ في الشواطئ المصرية، ومدى اعتمادها على الوسائل الحديثة، وهل من جهة مسؤولة عن إلزام إدارات الشواطئ بمعايير فنية محددة في هذا الشأن؟
وبين أسباب فنية وتنظيمية وإدارية ومناخية، يفسّر بها متخصصون ومسؤولون هذه الكوارث، تتوالى الفواجع من دون إجراءات ملموسة توقف دائرة الموت التي تحصد أرواح المصريين، من الشواطئ العامة إلى المصنفة بالراقية.
وبحسب شهادات جمعتها "اندبندنت عربية" من منقذين وأصحاب شركات ومسؤولين في الاتحاد المصري للغوص والإنقاذ تبيّن أن منظومة الإنقاذ على الشواطئ "لا توفر الحد الأدنى من الحماية"، خصوصاً أن غالبية المنقذين "طلاب يعملون برواتب زهيدة، ومن دون تدريب كافٍ، فيما تغيب الأدوات الحديثة، ويقتصر الاعتماد على وسائل بدائية".
منقذون غير مؤهلين
بينما تغيب البيانات والإحصاءات الرسمية عن معدلات الغرق في مصر، تشكو المنقذ الدولي المعتمد من الاتحاد المصري للغوص والإنقاذ شيماء عمر محمد من فقر منظومة الإنقاذ، قائلة "المنقذون يدربون على وسائل وأدوات الإنقاذ، ثم يدفعون إلى سوق العمل فيصطدمون بواقع مختلف، حيث لا تتوافر لهم الأدوات التي تدربوا عليها"، متسائلة "كيف يُسمح بفتح الشواطئ للمصطافين وهي لا تمتلك أدوات إنقاذ حديثة، وعدداً كافياً من المنقذين المؤهلين؟".
وضربت شيماء مثلاً عملياً على الأسباب الرئيسة وراء تكرار حوادث الغرق بقولها، "بعض الذين درّبتهم على الإنقاذ، بما يشمله من تعليمات مثل الحفاظ على الأدوات وصيانتها بصورة دورية، يشتكون عند نزولهم سوق العمل من أن أصحاب الشواطئ يؤكدون عدم امتلاكهم أدوات إنقاذ من الأساس، ويجبرونهم على مهمات أخرى لا علاقة لها بالتدريب، مثل حمل الفوط والبشاكير".
حين سألناها عن وجود منقذين محترفين على الشواطئ المصرية، أجابت "مدربون من الخارج يقومون بتدريب المنقذين في مصر، وهناك شخص مختبر من الاتحاد يراقب من يجري تدريبهم ويخضعون لاختبارات عملية ونظرية، مع إعادة الاختبار في حال الإخفاق، حتى يكون المنقذ قادراً على تحمّل مسؤولية شاطئ، هؤلاء يتبعون الاتحاد المصري للغوص والإنقاذ، لكن المشكلة تكمن في انتشار شركات سمسرة متخصصة في إصدار شهادات مزورة، تنظم دورات غير معتمدة من جهات مجهولة، وتستخرج شهادات بطرق غير مشروعة، فيما تعتمد بعض الشواطئ على هذه الفئة، لتظهر بواجهة توحي بوجود لايف جارد، بينما في الحقيقة لم يتعلموا فنون الإنقاذ من جهة معتمدة".
ومضت قائلة، "هذه الفئة لا تعرف سوى أساليب لا علاقة لها بالإنقاذ، مثل توجيه ضربة للشخص الغارق وجره إلى الخارج، وهو أمر شائع، ومع أن مهمة المنقذ الأساسية هي مراقبة الشاطئ باستمرار، فإن الجهات المشرفة لا تعتبرها وظيفة، وتكلفهم بمهمات أخرى مثل تنظيف الشاطئ، مما يحولهم تدرجاً إلى عمال خدمات بعيداً من مسؤوليتهم الأساسية".
شركات غير مرخصة
ما قالته شيماء يتطابق مع شهادة محمد حسين، صاحب واحدة من أقدم شركات الإنقاذ في الساحل الشمالي، الذي رسم صورة أوسع عن أوضاع المنقذين، قائلاً لـ"اندبندنت عربية" إن مجال الإنقاذ لن يصبح منظومة حقيقية إلا إذا حددت رواتب مجزية وموحدة، حين يقيّمون عمل المنقذ بـ8 آلاف جنيه، لا أستطيع منحه أكثر من 6 آلاف، أي ما يعادل 200 جنيه في اليوم، ولا أستطيع الالتزام بالمعايير الخاصة بعدد المنقذين في الشواطئ، لأنني إذا فعلت سأخسر، فنضطر إلى تقليل الأعداد مقابل القبول بالعروض المالية المتدنية.
"المنقذ الجيد الذي تعلم فنون الإنقاذ يصطدم بسوق عمل تفضل من يقبل بأقل الرواتب، لذلك الكفاءات قليلة، هناك أيضاً شركات غير مرخصة تعمل بحرية، بينما نحن ندفع للاتحاد المصري 20 ألف جنيه سنوياً، للحصول على الترخيص، كيف نحقق مكاسب في ظل هذا الوضع؟ هذا ينعكس على جودة الإنقاذ".
وتساءل بنبرة ساخرة، "من أين أعتمد على منقذين محترفين ونحن نحصل على مقابل ضعيف، ولدينا التزامات عدة؟ لذلك أضطر إلى تشغيل طلاب في مجال الإنقاذ لغياب هامش ربح يسمح بالتوسع، حالياً كل العاملين تحت مظلة شركتي في الساحل لا يتجاوزون 30 فرداً، لأن العروض المالية لا تشجّع على التوسع، و95 في المئة من الشواطئ في الساحل الشمالي تعتمد على وسائل إنقاذ بدائية، ولا تستخدم مراكب حديثة مثل (جيت سكي)".
وأشار حسين إلى عشوائية العمل في هذا المجال قائلاً: "نضطر إلى الموافقة على أسعار زهيدة، وحين أتعاقد على ثلاث قرى مثلاً، بدلاً من توفير 50 فرداً، أوزع 10 منقذين جيدين على القرى الثلاث، وأكمل العدد بطلاب يقبلون الرواتب الضئيلة، الاتحاد المصري مجرد أوراق، لا يفرض شيئاً على القرى، معظم المنقذين الذين يقبلون بالرواتب المتدنية بلا خبرة، وبعضهم يخشى النزول إلى المياه عند وقوع الكارثة".
عوامل مناخية
وبينما توثق الشهادات انتشار شركات غير مرخصة تنظم دورات غير معتمدة وتمنح شهادات مزورة، مما يسمح بعبور أفراد غير مؤهلين على الشواطئ تحت مسمى "منقذين" من دون امتلاك أي تدريب معتمد، لم تغفل الشهادات تأثيرات التغير المناخي وما يصاحبه من رياح وأمواج متزايدة، إضافة إلى المعالجات العشوائية لظاهرة النحر التي ينفذها مقاولون من دون الاعتماد على متخصصين، تؤدي إلى تكوّن ميل لهذه الشواطئ بدرجات متفاوتة يفاقم قوة الأمواج، فيما يقف السحب العكسي الناتج عن الجزر الصناعية وراء حوادث الغرق الجماعي.
وبين عوامل عدة تجعل من وجود فرق إنقاذ محلية مدرّبة على أحدث الوسائل مسألة ملحة مع تزايد معدلات الغرق في الآونة الأخيرة، يوضح المدير السابق لمعهد بحوث الشواطئ أيمن الجمل لـ"اندبندنت عربية" أن التغير المناخي تسبب في زيادة قوة الرياح نتيجة ارتفاع حرارة التربة، إضافة إلى الحروب المحيطة بمصر التي تؤدي إلى تسخين الأرض والمياه بصورة كبرى.
"بعض الشواطئ تتعرض لعمليات نحر وتآكل، وغالباً ما تجري معالجتها بإقامة ألسنة صخرية وإلقاء رمال بديلة عن التي تآكلت، لكن المشكلة أن من ينفذ هذه الأعمال ليس متخصصاً، فيكتفي بوضع الرمال فقط، مما يؤدي إلى ميل في البحر بدرجات متفاوتة، وهذا الميل يخلق أمواجاً قوية، ويشير إلى أن هذه المهمات تسند عادة إلى مقاولين عاديين بدلاً من شركات متخصصة في الأعمال البحرية أو تحت إشراف استشاريين من جهات علمية مثل معهد علوم البحار وهيئة حماية الشواطئ".
ويؤكد أن بعض حوادث الغرق الجماعي مرتبطة بظاهرة "السحب العكسي" التي تنتج عن وجود جزر صناعية موازية للشاطئ، فتتشكل تيارات تسحب المصطافين وتؤدي إلى وفيات في مناطق بعينها.
أين وسائل الإنقاذ الحديثة؟
لم يغفل أحمد البني، مشرف إنقاذ شاطئ العمورة في الإسكندرية وصاحب شركة إنقاذ، أن التكنولوجيا والعلم يسيطران على كل شيء اليوم، "لكن الشواطئ المصرية ما زالت تعتمد على أساليب تقليدية". موضحاً أن توفير وسائل إنقاذ حديثة يحتاج إلى عمالة مدربة، وإذا توافرت هذه الأدوات فإن الاتحاد المصري سيتولى تدريب المنقذين على استخدامها، وهو ما من شأنه تقليص حالات الغرق. ويضيف أن حادثة غرق أبو تلات كشفت بوضوح نقص هذه الوسائل، "فلا يعقل التعامل مع مجموعات كبيرة في المياه بعوامات وأساليب بدائية، لأن الوقت فارق في عملية الإنقاذ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير البني إلى أن الدول التي تهتم بحياة مواطنيها تعتمد على "جيت سكي" ومحركات بحرية مكلفة، إذ يبلغ سعر الواحدة نحو 600 ألف جنيه، إضافة إلى أطواق الإنقاذ، مما يجعل كلفة تشغيل شركة إنقاذ بهذه المعدات لا تقل عن مليون ونصف المليون جنيه. مؤكداً أن المنقذ المحترف يعرف أماكن تيارات المياه التي تشكل خطراً محدداً بعرض 20 متراً في مناطق معينة، مما يستلزم وجود لوحات إرشادية وتحذيرية ومنقذ متمرس في هذه النقاط، لكن شركات كثيرة تكتفي بعمال يرتدون زياً موحداً مكتوباً عليه "لايف جارد" ويحملون صفارة، متسائلاً "هل هذا الشخص معتمد من الاتحاد؟ وهل يعرف أماكن التيارات؟".
ويعتبر أن تسعيرة التعاقد هي السبب وراء غياب المنقذين المدربين، فمعظم القرى تعتمد على من يقبل بمبالغ زهيدة ويعمل بأدوات بدائية. مضيفاً أن أعداد المنقذين المؤهلين على الوسائل الحديثة قليلة، بينما يغلب على الشواطئ الاعتماد على طلاب تراوح أعمارهم ما بين 17 و22 سنة، يعملون في الصيف كمصدر دخل موقت وترفيه، قائلاً: "الإنقاذ في مصر مهمش، من الصعب أن تجده وظيفة يعتمد عليها شاب ليعول أسرته". متابعاً أن اشتراطات الأعداد لا تُطبق على أرض الواقع، إذ يفترض وجود فردي إنقاذ لكل 50 متراً من الشاطئ، لكن هذه القواعد لا يُلتزم بها.
تنبيهات على الورق
تصطدم الشهادات السابقة بما يقوله مدير فني الإنقاذ بالاتحاد المصري للغوص والإنقاذ هشام ربيع لـ"اندبندنت عربية"، من أن المنقذ يخضع لتدريب وتأهيل قبل اعتماده، قائلاً "نخرّج نحو 11 ألف منقذ سنوياً، ومتوسط عدد المنقذين خلال الأعوام الخمسة الأخيرة يراوح ما بين 35 و40 ألف منقذ. لدينا لجنة فنية ومدربون دوليون معتمدون يتولون التدريب، ولا يحصل المتقدم على الاعتماد إلا بعد اجتياز 14 اختباراً وفق المعايير العالمية للاتحاد الدولي للإنقاذ".
وبينما يضيف أن مصر تعدّ من الدول الرائدة في أفريقيا في هذا المجال، وتمتلك "الكود المصري للمنقذ"، وهو أحد ثمار مبادرة "مصر بلا غرقى"، مشدداً على أنه لا يُطبق بصورة إلزامية حتى الآن. ويشرح أن الكود يميز كل مسطح مائي بمعاينة فنية دقيقة، ويحدد عدد المنقذين، والأدوات المطلوبة، والمهارات اللازمة، ويضمن توزيعاً فنياً عادلاً، لكنه يظل بلا قوة تنفيذية أو إلزامية.
"الاتحاد لا يملك سلطة الردع، حين نزور أي شاطئ، ونسأل عن أعداد المنقذين، ونجدها أقل بكثير من المطلوب، يأتينا الرد بأنها كلفة لا يمكن تحمّلها، ونحن لا نملك أية آلية لمعاقبة المخالفين، عملنا يقتصر على التوجيه والمعاينة الفنية ورصد نقاط الضعف والقوة". ويؤكد أن ضعف العائد المادي للمنقذين في مصر يجعل أعداداً كبيرة من المحترفين يهاجرون إلى الخارج حيث الرواتب أعلى. لافتاً إلى أن "90 في المئة من العاملين بالإنقاذ في الساحل الشمالي من الطلاب"، ويضيف أن الشواطئ العامة التابعة للمحافظات يفترض أن تلزم شركات متخصصة ومرخصة من الاتحاد، لكن الواقع يعتمد على مناقصات تمنح للشركات الأرخص، بينما لا يعمل في مصر سوى 15 شركة معتمدة فقط.
ويختتم قائلاً إن المحليات مطالبة بالإنفاق على هذه المنظومة إذا كانت جادة في حماية الأرواح، "فقط حين يُلزم الجميع بالكود المصري، وتطبق بنوده على جميع الشواطئ يمكن أن يتحقق فرق ملموس في تقليل حوادث الغرق".
وقال إن بعض إدارات الشواطئ تلجأ إلى التعاقد مع شركات غير مرخصة لمجرد انخفاض الكلفة، متسائلاً "هل تمتلك هذه الشركات إدارة فنية معتمدة قادرة على وضع خطة إنقاذ حقيقية؟ للأسف، شركات معدودة فقط تدرك ما تعنيه خطة إنقاذ، منهياً حديثه قائلاً "ليس لدينا أية سلطة على القرى السياحية حتى إذا تعاقدت مع شركات غير مرخصة، وواقعياً لا أستطيع مراقبة عمل هذه الشواطئ إلا بعد الحصول على إذن سابق من إدارتها".