Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جنوب شرق آسيا بدأت تحسم خيارها

لماذا تميل المنطقة نحو الصين؟

وزير الخارجية الإندونيسي سوجيونو ونظيره الصيني وانغ يي في بكين، أبريل 2025 (رويترز)

ملخص

تواجه دول جنوب شرق آسيا ضغوطاً متزايدة للاختيار بين الولايات المتحدة والصين، ومع ميلها التدرجي نحو بكين بفعل العوامل الاقتصادية والسياسية والجغرافية، يهدد الغموض في التزام واشنطن واستمرار سياسات ترمب الاقتصادية والعسكرية بتعزيز النفوذ الصيني في المنطقة

لقد وجدت منطقة جنوب شرق آسيا نفسها في قلب التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، أكثر من معظم مناطق العالم، فغالبية الدول الكبرى في أجزاء أخرى من آسيا قد حُسم أمرها بالفعل، فأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان جميعها في المعسكر الأميركي، ويبدو أن الهند تتحالف مع الولايات المتحدة، في حين تميل باكستان نحو الصين، أما دول آسيا الوسطى فهي توطد علاقاتها مع بكين بصورة متزايدة، لكن جزءاً كبيراً من جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تضم نحو 700 مليون نسمة، لم يحسم تحالفاته بعد، لذا فإن القوة العظمى التي تنجح في إقناع دول رئيسة في جنوب شرق آسيا، مثل إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام، بتأييدها والالتزام التام بخطها، ستكون لديها فرصة أفضل لتحقيق أهدافها في آسيا.

على مدى عقود ظل قادة جنوب شرق آسيا يرفضون فكرة اضطرارهم للاختيار، وعلى رغم أن بكين وواشنطن جعلتا من تنافسهما الواقع السائد في الجغرافيا السياسية العالمية، يُردد مسؤولو المنطقة مقولة أن بإمكانهم أن يكونوا أصدقاء للجميع، وبالطبع فهم ليسوا غافلين عن الواقع الجيوسياسي المتغير، وكما قال رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ عام 2018 "أعتقد أنه من المستحسن جداً ألا نضطر إلى الانحياز إلى أي طرف، ولكن قد تأتي ظروف تجبر رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على اختيار أحد الطرفين، وآمل ألا يحدث ذلك قريباً".

في الواقع يمثل تقييم لي هسين لونغ لهذا المأزق آراء معظم دول جنوب شرق آسيا وجزء كبير من العالم أيضاً، إذ إنه يظهر ذعراً عميقاً في شأن الضرورات التي تفرضها المنافسة الكبرى بين القوى العظمى، فدولة مثل سنغافورة، على سبيل المثال، ازدهرت في نهاية المطاف خلال عصر العولمة، ووصفت نفسها بأنها ميناء تجاري منفتح على العالم، أما فيتنام، وهي ديكتاتورية شيوعية ظاهرياً، فقد حولت نفسها إلى مركز مهم للتصنيع العالمي ومرتبط بسلاسل التوريد الصينية والغربية على حد سواء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستطراداً شهدت دول أرخبيلية شاسعة مثل إندونيسيا والفيليبين، اللتين عانتا في السابق صراعات داخلية، نمواً كبيراً في الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2000، وعندما يرفض مسؤولو جنوب شرق آسيا فكرة أن عليهم اختيار أحد الجانبين فإنهم في الحقيقة يعبرون عن تفضيلهم للنظام العالمي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة، وهو نظام يتميز بتعاظم الروابط الاقتصادية وتراجع الصراعات الجيوسياسية.

في أعقاب الأزمة المالية عامي  2008 - 2009 بدأ هذا النظام بالتلاشي، والآن تجد منطقة جنوب شرق آسيا نفسها وسط منافسة بين القوى العظمى، وتتزايد حدة الخلاف بين الصين والولايات المتحدة في آسيا، ولم تعد دول جنوب شرق آسيا، سواء شاءت أم أبت، بمنأى عن الضغوط المصاحبة لمنافسة القوى العظمى، ومن خلال تحليل مواقف 10 دول في جنوب شرق آسيا حول مجموعة كبيرة من القضايا المتعلقة بالصين والولايات المتحدة، يتضح أمر واحد وهو أنه على مدى الـ 30 عاماً الماضية بدأ كثير من هذه الدول يتحول تدريجياً ولكن بصورة ملحوظة بعيداً من الولايات المتحدة ويميل أكثر نحو الصين، وكان بعض هذه التحولات أكثر حدة وأهمية من غيره، فلقد تمكنت بعض الدول بالفعل من تجنب الاصطفاف والموازنة بين القوتين العظميين، ومع ذلك فإن الاتجاه العام واضح، وقد تصر دول جنوب شرق آسيا على أنها تقف على الحياد إلا أن سياساتها تقول غير ذلك، فالمنطقة تنجرف نحو الصين، وهي حقيقة تنذر بالسوء بالنسبة إلى الطموحات الأميركية في آسيا.

صراع القوى

وفقاً لمؤشر القوة والنفوذ في آسيا الصادر عن معهد لوي Lowy Institute’s Asia Power Index، الذي يقيس القوة النسبية للدول استناداً إلى عدد من المتغيرات، بما في ذلك القدرة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ الدبلوماسي والثقافي، وصلت القوة الشاملة للصين إلى ما يقارب 90 في المئة من مستوى القوة التي كانت تملكها الولايات المتحدة في أواخر العقد الثاني من القرن الـ 21 نتيجة للنمو المذهل الذي حققته الصين منذ ثمانينيات القرن الـ 20، والطريقة التي حولت بها بكين إنجازاتها الاقتصادية إلى نفوذ دبلوماسي وعسكري بل وثقافي أيضاً، وقد أدى صعود الصين إلى إثارة جدل بين الأكاديميين الأميركيين خلال التسعينيات حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تحتوي هذا العملاق الآسيوي الصاعد أو أن تتعاون معه، وقد فاز دعاة التعاون بسهولة ومن دون أي منازع، وعلى رغم أن إدارتي كلينتون وجورج دبليو بوش شهدتا لحظات توتر مع الصين إلا أنهما لم تعتبراها خصماً، وقد أسهمت الحروب في الشرق الأوسط بعد هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001 في تشتيت انتباه واشنطن، ولم تدرك الولايات المتحدة التحدي المحتمل الذي تمثله الصين على الهيمنة الأميركية في القارة الآسيوية إلا مع سياسة "الاستدارة نحو آسيا" التي انتهجتها إدارة أوباما، ومع ذلك فإن إدارة أوباما وفريقها للأمن القومي لم تعتبرا الصين منافساً نداً أو تهديداً للأمن القومي، ويرجع ذلك جزئياً لافتراضهما، كما افترض أسلافهما، أن اندماج الصين في النظام الاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة سيجعلها أكثر ليبرالية على الصعيد السياسي في الوقت المناسب.

لكن هذا الوضع تغير مع انتخاب الرئيس دونالد ترمب، فقد تخلت إدارة ترمب الأولى عن أية فكرة مفادها أن الصين ستنضم بسلاسة إلى النظام الدولي الليبرالي، أو أنها ستتبنى إصلاحات سياسية ليبرالية، وقد عزز هذا الموقف إصرار ترمب على أنه لن يسمح بأن تصبح الصين أكبر من الولايات المتحدة، مما أدى إلى تحول كبير في السياسة الأميركية، وأصبحت واشنطن ترى الآن في الصين، التي تزداد قوة واستبداداً، تهديداً إستراتيجياً للولايات المتحدة.

في الواقع أن إستراتيجية الأمن القومي لعام 2017 وإستراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018، وغيرهما من التصريحات المتعلقة بالصين في تلك الحقبة، بما في ذلك خطابات نائب الرئيس مايك بنس في معهد هدسون عام 2018، ووزير الخارجية مايك بومبيو في مكتبة ومتحف ريتشارد نيكسون الرئاسي عام 2020، كلها رسمت صورة للصين على أنها أقوى وأخطر منافس جيوسياسي للولايات المتحدة، وقد استمر هذا التقييم حتى بعد هزيمة ترمب الانتخابية عام 2020 ووصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، وعلى رغم أن إدارة بايدن استخدمت لغة أكثر اعتدالاً فإن جوهر سياستها بقي كما هو، فالصين، وفق ما جاء في إستراتيجية الأمن القومي لعام 2022، هي "التحدي الجيوسياسي الأخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة، والمنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، ويمتلك بصورة متزايدة القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك"، ومع ذلك تفوقت إدارة بايدن على إدارة ترمب من خلال مهارتها في حشد حلفاء الولايات المتحدة للمساعدة في احتواء الصين، كجزء من منافسة شديدة تشمل جميع الأبعاد والجوانب الجوهرية للقوة.

قد لا تدرك حكومات عدة في جنوب شرق آسيا أنها في الواقع تنحاز إلى أحد الجانبين

ومن المرجح أن تصبح المنافسة الأميركية الصينية أكثر حدة وتعقيداً وخطورة من المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، فخلافاً للاتحاد السوفياتي الذي كان متأخراً اقتصادياً مقارنة بالولايات المتحدة في ذلك الوقت، تُعد الصين منافساً نداً أشد بأساً بكثير، وهناك كثير من بؤر التوتر المحتملة في آسيا، بما في ذلك شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، ومع احتدام هذه المنافسة ستسعى كل قوة عظمى إلى جذب أكبر عدد ممكن من الدول إلى صفها، وستكون منطقة جنوب شرق آسيا التي غالباً ما تحظى باهتمام متقلب من العواصم الغربية على رغم تعدادها السكاني الهائل ونفوذها الاقتصادي المتنامي، ساحة رئيسة لهذا الصراع، وبالنسبة إلى بعض دول المنطقة، وبخاصة تلك التي تربطها معاهدات تحالف أو علاقات أمنية قوية مع الولايات المتحدة، مثل الفيليبين، فإن الخطوط مرسومة بوضوح، فهذه الدول ترغب في الحفاظ على علاقات وثيقة مع واشنطن إيماناً منها بأن بسط القوة العسكرية الأميركية في المنطقة يعزز السلام والاستقرار، وخلال الحرب الباردة ازدهرت دول جنوب شرق آسيا التي انحازت إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند، بفضل سهولة الوصول إلى الاستثمارات والأسواق، أما الدول التي انحازت إلى الاتحاد السوفياتي أو الصين، مثل فيتنام على سبيل المثال، فقد شهدت نمواً أبطأ بكثير، وخلال الحرب الباردة كان من الواضح أن السوفيات لم يضاهوا الغرب من الناحية الاقتصادية، أما اليوم فهناك شعوب عدة في جنوب شرق آسيا تعتقد أن الصين قادرة على منافسة الولايات المتحدة بكل قوة.

وليس من المستغرب أن كثيراً من الدول التي لم تحسم موقفها بعد بين بكين وواشنطن تفضل عدم الاختيار على الإطلاق، فهي تريد أن تحتفظ بكعكتها وتلتهمها أيضاً [تسعى إلى الاستفادة من الطرفين في آن واحد].

إن النظرة التقليدية (وإن كانت مبسطة) هي أن دول جنوب شرق آسيا تتطلع إلى الولايات المتحدة من أجل الأمن وإلى الصين من أجل التجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي، لكن كلاً من الصين والولايات المتحدة تشعران بالإحباط المتزايد من هذا النهج المتوازن والذي حاذر الانحياز، فبكين لا تسعى إلى مجرد نفوذ اقتصادي في المنطقة، أما واشنطن في عهد إدارة ترمب الثانية فتسعى إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع جنوب شرق آسيا، جزئياً كتعويض عن المظلة الأمنية التي توفرها واشنطن في آسيا.

وبعض أبرز الاصطفافات الدبلوماسية في جنوب شرق آسيا لم يتبلور بعد، إذ إن "آسيان"، وهي رابطة تضم 10 دول في المنطقة، لا تتبنى موقفاً موحداً تجاه القوتين العظميين نظراً لتباين المصالح الوطنية بين دولها الأعضاء، وفي الواقع فإن الخلافات حول العلاقات مع الصين والولايات المتحدة قد اختبرت وحدة الرابطة وتماسكها في الماضي، وستواصل ذلك في المستقبل، ومن أجل فهم أوضح لمستقبل المنطقة والاتجاه الذي تسلكه فمن الأفضل النظر إلى سياسات كل دولة من دول آسيان على حدة استناداً إلى اختياراتها السياسية.

تحولات قارية

ومن أجل فهم الاصطفافات السياسية لدول آسيان درسنا خمسة مجالات من التفاعل بين هذه الدول وكل من الصين والولايات المتحدة: التفاعل "السياسي الدبلوماسي" و"العسكري الأمني"، والعلاقات الاقتصادية، والتقارب الثقافي السياسي (أو القوة الناعمة)، والإشارات (الرسائل العلنية الصادرة عن الدول)، وتتبعنا أربعة مؤشرات في كل مجال ليصل مجموعها إلى 20 مؤشراً [مقياساً] للاصطفاف السياسي، وعلى الصعيد السياسي الدبلوماسي مثلاً جمعنا بيانات حول التوافق في التصويت داخل الأمم المتحدة وقوة التعاون الثنائي وعدد الزيارات الرسمية الرفيعة المستوى والعضوية في التجمعات المتعددة الأطراف، وعلى الصعيد الاقتصادي درسنا الواردات والصادرات وروابط الأعمال ومستويات الدين الخارجي، ويسمح لنا دمج هذه المؤشرات بالتوصل إلى مجموع رقمي يمثل كل دولة، فالرقم صفر يدل على اصطفاف كامل مع الصين، بينما يشير الرقم 100 إلى اصطفاف كامل مع الولايات المتحدة، ووفقاً لهذا المقياس نعتبر الدول التي تقع ضمن النطاق من 45 إلى 55 ناجحة في التحوط وتجنب الاصطفاف وتتخذ موقفاً متوازناً بين القوتين العظميين.

ويقدم المؤشر الذي أطلقنا عليه اسم "مؤشر تحليل الاصطفاف السياسي"، نتيجتين رئيستين، أولاً عندما تصرح دول جنوب شرق آسيا بأنها لا ترغب في الاختيار بين الصين والولايات المتحدة فهذا لا يعني أن جميعها مترددة، وباحتساب متوسط مواقفها الاصطفافية على مدى الـ 30 عاماً الماضية، وجدنا أن أربع دول، وهي إندونيسيا (49)، وماليزيا (47)، وسنغافورة (48)، وتايلاند (45)، يمكن اعتبارها دولاً ناجحة في تجنب الاصطفاف تبذل قصارى جهدها لموازنة مواقفها والبقاء على مسافة واحدة بين الطرفين، أما دول "آسيان" الأخرى فهي أكثر تقارباً مع إحدى القوتين، فالفيليبين (60) متحالفة بوضوح مع الولايات المتحدة، بينما ميانمار (24)، ولاوس (29)، وكمبوديا (38)، وفيتنام (43)، وبروناي (44) جميعها متحالفة مع الصين.

ثانياً، من خلال تقسيم فترة الـ 30 عاماً إلى فترتين زمنيتين مدة كل منهما 15 عاماً، تظهر صورة أكثر ديناميكية توضح كيف تغيرت الاصطفافات والتحالفات، وهي صورة تظهر ميلاً واضحاً لمصلحة بكين، فمثلاً سجلت إندونيسيا 56 نقطة خلال الفترة الأولى (1995-2009)، ولكن في الفترة الثانية (2010-2024) سجلت 43 نقطة، وهو تغيير بمقدار 13 نقطة لمصلحة الصين، وبذلك انتقلت البلاد من الانحياز الطفيف لمعسكر الولايات المتحدة إلى انحياز طفيف لمعسكر الصين، وحتى عام 2009 كانت تايلاند شديدة الحذر والتحوط (49)، لكنها منذ ذلك الحين بدأت تميل نحو الصين (41)، فيما اقتربت الفيليبين، وهي حليف رسمي للولايات المتحدة بموجب معاهدة، قليلاً من الصين حتى مع بقائها في معسكر الولايات المتحدة، فقد سجلت 62 نقطة خلال الفترة الأولى و58 في الثانية.

وبدورها مالت ماليزيا (من 49 إلى 46) وسنغافورة (من 50 إلى 45) بصورة طفيفة نحو الصين مع أنهما لا تزالان ضمن نطاق الدول التي تجنب الاصطفاف، وتواصل كمبوديا (من 42 إلى 34)، ولاوس (من 33 إلى 25)، وميانمار (من 24 إلى 23) انجرافها نحو جاراتها الشمالية، واصطفت بصورة واضحة مع الصين، أما الدولة الوحيدة التي ابتعدت قليلاً من الصين واقتربت من الولايات المتحدة خلال الـ 30عاماً الماضية فهي فيتنام، وإن كان ذلك بصورة طفيفة (من 41 إلى 45)، وتشير قياساتنا في الفترة الأخيرة إلى أن فيتنام على وشك الانضمام إلى دول مثل ماليزيا وسنغافورة في الوقوف على مسافة واحدة ومتوازنة من القوتين العظميين.

الدفع والجذب

إن انجراف منطقة جنوب شرق آسيا نحو الصين لا يعزى لعامل واحد وحسب بل إلى مجموعة من العوامل، بما في ذلك الحاجات السياسية الداخلية لحكومات المنطقة وتصوراتها عن الفرص الاقتصادية ومدى استمرار النفوذ الأميركي إضافة إلى العامل الجغرافي، ويمكن أن تلعب السياسة الداخلية دوراً حاسماً، وفي الواقع تقدم كمبوديا مثالاً واضحاً على ذلك، فالانقلاب الذي وقع عام 1997 وأدى في نهاية المطاف إلى وصول الزعيم الحالي هون سين إلى السلطة مهد الطريق لتدهور خطر في العلاقات الأميركية - الكمبودية، في مقابل تحسن كبير في العلاقات بين الصين وكمبوديا، وقد علقت الولايات المتحدة مساعداتها وفرضت حظراً على تصدير السلاح إلى كمبوديا بعد الانقلاب الذي أدانته باعتباره تقويضاً للديمقراطية، وخلال العقد الثاني من القرن الـ 21 انتقدت الولايات المتحدة أيضاً سجل كمبوديا السيئ في مجال حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وبسبب هذا التعيير والتشهير أصبح نظام هون سين يرى في واشنطن تهديداً لأمنه، وليس من المستغرب أن تميل كمبوديا للانحياز بقوة أكبر إلى الصين التي توفر لها أشكالاً لا حصر لها من الدعم ونادراً ما توجه لها الانتقادات، فبكين توفر للحكومة الكمبودية استثمارات أجنبية ضخمة ودعماً سياسياً ومساعدة عسكرية، كما أنها لا تسعى إلى تقويض شرعية النظام الحاكم.

واستكمالاً فقد تستمد حكومات عدة في المنطقة شرعيتها من قدرتها على تحقيق أداء اقتصادي قوي، وهذا بدوره قد صب في مصلحة الصين التي أصبحت الشريك التجاري الأكبر لـ "رابطة آسيان"، وتعتقد الأنظمة غير الديمقراطية في "آسيان" أن الصين هي الطرف الأنسب لدعم حاجاتها الاقتصادية ورغبتها في ترسيخ شرعيتها السياسية، وفيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر فلا تزال الصين متخلفة عن الولايات المتحدة في المنطقة، إلا أنها بدأت تلحق بها بسرعة في عدة دول من خلال "مبادرة الحزام والطريق" التي مولت مشاريع بنية تحتية كبرى في جميع أنحاء العالم، وقد أجبر هذا النوع من الاستثمار دولاً عدة على إعادة النظر في رؤاها التقليدية للعالم، فعلى سبيل المثال كان الجيش الإندونيسي متشككاً تجاه الصين ومتضامناً مع الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وقد تجلى ذلك في أبشع صوره عبر عمليات القتل الجماعي التي طاولت ذوي الأصول الصينية والمشتبه بتعاطفهم مع الشيوعية خلال الستينيات من القرن الـ 20، ولكن خلال العقود الأخيرة نجحت النخب السياسية الجديدة ومجموعات الأعمال في دفع أجندة تركز على النمو، فهم يرون الصين مصدراً للفرص الاقتصادية لا للتهديد الأيديولوجي، وقد وجهوا إندونيسيا نحو الصين من خلال الترحيب بالاستثمارات الصينية وتنظيم زيارات رفيعة المستوى (ففي عام 2024 كانت أول زيارة خارجية للرئيس المنتخب حديثاً برابوو سوبيانتو إلى الصين، وفي مايو (أيار) 2025 قام رئيس وزراء لي تشيانغ برد الزيارة إلى إندونيسيا) والمشاركة في مناورات عسكرية مع الصين، وتجنب الممارسة الشائعة المتمثلة في استهداف الإندونيسيين من أصل صيني ككبش فداء للأزمات الاقتصادية في البلاد.

وقد أثارت عودة ترمب للبيت الأبيض مزيداً من القلق حيال الالتزامات العسكرية والاقتصادية الأميركية تجاه جنوب شرق آسيا، وفي الواقع يبدو أن إدارة ترمب الثانية عازمة على نقل مسؤولية أمن أوروبا إلى الحكومات الأوروبية، ولا تزال الإستراتيجية التي تتبعها الإدارة تجاه الصين وآسيا عموماً غير واضحة، وعلى الصعيد الأمني تشير زيارة وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في مارس (آذار) الماضي إلى الفيليبين واليابان إلى أن الولايات المتحدة لا تزال حريصة على تعزيز تحالفاتها الآسيوية، بدءاً من أقرب حليفين لها في المنطقة، وبينما يزداد التوتر بين الفيليبين والصين حول أراض بحرية متنازع عليها، صرح هيغسيث بأن التزام الولايات المتحدة تجاه الفيليبين "متين لا يتزعزع"، لكن اللافت أن تايلاند، وهي حليف رسمي آخر للولايات المتحدة بموجب معاهدة، لم تكن على جدول زيارة هيغسيث، وكان من الأجدر، إذا أخذنا في الاعتبار انجراف تايلاند نحو الصين ومصلحة الولايات المتحدة في وقف هذا التوجه، أن تشمل زيارة هيغسيث بانكوك أيضاً.

واستطراداً فسيراقب شركاء الولايات المتحدة الإستراتيجيون الآخرون الوجود العسكري الأميركي في جنوب شرق آسيا عن كثب، وسيتعين عليهم إعادة تقييم اعتمادهم على واشنطن وتعاونهم الأمني معها إذا استنتجوا أن الولايات المتحدة تتجه نحو الانسحاب من المنطقة، ففي عام 2017 أعرب وزير الدفاع الماليزي حينذاك، هشام الدين حسين، عن قلقه إزاء تلميحات إدارة ترمب الأولى إلى تقليص التزامات واشنطن الخارجية، وكان يأمل بأن تعيد الولايات المتحدة النظر في تقليص مشاركتها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وأضاف أنه إذا لم يحدث ذلك فيجب على "آسيان" أن تكون مستعدة لتحمل مسؤوليات أمنية أكبر، وحديثاً، في أبريل (نيسان) 2025 صرح رئيس الوزراء السنغافوري لورانس وونغ بأن "الوضع الطبيعي الجديد" سيكون عالماً "تتراجع فيه الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كضامن للنظام وشُرطي للعالم"، ومع ذلك لا توجد دولة أخرى مستعدة لملء هذا الفراغ، وقال "نتيجة لذلك يتحول العالم إلى مكان أكثر انقساماً وفوضوية".

إن اعتقاد ترمب بأن إظهار القوة العسكرية الأميركية يخدم المحميين أكثر مما يخدم الولايات المتحدة قد أثار قلق بعض من في جنوب شرق آسيا، ففي فبراير (شباط) الماضي أشار وزير الدفاع السنغافوري آنذاك، نغ إنغ هين، إلى أن صورة واشنطن في المنطقة قد تحولت من "محرر إلى مسبب كبير للفوضى إلى مالك عقار يطالب بالإيجار". وبعد زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الكارثية إلى البيت الأبيض في فبراير الماضي قال أحد كبار الدبلوماسيين في جنوب شرق آسيا ويقيم في واشنطن لأحدنا بمزاح لا يخلو من الجدية "أوكرانيا لديها معادن حيوية لتقدمها، أما نحن فماذا لدينا؟"

على الصعيد الاقتصادي فرض ترمب في أوائل أبريل الماضي رسوماً جمركية متبادلة مرتفعة على دول جنوب شرق آسيا، وعلى رغم تعليقها حالياً وعدم وضوح مصيرها فإن هذا التهديد لا يزال يخيم على اقتصادات المنطقة، وتخشى دول جنوب شرق آسيا ليس فقط فقدان فرص الوصول إلى الاستثمارات الأميركية والسوق الأميركية، بل أيضاً تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي اقتصادياً، أي التخلي عن دورها التاريخي في صياغة البنية الاقتصادية للمنطقة لمصلحة أطراف أخرى، وإذا تبين أن الولايات المتحدة تنسحب اقتصادياً وعسكرياً من المنطقة فستضطر الدول الـ 10 هناك إلى الاعتماد على بعضها أكثر والتعاون بجدية أكبر مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، لكن هذا المسار سيقابله، وربما يطغى عليه، إغراء الانجذاب نحو الصين.

على مستوى أعمق تلعب الجغرافيا دوراً مهماً في تشكيل القرارات التي يتعين على كثير من هذه الدول اتخاذها، فالدول التي تشترك في حدود مع الصين، مثل لاوس وميانمار وفيتنام، ستشعر بانجذاب طبيعي نحو بكين، ولا شك في أن هذا الانجذاب قد تخففه الشكوك أو العداوات التاريخية، كما هو الحال مع فيتنام التي تصدت لغزو صيني عام 1979، لكن القرب الجغرافي قد يُجبر على تقديم تنازلات، ففي ميانمار أصبح المجلس العسكري الذي استولى على الحكم بعد انقلاب 2021 يعتمد على الصين للحصول على الدعم الدبلوماسي والتجاري، على رغم إدراكه الدعم الذي تقدمه بكين لجماعات عرقية مسلحة متمردة تنشط في المناطق الحدودية، أما لاوس فقد أصبحت تعتمد بصورة شبه كاملة على الأموال الصينية لبناء السدود الكهرومائية على نهر ميكونغ داخل أراضيها، وتمثل قروض البنية التحتية من الصين الآن نصف الديون الخارجية التي تكبدتها هذه الدولة الحبيسة [لا تملك منفذاً على أي بحر أو محيط]، وتساعد الجغرافيا أيضاً في تفسير سبب تردد فيتنام في التقارب مع الولايات المتحدة، فعلى رغم سعي واشنطن إلى رفع مستوى العلاقات مع هانوي إلى "شراكة إستراتيجية شاملة"، لم توافق فيتنام على ذلك إلا عام 2023، أي بعد 15 عاماً من إبرامها اتفاقاً مماثلاً مع الصين، فالولايات المتحدة وعلى رغم امتلاكها شبكة واسعة من القواعد العسكرية، تبقى بعيدة جغرافياً، وهذه المسافة تجعل من غير المرجح أن تلتزم واشنطن بتخصيص الموارد والأفراد لضمان السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي، وهو إحدى أبرز بؤر التوتر الإقليمية، إذا تصاعدت الأمور نحو مواجهة حقيقية.

إخلاء الساحة للخصم

على رغم ميل جنوب شرق آسيا الواضح نحو الصين لكن أنماط الاصطفاف ليست ثابتة أو محسومة، فالدول قادرة على تغيير توجهاتها بسرعة، وعلى سبيل المثال في عهد الرئيسة الفيليبينية غلوريا ماكاباغال أرويو بين عامي 2001 و2010، مالت الفيليبين نحو الصين، أما خليفتها بينينو أكينو الثالث الذي حكم بين عامي 2010 و2016، فقد أعاد توجيه البلاد نحو الولايات المتحدة، ومن بعده مال رودريغو دوتيرتي نحو الصين، ثم أتى خليفته فرديناند ماركوس الابن وأعاد الاصطفاف من جديد نحو الولايات المتحدة.

وبين دول جنوب شرق آسيا ذات الغالبية المسلمة، بما في ذلك إندونيسيا وماليزيا، أدى الغضب من دعم واشنطن لحرب إسرائيل على غزة إلى دفع الحكومات نحو النأي بنفسها عن الولايات المتحدة والتشكيك في حديثها عما يسمى بالنظام الدولي القائم على القواعد، وقد أظهر استطلاع رأي أجراه "معهد إسياس - يوسف إسحاق" عام 2024 أن نصف الخبراء الذين شملهم الاستطلاع في 10 دول في جنوب شرق آسيا، والبالغ عددهم 2000 خبير من خلفيات أكاديمية ومراكز بحثية ومن القطاع الخاص والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية، اتفقوا على أن "رابطة آسيان" ينبغي أن تختار الصين على حساب الولايات المتحدة، بينما كانت نسبة المشاركين الذين فضلوا الولايات المتحدة على الصين خلال العام السابق تبلغ 61 في المئة.

قد تنجرف إندونيسيا من دون وعي منها نحو اصطفاف أوثق مع الصين

وقد لا تدرك حكومات عدة في جنوب شرق آسيا أنها في الواقع تنحاز إلى أحد الجانبين، وبما أنها تحافظ على علاقاتها مع كلتا القوتين العظميين فإنها تفترض أن سياستها الخارجية مُحكمة ومتوازنة، وهي تختار ما يناسبها من العروض الأميركية والصينية، فبإمكانها الانضمام إلى "مبادرة الحزام والطريق" الصينية و"البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، واتفاق التجارة الحرة المعروفة باسم "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" و"مبادرة بكين للتنمية العالمية" و"مبادرة الأمن العالمي"، وفي الوقت نفسه بإمكانها المشاركة في اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ التي كانت تقودها الولايات المتحدة (ولكنها تخلت عنها لاحقاً) أو الانضمام إلى الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل الازدهار، وغيرها من الخطط الأميركية المصممة لمواجهة "مبادرة الحزام والطريق"، كما أنها ترحب باستثمارات القطاع الخاص الأميركي بصدر رحب.

وتفوق الاستثمارات الأجنبية الأميركية المباشرة في جنوب شرق آسيا استثماراتها في الصين واليابان وكوريا الجنوبية مجتمعة، ومن خلال خيارات مثل هذه فقد تصل دولة ما إلى نقطة تحول وتجد نفسها أقرب إلى أحد المعسكرين من دون أن تدرك أنها عبرت الحد الفاصل بين الحياد والانحياز، فعلى سبيل المثال قد تنجرف إندونيسيا من دون وعي منها نحو اصطفاف أوثق مع الصين، ليس نتيجة لاختيار إستراتيجي واع ومتماسك ومهم، بل لأن تراكم خياراتها في مجالات مختلفة (مثل انضمامها إلى كثير من المبادرات الصينية المتعددة الأطراف) قد يؤدي مع مرور الوقت إلى انحياز واضح لمصلحة بكين.

ولكن حتى مع صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة فإن سكان جنوب شرق آسيا ليسوا على استعداد للتخلي عن واشنطن، وتُظهر استطلاعات الرأي المتكررة أن دول جنوب شرق آسيا ترى في الصين القوة الاقتصادية والإستراتيجية الأكثر نفوذاً في المنطقة متجاوزة الولايات المتحدة بفارق كبير، لكن في الوقت نفسه يبدي سكان جنوب شرق آسيا تحفظات كبيرة حول الطريقة التي قد تستخدم الصين بها تلك القوة، وعندما سئلوا عمن يثقون به صنفت النخب من مختلف قطاعات المجتمع اليابان في المرتبة الأولى، والولايات المتحدة في المرتبة الثانية، والاتحاد الأوروبي في المرتبة الثالثة، والصين في المرتبة الرابعة وبفارق بعيد، وذلك وفقاً لاستطلاع أجراه معهد "إسياس - يوسف إسحاق" عام 2024. وبعبارة أخرى فعلى رغم أن الصين ستظل منافساً دائماً وهائلاً للولايات المتحدة، وعلى رغم أن جزءاً كبيراً من جنوب شرق آسيا يبدو منجذباً نحو الصين، لكن بكين لا تزال بحاجة إلى بذل جهود كبيرة لتهدئة المخاوف وكسب ثقة دول المنطقة، وقد تسهل إدارة ترمب الثانية مهمة بكين إذا لم تُخفض بصورة كبيرة تعرفات "يوم التحرير" الجمركية العقابية التي فرضتها في الثاني من أبريل الماضي على دول رئيسة في "رابطة آسيان"، مثل إندونيسيا وماليزيا وفيتنام، وإذا تخلف كبار المسؤولين الأميركيين عن حضور اجتماعات "رابطة آسيان" السنوية، وإذا نفذت الإدارة تهديدها بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على الدول التي انضمت (مثل إندونيسيا) أو التي تسعى إلى الانضمام (مثل ماليزيا وتايلاند وفيتنام) إلى "مجموعة بريكس"، وهي تحالف من قوى غير غربية يضم الصين وروسيا، وإذا لم تغير إدارة ترمب أساليبها فهي ستتنازل طواعية عن الثقة والنيات الحسنة التي بنتها الإدارات السابقة في جنوب شرق آسيا على مدى نصف القرن الماضي.

 

يوين فونغ كونغ هو أستاذ كرسي لي كا شينغ للعلوم السياسية ومدير مشارك في "مركز آسيا والعولمة" في كلية لي كوان يو للسياسات العامة في الجامعة الوطنية في سنغافورة.

جوزيف تشينيونغ لياو يشغل كرسي تان كاه كي للسياسة المقارنة والدولية وعميد كلية العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 24 يونيو (حزيران) 2025

المزيد من آراء