ملخص
تعلم المهندس العمراني الشاب الآتي من مدينة جنوي الإيطالية رنزو بيانو مع الزمن كيف يتجه إلى الموالفة المطلقة بين ما يعمر والبيئة التي يعمر فيها، على عكس ما كانت حاله في مشروعه الباريسي الكبير الأول.
عند بدايات العقد السابع من القرن الـ20، حين تشارك المهندس العمراني الشاب الآتي من مدينة جنوي الإيطالية رنزو بيانو مع الأنغلو - ساكسوني ريتشارد رودجرز في تصميم وتنفيذ واحد من أعظم المشاريع العمرانية الباريسية حتى ذلك الحين، وهو مركز جورج بومبيدو وسط منطقة الهال التي كانت قرناً قبل ذلك عزيزة على قلب الروائي الفرنسي إميل زولا وأدبه بوصفها حي الأسواق الشعبية في مدينة النور، كان بالكاد بلغ الـ35 عاماً من عمره، وبالكاد معروفاً خارج مسقط رأسه الإيطالي، وبالكاد أيضاً يؤمن بأن العمران يجب أن يكون ابن بيئته المحلية.
وهكذا كان مفاجئاً أن يفوز بيانو بالمشروع الذي كان يلقى معارضة شعبية وثقافية وبيئوية واسعة في فرنسا وأوروبا عموماً. وحتى حين أنجز المشروع بسرعة قياسية، تواصلت معارضته حتى سمي محطة "تكرير نفط ملونة" تشوه التاريخ الباريسي. غير أن رنزو بيانو بات من حينها واحداً من كبار العمرانيين في العالم هو الذي في طريقه اليوم إلى سن الـ90 ويعد من كبار المبدعين في مجاله بجائزة بريتزكر (التي كان واحداً من قلة تفخر اليوم بالحصول عليها، ومنهم طبعاً الراحلة البريطانية- العراقية زها حديد)، وتعد "نوبل فن الهندسة العمرانية" في العالم.
اليوم يمتلئ تاريخ بيانو بالمنجزات الكبرى، إلى درجة أن حكاية مركز جورج بومبيدو قد نسيت تماماً، بل إن بيانو نفسه في إنجازات له كوبري كبرج "نيويورك تايمز" في الحاضرة الأميركية ومطار كانزاي الدولي في طوكيو، وإعادة بناء ساحة بوتسدامر في برلين، ومتحف بول كلي في سويسرا ومعهد الفن في شيكاغو، والعشرات غيرها من المشاريع، تعلم مع الزمن كيف يتجه إلى الموالفة المطلقة بين ما يعمر والبيئة التي يعمر فيها، على عكس ما كانت حاله في مشروعه الباريسي الكبير الأول.
وهو قد أوصل هذا التوجه إلى ذروته في واحد من أجمل مشاريعه وأغربها، "مركز جان ماري تجيباو" الثقافي الذي أنجزه بين عامي 1993 و1998 في نوميا بكاليدونيا الجديدة، إحدى آخر "الممتلكات الفرنسية" في الجانب الأقصى من العالم وسط المحيط الهادئ الجنوبي إلى الشرق من أستراليا.
شهيد الاعتدال
وقبل أن نتحدث، ولو باختصار، عن هذا المنجز العمراني الذي يتسم بقدر كبير من الغرابة المطلقة في شكله وإن لم يكن في مضمونه، لا بد من تأكيد أن الفعل الأساس فيه يبدو سياسياً (من دون أن ننسى في هذا السياق أن رنزو بيانو إلى جانب كونه معمارياً، يعتبر في بلاده سياسياً رفيع المستوى إلى درجة أنه انتخب منذ فترة عضواً في مجلس الشيوخ لمدى الحياة!). فمن المعروف أن كاليدونيا الجديدة تعرف منذ عقود حراكات سياسية بل حتى أمنية تدور من حول فكرة الاستقلال الناجز عن فرنسا والتي تقودها مجموعات وطنية تراوح ما بين التطرف والاعتدال.
ونعرف تاريخياً أن الزعيم الوطني المحلي جان ماري تجيباو كان في آخر سنوات حياته واقعياً إلى درجة راح يتخذ معها مواقف معتدلة لا تتعارض مع مبدأ الهوية المحلية الذي كان يتبناه بداية في أشد تعبيراته تطرفاً، لكنه عاد وأقلمه مع توجهات لا تتشدد في الانفصال عن فرنسا شرط التمسك بالهوية المحلية والثقافة الشعبية وما إلى ذلك (غالباً على خطى مارتن لوثر كنغ في الولايات المتحدة الأميركية الذي كان جان ماري يعده مثله الأعلى في المزاوجة بين المواطنة ونقاء الهوية).
ولقد دفع المناضل الكاليدوني حياته ثمناً لذلك الاعتدال. ومن هنا حين أرادت السلطات الفرنسية، في عهد الحزب الاشتراكي الميتراني تكريم ذكره وإحيائها، اتخذت قراراً بإقامة مركز ثقافي يعبر تماماً عن فكر الشهيد، في مدينته. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يفوز انزو بيانو بالمشروع وقد صممه بشكل يبدو أقرب ما يكون إلى ما كان من شأن تجيباو أن يتبناه بقدر هائل من الحماس. في الأقل بحسب ما نقل عن جاك لانغ الوزير الفرنسي المولج بالمشروع في ذلك الحين (وهو اليوم رئيس معهد العالم العربي في باريس ويقيناً أن ليس في الأمر صدفة على أية حال).
قرية بيضاوية في أقاصي العالم
المهم أن أول ملاحظة يمكن أن ترد في البال حين يصل المرء بالطائرة إلى فضاء تلك المنطقة الواقعة في أقاصي الأرض ويفترض أنه سيتواجه فيها مع آخر مظاهر الحضارة الفرنسية في العالم، أن تلك البقعة الواقعة عند تخوم العاصمة نوميا، ليست سوى قرية كاليدونية محلية تتألف من عدة مبان متشابهة تشابه القرى المحلية المعهودة ببعضها بعضاً.
بل إن "أكواخ" هذه القرية المتخذة شكلاً بيضاوياً موحداً مشرئباً عمودياً نحو السماء، يبدو، وليس للوهلة الأولى فحسب، وكأنه مبني من نفس المواد التي يبني بها السكان المحليون أكواخهم العادية التي يعيشون فيها منذ مئات السنين، وبنفس الإشرئباب العمودي نحو السماء والناتج عن ضرورة التصدي للرياح العاتية التي يتواصل هبوبها هنا على مدار الأيام مما يجعل الشكل البيضاوي العمودي ضرورة قصوى تسهل ذلك التصدي ولكن تسمح في الوقت نفسه بمرور الهواء العابر يتسلل إلى داخل الأكواخ للتصدي، هذه المرة لحرارة الداخل التي لولا الفراغات التي تترك بين ألواح الخشب الجانبية لباتت قاتلة، لا سيما في مواسم الحر الشديد، أي غالبية أشهر السنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا لئن كان يبدو لقراء كتاب رائد المعمار المصري حسن فتحي في كتابه "العمارة مع الشعب" ومتابعي تجربته في قرية "القرنة" وكأن بيانو مطلع على تينك التجربتين النظرية (في الكتاب) والعملية (في القرية)، فإن على هؤلاء أن يصدقوا المعماري الإيطالي حين يخبرهم أنه إنما صاغ مشروعه من دراسته المعمقة لأساليب الكاليدونيين في بناء الأكواخ الحقيقية التي يعيشون فيها. غير أنه بالطبع، وكعادته منذ استقل ومكتبه في جنوي، بمشاريعه منذ نحو 50 عاماً، حرص هنا أيضاً على أن يلجأ إلى التكنولوجيات الأكثر حداثة في استكمال تجربته العمرانية الجديدة هذه. فزائر المكان، وبعدما يتجاوز نظرته الأولى، من الأعلى، والتي تضعه على تماس بصري مباشر مع "قرية" أكواخ محلية، ما إن يصل إلى المكان حتى يدهشه الحجم الهائل للأكواخ قليلة العدد التي يتكون المركز منها، حيث يكتشف أنه على رغم التفاوت في ارتفاع الأكواخ، تفاوتاً يتبع وظيفة كل كوخ، ثمة في الداخل حيث المساحات فسيحة إلى حدود مميزة، استخدام للمعادن والزجاج القوي الشفاف لا عهد للكاليدونيين به، لكنه سيروج في أوساطهم سيراً على خطى تلك القرية الهائلة التي راحوا ولكن تدريجاً يتبنونها، في الشكل واستخدام المواد، ولكن ليس في الحجم طبعاً.
لكل كوخ وظيفته
فالحجم هنا يتلاءم كما أشرنا مع وظيفة كل "كوخ"، ولربما كان الحديث عن "الكوخ" هنا حديثاً عن قرية تتألف من أكثر من كوخ والمركز كله يضم ثلاث "قرى" على هذه الشاكلة تتكون كل منها من عدة أكواخ، إذ إن الكوخ الأعلى والأكبر مساحة هو صالة عرض تمتلئ بالمنحوتات والآثار المحلية التي يمثل كل منها منطقة من مناطق كاليدونيا، بحيث إن من يتجول في هذه "القاعة" تحديداً يكون كمن قام بتجوال في التاريخ الثقافي لهذا البلد.
ومن يقوم بهذا التجوال عادة، هو الجمهور المحلي والزائر، لا سيما الجمهور الآتي من مناطق خارج نوميا ليكتشف قطعاً يعرفها جيداً بل يتجابه معها عادة في حياته اليومية، أو يحتفظ بمنسوخات منها كتذكارات من الماضي، مما يجعله يشعر هنا بأن القاعة إنما هي مرآة ضخمة لحياته الحقيقية، بالتالي لهويته بالمعنى الثقافي الاجتماعي للكلمة.
أما القرية الثانية، فعبارة عن أوديتوريوم أو صالة استماع الحق بها مركز أرشيف للتاريخ والثقافة المحليين وقاعة للإعلام ومكتبة وقاعات اجتماع مفتوحة للعموم. هذا بينما تخصص القرية الثالثة بكوخها الرئيس للإدارة وقد ألحقت بها قاعات دراسة تستقبل بشكل ممنهج مجموعات من راغبي تلقي الدروس في شتى المجالات التي يهتم بها هذا المركز الثقافي الذي، إن لم يكن فريداً في مهامه واهتماماته، فإنه يبدو غريباً ومتفرداً في مناطق الغابات والأحراج والمياه والرياح والعواصف التي لئن كان يحس بها بقوة خارج أكواخ القرية، لا شك تنسى تماماً في الداخل حيث يسود صمت وهدوء مدهشان كان حضورهما أهم ما شغل رنزو بيانو منذ قبوله تنفيذ المشروع ولو... تخليداً لذكرى شهيد الاعتدال الكاليدوني الذي يحمل المركز اسمه.