ملخص
كشف الجدل الذي رافق إعلان التشكيل الجديد لـ"المجلس الأعلى للثقافة" في مصر، حجم الفجوة التي باتت قائمة بين مؤسسات العمل الثقافي الرسمي، وعلى رأسها هذا المجلس، والجماعة الثقافية، في البلد الذي كثيراً ما كان نموذجاً ملهماً ثقافياً لمحيطه العربي.
بغية تجنب الالتباس ينبغي التفريق بين المجلس باعتباره أحد قطاعات وزارة الثقافة يتولى وزير الثقافة رئاسته ويقوم بتسيير أعماله الإدارية والمالية، ومتابعة عمل لجانه النوعية أمين عام. وبين المجلس مجسداً في ما يمكن تسميته "لجنة عليا" تضم شخصيات بارزة يفترض أنها تضع السياسات الثقافية الرسمية وتختار سنوياً الفائزين بجوائز الدولة في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية. وأظهرت تعليقات المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي سخط البعض على "التشكيل الجديد"، بسبب ارتفاع أعمار معظم أعضائه، وانتماء غالبيتهم إلى "الدولاب الحكومي"، إذ سبق لبعضهم شغل مواقع وزارية لم ينجز فيها ما يجعله جديراً بعضوية "منصة فكرية رفيعة تسهم في رسم السياسات الثقافية، ودعم الإبداع في مختلف مجالاته، وترسيخ الهوية الثقافية المصرية وتعزيز قيم التنوع والتعددية"، بتعبير وزير الثقافة الحالي أحمد هنو.
حجازي والقعيد
ويمكن القول إن ذلك "الاستياء" يعبر كذلك عن عدم الرضا عن حال الثقافة المصرية الرسمية في السنوات الـ10 الأخيرة. والتشكيل الأحدث مزج بين شخصيات كانت ضمن التشكيل السابق مثل الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وشخصيات تنضم إلى هذا الهيكل المؤسساتي الرفيع للمرة الأولى مثل الروائي يوسف القعيد، إلا أن معظمهم تجاوز الـ70 من عمره، ولا يوجد بينهم عضو يقل عمره عن الـ60. وفي السابق لم يكن ينضم عضو جديد إلى ذلك الهيكل إلا ليخلف عضواً وافته المنية، وتلك القاعدة كسرها الوزير أحمد هنو، الذي يختار المرشحين قبل عرض قائمة بأسمائهم على رئيس الحكومة ليعتمدها. ومع ذلك كان "الاستياء" هو عنوان ردود فعل كثير من المثقفين، على هذه الخطوة التي رأوا أنها لم تأت بجديد، يمكن البناء عليه في استعادة الألق الذي شهدته الثقافة المصرية الرسمية في سنوات سابقة.
وعلى رغم أن هذا المجلس تأسس في عام 1956، باسم "المجلس الأعلى للآداب والفنون"، وفي 1980 حمل مسماه الحالي، فإنه اكتسب حضوراً بارزاً في الحياة الثقافية المصرية والعربية، مع تولي جابر عصفور منصب أمينه العام، بتاريخ 24 يناير (كانون الثاني) 1993. خلال التسعينيات شهد المجلس طفرة كبرى وتحول إلى مؤسسة ثقافية فاعلة تحت رئاسة الوزير فاروق حسني الذي استمر في موقعه من 1988 إلى 2011، وصدرت عنه كتب مهمة، كان بعضها نواة للمركز القومي للترجمة، الذي أسسه جابر عصفور وتولى رئاسته عام 2006.
جوائز الدولة
كما ارتفعت القيمة المالية لجوائز الدولة وضمت لوائح الفائزين بها أسماء فاعلة لم تكن محسوبة على سياسات نظام مبارك مما أعطى انطباعاً باتساع هوامش المعارضة داخل قطاعات المثقفين. وبالمثل ارتفعت القيمة المالية لمنح التفرغ التي تقدمها الدولة للمبدعين وتدريجاً أصبح المجلس وجهة ثقافية ذات تأثير واضح على الصعيدين المحلي والإقليمي. وبات المجلس أبرز مؤسسة عربية مانحة للجوائز الإبداعية في مجالي الرواية والشعر ونالت جوائزه أسماء كبيرة مثل عبدالرحمن منيف والطيب صالح وإدوار الخراط وبهاء طاهر، كما نالها محمود درويش وقاسم حداد.
وكان المجلس أول مؤسسة عربية تبحث في قضايا الكوكبية والعولمة وتحرير المرأة ثم سارت على نهجه بعد ذلك مؤسسات ثقافية عربية أخرى. تبعاً لذلك أضحت سياسات وزارة الثقافة موضع استقطاب داخل الحركة الثقافية المصرية، فهناك من وقف خلفها وأيدها، استناداً إلى دعمها مدنية الدولة وما عرف بـ"مشروع التنوير". في حين هاجمها آخرون بوصفها العنوان الأمثل لـ"التنوير الحكومي"، وتم النظر إلى المجلس بوصفه "حظيرة المثقفين".
هامش فاعل
الشاهد أن الثقافة المصرية عاشت فترة ازدهار قبيل احتجاجات يناير 2011 وبعدها، إذ استعمل المبدعون الهامش المتاح، فظهرت مؤسسات ثقافية أهلية في المسرح والسينما وغيرهما أسهمت في زعزعة صورة الدولة كراعية للثقافة إلى حد كبير. ويسر اعتماد بعض هذه المؤسسات على دعم أجنبي من مهمة استهدافها، سواء من الحكومة نفسها أو من بعض المثقفين الرافضين لمختلف صور التمويل الخارجي. وعقب احتجاجات يناير 2011 ارتفعت الأصوات المطالبة بتعديلات تشريعية تمس القوانين المنظمة للعمل الثقافي لمصلحة زيادة المساحة المتاحة لحرية الرأي والتعبير، كما نشطت المجموعات الداعية تحقيق "العدالة الثقافية"، مثل "أدباء وفنانون من أجل التغيير"، و"ائتلاف الثقافة المستقلة". كما ظهرت مبادرات شعبية، مثل "الفن ميدان)"، نجحت في تقديم عروض جماهيرية إلى أن تم منعها في عام 2014. من جهة أخرى تصدرت الثقافة مشهد المواجهة بين أنصار حكم جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المعارضة لها داخل النخب المصرية.
وتجلى ذلك في ما عرف بحركة اعتصام المثقفين داخل مبنى وزارة الثقافة الذي تم اقتحامه والسيطرة عليه في مايو (أيار) 2013، حتى اندلعت انتفاضة 30 يونيو (حزيران) التي أنهت حكم "الإخوان المسلمين". وعلى رغم أن البعض توقع أن تشهد الثقافة ازدهاراً خلال هذه الحقبة تقديراً للدور الذي لعبه المثقفون في كشف مخططات حكم "الإخوان". فإن السنوات الـ10 الأخيرة شهدت تراجعاً في تأثير معظم مؤسسات وزارة الثقافة، وعلى رأسها "المجلس الأعلى"، الذي تحول إلى مؤسسة هامشية ليس لها أي تأثير في صياغة وصنع المشهد الثقافي في مصر، وذلك لعدة أسباب منها: التغييرات المتعاقبة في مقعد الوزارة فقد تولى المنصب الوزاري ثمانية وزراء في أقل من 10 سنوات مما حال دون تنفيذ خطط طويلة الأجل. إضافة إلى ضعف الموازنات المخصصة لأنشطة الوزارة في ظل قرارات التقشف الحكومي.
هيمنة الأكاديميين
أدت تلك السياسات بالتالي إلى توقف فعاليات مهمة كانت تعقد تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة وكانت ذات تأثير إقليمي مثل ملتقيات الرواية والشعر والقصة القصيرة ذات البعد العربي، والتي كان يستضيفها المجلس بالتناوب، قبل أن يطويها النسيان. حدث ذلك في وقت زاد تأثير الفعاليات المماثلة التي تنظم في دول الخليج العربي التي نشطت خلال الفترة نفسها. وافتقرت مؤسسات وزارة الثقافة في المناصب القيادية لمعظم القطاعات لوجوه وثيقة الصلة بالحركة الثقافية ومن ثم عجزت عن التفاعل مع الجماعة الثقافية نظراً إلى اختيار أسماء من الحقل الأكاديمي لا صلة لها غالباً بالعمل الثقافي ومقتضياته. كما لم تنجح في رفع الأداء التكنولوجى أو ترشيد الإدارة عبر الاستغلال الأمثل للموارد البشرية. ولا يمكن أن يقارن تأثير تلك الأسماء بالتأثيرات التي صنعتها أسماء مثل سمير سرحان وهدى وصفي وفوزي فهمي وسامي خشبة وأحمد نوار وسمير غريب الذين اختارهم فاروق حسني للعمل معه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم ما شهده الواقع الثقافي من حراك أعقب انتفاضة يناير 2011، فإن وزارة الثقافة عجزت عن التفاعل مع الظواهر الإبداعية الجديدة، كما عجزت عن تطوير السياسات الثقافية بما يحقق أهداف الجماعة الثقافية الداعية إلى "دمقرطة الثقافة" عبر تكامل الأدوار بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني التي تعرضت لشتى صور الحصار. وعلى رغم ذلك تمكن أفراد من تأسيس دور نشر صغيرة أصبحت مؤثرة في صناعة النشر وحصل بعضها على جوائز دولية كبرى. كما تمكن سينمائيون من صناعة أفلام مستقلة عرضت في كبرى مهرجانات دولية وفاز بعضها بجوائز. كما توسع آخرون في تنظيم أسواق للفن ونشطت حركة المعارض والجاليرهات الخاصة. وإضافة لذلك لا تزال الأسماء المصرية تتصدر قوائم الترشيحات للجوائز العربية الأكثر تأثيراً مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب والجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، مما أفقد جوائز المجلس الأعلى للثقافة كثيراً من ألقها الغابر.
خطورة التقشف
ويستشعر "المستاؤون" أخطار تآكل رأس المال الرمزي في الثقافة المصرية، إثر التعثرات الأخيرة في سياسات وزارة الثقافة التي لم تعد حريصة على المشاركة بمنشوراتها في غالبية المعارض العربية، عملاً بسياسة تقشفية تبدو غير مبررة، فضلاً عن ضررها الواضح، مادياً ومعنوياً.
وتعكس سياسة وزارة الثقافة خلال الفترة الأخيرة ارتباكات واضحة في ما يتعلق بالمصير المتوقع لبعض هيئاتها وأولها الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد ما أثير عن نية الوزارة تأجير بعض مواقعها بغرض "الاستثمار الثقافي". وعلى رغم النفي الذي قدمه الوزير أحمد هنو– وهو من أعلن خطة التأجير– فإن بعض مقار الهيئة في محافظات خارج القاهرة أغلقت، كما تقلصت مشروعات النشر داخل الهيئة نفسها. وباستثناء بعض النشاطات المواكبة للمهرجانات، فإن نشاط الهيئة العامة لقصور الثقافة، لم يعد له وجود تقريباً. في المقابل فقدت الهيئة العامة للكتاب المشروع الجماهيري الأهم في مسيرتها وهو "مكتبة الأسرة" الذي نجح في أن يتخذ طابعاً شعبياً ساعد على توفير الكتب بأسعار زهيدة. غير أن هذه الهيئة في المقابل لا تزال محتفظة بالزخم الجماهيري لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي لا يزال الرائد في العالم العربي من حيث الجماهيرية والتأثير. ولكن حركة النشر عموماً باتت تعاني صعوبات كثيرة، سواء في ما يخص أسعار الورق وخامات الطباعة أو سياسات الحصول على أرقام الإيداع في المكتبة الوطنية في مصر.