ملخص
تتفاقم معاناة المتقاعدين في تونس وسط غلاء الأسعار وارتفاع نسبة التضخم، مما يدفع بعضهم إلى العمل في ظروف صعبة من أجل تأمين لقمة العيش لهم ولأسرهم.
وسط ارتفاع كلفة الحياة والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس، تزداد معاناة المتقاعدين مع لجوء بعض منهم إلى القيام بأعمال إضافية قد لا تناسب سنهم من أجل تسديد مصاريفهم وتغطية حاجات عائلاتهم.
المتقاعد الذي أمضى أعواماً طويلة في الشغل، وأكل الزمن عمره بتؤدة، وسلخت حرارة الشمس جلده، وتقوس ظهره من التعب ومن ثقل السنين، كان يأمل بالراحة في آخر العمر عند الإحالة إلى التقاعد، لكنه لم يكن يدري أن فترة التقاعد ستكون بداية لرحلة جديدة من العمل الشاق من أجل لقمة العيش، تلك هي حال آلاف التونسيين المحالين إلى التقاعد، بسبب شظف العيش.
عم سمير (74 سنة) تكشف راحتا يديه معاناة رجل بالكاد يقوى على الوقوف مستقيماً، يجر عربة مصنوعة من الخشب ذات عجلتين مملوءة بعلب بلاستيكية يجمعها من الشوارع والحاويات في حيه، قال "كنت أعمل عون خدمات في مؤسسة عمومية، أفنيت نحو 40 سنة من عمري في الشغل، ومردود التقاعد نحو 900 دينار (300 دولار)، لا يكفيني في تسديد الكراء والعلاج، وأنا مصاب بداء السكري وضغط الدم، بينما زوجتي تعاني ألماً مزمناً في المفاصل وهشاشة العظام، وبالكاد تتحرك، لذا أضطر إلى جمع القوارير البلاستيكية يومياً في الصباح من أجل توفير ضرورات الحياة"، مضيفاً "لقد أصبحت عاجزاً عن تأمين أدنى المتطلبات من غذاء ودواء، عادة ما اضطر إلى الاستدانة من أجل توفير الدواء وعلاج زوجتي".
احتجاجات
حجم الوجع وثقل السنين التي ينوء بها العم سمير لا يختلف كثيراً عن وضعية العم محمد الذي وجدناه يحرس شركة لبيع مواد البناء، هو من محافظة القيروان (وسط)، يقول "إن جراية التقاعد من مصنع الفولاذ الذي كنت أعمل فيه لا تكفيني، عندي بنت أكملت دراستها ولم تتحصل بعد على شغل، ولي ابن هو الآن طالب جامعي ويحتاج إلى مصاريف كثيرة".
ويردف العم محمد بكل ألم وحسرة "هل سأموت وأنا أعمل؟ متى سأشعر بالراحة؟ متى ينتهي كابوس البحث عن عمل وعن لقمة العيش وعن الخبزة المغمسة بالتعب؟"، مطالباً بتحسين "الوضع المادي للمتقاعد وتوفير خدمات صحية مجانية، وفضاءات للترفيه".
تركنا عم محمد يتلمظ مرارة الواقع الذي يعيشه واتجهنا نحو سيدة كانت تراقبنا عن قرب، وفهمت أن الحديث يتعلق بوضع المتقاعد فدفعها الفضول إلينا، هي بسمة العكريمي تعمل معينة منزلية عمرها 65 سنة، عملت في كثير من المؤسسات كعاملة نظافة من دون أن تنتظم في صندوق الضمان الاجتماعي، واليوم تتحسر على الماضي وتأمل بخدمة تعويض تعينها على صعوبات الحياة.
هذه حال عينة من المتقاعدين في تونس الذين ضاقت بهم السبل وسط شعور بالإحباط إزاء ما قدموه من أعوام عمل وجهد في سبيل بناء الدولة ومؤسساتها.
وللتعبير عن سخطهم من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، قاد الآلاف من هؤلاء المتقاعدين احتجاجات في مختلف محافظات الجمهورية مطالبين بالترفيع في جراياتهم وبصرف مستحقاتهم لدى الصناديق الاجتماعية.
فما أسباب تدهور وضعية المتقاعد في تونس؟ وهل يمكن إصلاح ما أمكن في الصناديق الاجتماعية لتحسين حال المتقاعد في تونس؟
وفقاً لبيانات رسمية كشف عنها المعهد الوطني للإحصاء تعود لعام 2021، يحتاج أكثر من 40 في المئة من المتقاعدين في تونس إلى مساعدات عائلية لتأمين نفقاتهم المعيشية بسبب وضعهم المالي الصعب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبلغ عدد المتقاعدين في تونس مليونين و200 ألف متقاعد، يحصلون على رواتبهم من صندوقين أساسيين، هما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يوفر جرايات 833 ألف متقاعد من القطاع الخاص، والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية الذي يؤمن جرايات 392 ألف متقاعد من الوظيفة العمومية.
وتعتمد تونس في منظومة الضمان الاجتماعي على النظام التوزيعي والمساهماتي، القائم أساساً على مبدأ التكافل بين الأجيال على مستوى التمويل والخدمات، إذ ترتكز على مساهمات الأجراء والمؤجرين بالأساس كمصدر تمويل للصناديق الاجتماعية.
وضع صعب
يؤكد الكاتب العام المساعد في النقابة العامة للمتقاعدين، التي تضم 14 ألف متقاعد، مرشد إدريس، أن "وضعية المتقاعدين في تونس صعبة بالنظر إلى غلاء الأسعار والتضخم، وتخلي الدولة عن دورها في ضبط الاحتكار والمتاجرة بقوت التونسيين".
ويقول إن المعدلات العامة للجرايات وقاعدة احتسابها، والفجوة بين نظامي الضمان الاجتماعي في القطاعين العام والخاص، إذ إن "معدل الجرايات في صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية (الوظيفة العمومية)، هو 1600 دينار (530 دولاراً)، بينما معدل الأجور في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، 600 دينار (200 دولار)، والأجر الأدنى المضمون في تونس هو في حدود 530 ديناراً، أي ما يعادل تقريباً 180 دولاراً، في حين أن دولاً مجاورة عدة وضعها شبيه بتونس يبلغ الأجر الأدنى فيها أضعاف ما أقرته تونس".
ويلفت الكاتب العام المساعد لنقابة المتقاعدين إلى أن المكتب الحالي للنقابة اتصل بوزارة الشؤون الاجتماعية في مناسبات مختلفة من أجل عقد جلسة للنظر في وضعية المتقاعدين من دون أن نتلقى رداً إيجابياً، مشيراً إلى أن "عدداً كبيراً من المتقاعدين يتقاضون 280 ديناراً (90 دولاراً) وهو مبلغ لا يفي بالحاجة، مما يدفعهم إلى البحث عن أعمال إضافية".
وضعية المتقاعد تحسنت
في المقابل، يؤكد المتخصص في الحماية الاجتماعية، بدر السماوي، أن "وضعية المتقاعد في تونس تحسنت في الأعوام الأخيرة بفضل الزيادة في الأجر الأدنى المضمون، وفي القطاع العام والوظيفة العمومية. إلا أن هذه الزيادات قد لا ترضي المتقاعدين لاعتبارات غلاء المعيشة ونسبة التضخم المرتفعة التي لا تمس فقط المتقاعدين بل كل التونسيين"، مضيفاً أن "المتقاعد يشعر بتراجع قدرته على تلبية حاجاته، لأنه أصبح في حاجة أكثر إلى العلاج والخدمات الصحية. وعلى رغم تمكين المتقاعدين في تونس من التغطية الصحية، فإن نظام التأمين على المرض لا يغطي كلياً كلف العلاج، علاوة على صعوبة الحصول على بعض الأدوية، مما يصعب وضع المتقاعد في تونس. وفي ظل التغيرات الاجتماعية والتركيبة السكانية في تونس اليوم بات المتقاعد في حاجة أكثر إلى العناية النفسية والاجتماعية، بينما يشكو عدد من المتقاعدين العزلة".
ويذكر المتخصص في الحماية الاجتماعية الأجير، بضرورة "الاطلاع على كيفية احتساب جراية التقاعد في القطاع الخاص، إذ يشترط صندوق الضمان الاجتماعي عند احتساب الثلاثية التي يقع اعتمادها للتقاعد، ألا تقل عن ثلثي الأجر الأدنى المضمون"، معتبراً أن "توجه الدولة إلى استئناف الانتدابات في الوظيفة العمومية وقرار منع المناولة الذي سيؤدي إلى انتداب عدد كبير من العمال في القطاع الخاص، سيخففان من أزمة الصناديق الاجتماعية".
وضع حد للتلاعب بالأجراء
من جهته، يرى أستاذ علم اجتماع الشغل، في المعهد الوطني للشغل والدراسات الاجتماعية، بالعيد أولاد عبدالله، أن "التونسي لا يفكر في مرحلة التقاعد، مما يجعل المتقاعد يواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية، بخاصة في ظل تراجع القدرة الشرائية وتقلص الادخار العائلي وتغير تركيبة الأسرة، وهي عوامل تجعل المتقاعد في مواجهة حزمة من الصعوبات النفسية والاجتماعية والمالية".
ويدعو المتخصص الاجتماعي إلى "تحسين وضعية الصناديق الاجتماعية ووضع حد لتهرب القطاع الخاص من دفع مساهماته والتلاعب بمصير العمال"، مشيراً إلى أن "العامل مدعو إلى الإعداد الجيد لمرحلة ما بعد النشاط، من خلال الاطلاع على القوانين وضمان حقوقه عند مرحلة التقاعد".
ويشار إلى أنه في سبعينيات القرن الماضي، كان سبعة من المنتظمين النشطين من أصحاب الجرايات يمولون جراية واحدة للتقاعد، وانتقلنا اليوم إلى ناشطين اثنين يمولان جراية واحدة، بينما يتزايد عدد المتقاعدين سنوياً من دون تعويضهم بعناصر نشطة.
يذكر أن وزير الشؤون الاجتماعية عصام الأحمر كشف أخيراً أمام البرلمان عن استراتيجية عمل الوزارة في الفترة المقبلة، التي قال إنها "ستركز على تحقيق مقومات العمل اللائق وعلى تعزيز التغطية الصحية والاجتماعية والنهوض بالفئات الفقيرة ومحدودي الدخل والفئات الهشة، إضافة إلى تنويع مصادر تمويل الصناديق الاجتماعية للمحافظة على ديمومة خدماتها.