ملخص
في يوليو (تموز) من ذلك العام تحديداً صدر تقرير صحافي يعلن دهشته من فورة في المعارض والمؤسسات الفنية تعرفها مدريد وبرشلونة، ولكن كذلك مدن إسبانية كثيرة. فورة لم يكن لها ما يبررها في ظاهر الأمور، لكنها سرعان ما تبدت حقيقية تتحدث عنها أرقام غير معتادة في بلد كان جفاف حياته الفنية طوال عهد فرانكو مضرباً للأمثال، وكان مبدعوه ينزحون عادة باتجاه فرنسا المجاورة كي يمارسوا فنونهم وإنسانيتهم بحرية، ويجدوا لأنفسهم مكاناً تحت الشمس، وفي الأقل منذ بدايات القرن الـ20، ومع ذلك ها هي الأرقام تنفجر كقنبلة موقوتة.
في مثل هذه الأيام القائظة من عام 1975 كانت إسبانيا تغلي. لم تكن التغيرات الكبرى التي ستعيشها تلك المنطقة من العالم بدءاً من الخريف المقبل واضحة بعد، ولم يكن الشعب الإسباني واثقاً من أن ديكتاتورية الجنرال فرانكو الفاشية ستنزاح عن صدورهم بدءاً من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بموت الجنرال وما سيتلوه من عودة الملك خوان كارلوس إلى الحكم واستعادة الديمقراطية إلى هذا البلد، وما تلا ذلك من أحداث ستسلم الاشتراكيين، أعداء فرانكو نفسه، الحكم، لكن مؤشرات كثيرة كانت تلوح في الأفق. ولعل الحراك الفني كان في مقدم تلك المؤشرات، حتى من دون أن يتنبه إليه كثر من الناس.
ففي يوليو (تموز) من ذلك العام تحديداً صدر تقرير صحافي يعلن دهشته من فورة في المعارض والمؤسسات الفنية تعرفها مدريد وبرشلونة، ولكن كذلك مدن إسبانية كثيرة. فورة لم يكن لها ما يبررها في ظاهر الأمور، لكنها سرعان ما تبدت حقيقية تتحدث عنها أرقام غير معتادة في بلد كان جفاف حياته الفنية طوال عهد فرانكو مضرباً للأمثال، وكان مبدعوه ينزحون عادة باتجاه فرنسا المجاورة كي يمارسوا فنونهم وإنسانيتهم بحرية، ويجدوا لأنفسهم مكاناً تحت الشمس، وفي الأقل منذ بدايات القرن الـ20، ومع ذلك ها هي الأرقام تنفجر كقنبلة موقوتة.
الأرقام لا تكذب
فجأة قبل 50 عاماً، يوماً بيوم من الآن، ذكر التقرير الرسمي أن مدريد التي لم تكن تحوي أكثر من دزينتين من المعارض الفنية تضم الآن أكثر من 200 معرض، كما أن مطابعها تنشر ما لا يقل عن ثماني مطبوعات فنية شديدة الأناقة والجدية تتحدث عن معروضات وافتتاح معارض، وعن لوحات باتت تباع بأسعار خيالية تفوق أسعار لوحات المزادات في باريس.
لكن اللافت أن الأمر لم يكن وقفاً على مدريد، بل ها هي برشلونة، وتبعاً للتقرير نفسه، تشهد افتتاح ما يزيد على 100 معرض خلال الأعوام القليلة الماضية، بينما تزدهر بالنسيا بـ30 معرضاً، وكل من بلباو وإشبيليا وبلد الوليد بدزينة من المعارض، كما افتتحت معارض كثيرة في ساراغوسا. هذا دون نسيان المعارض الجوالة التي قد يدور الواحد منها في نحو 100 مدينة وبلدة وقرية في العام الواحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن معظم المبيعات تطاول لوحات إسبانية، حتى وإن كانت مؤسستا "ساوذبي" و"كريستي" العالميتين قد ابتدأتا حضورهما ومزاداتهما في إسبانيا خلال الأعوام الأخيرة نفسها. ومن الدلالة بمكان أن التقرير نفسه يتحدث عن مبيعات على هامش العروض تطاول نحو 30 ألف كاتالوغ في الأعوام نفسها معطوفة على مئات الكتب الفنية التي باتت تصدر بانتظام وتجد قراء يتابعونها بلهفة.
باختصار يقول التقرير إن ثمة ثورة فنية إسبانية لا يمكن أن تكون وليدة ذاتها ونمت كالعشبة الشيطانية في بلد كان يفتقر إلى كل شيء، ولكن خاصة إلى الحرية التي هي صنو الفن المحتم. بالتالي بدا وكأن الفن بات سرب سنونو يبشر بمجيء ربيع ما، ولكن من دون أن يكون أحد قادراً على تحديد مصدر ذلك الربيع أو طبيعته.
مؤسسة "خوان ميرو"
ولا حتى الفنان الكبير خوان ميرو، الذي كان لفترة قريبة جداً من الزمن مرتبطاً بفرنسا كما حال الكبار في الفن الإسباني من الذين يعيشون في البلد المجاور ويمارسون فيه فنهم إلى درجة كاد كثر من المتابعين ينسون معها إسبانيتهم لولا تمسكهم على أية حال بأساليب فنية تشي بها. نقول هذا ونحن طبعاً نفكر بدزينتين من مبدعين في مقدمهم بيكاسو وسلفادور دالي وتابييس وخوان غري وطبعاً خوان ميرو. وها هو هذا الأخير في العاشر من يونيو (حزيران) من عام الأعجوبة نفسه 1975، وقبل صدور التقرير المذكور والمفاجأة التي شكلها، ها هو يفتتح ما سيسمى مؤسسة "خوان ميرو" في برشلونة نفسها، وهي مؤسسة بادر ميرو نفسه إلى إقامتها معرباً عن رغبته في أن يكون له في المدينة التي ولد فيها عام 1893، موطئ قدم يتولى عرض أعماله ورعايتها بصورة دائمة شرط ألا يقتصر الاهتمام على عمله، بل يكون من مهام تلك المؤسسة رعاية الفنون الطليعية والمبدعين الشبان.
ومهما يكن من أمر فإن هذا المشروع لم يكن وليد ساعته. فمنذ عام 1971 كان ميرو (1893 – 1983) قد طلب من صديقه وابن بلده المهندس يوسيب لويس سيرت أن يصمم له ذلك المركز الفني العتيد الذي كانت بلدية برشلونة نفسها قد وافقت على الإسهام في إقامته وقد أدركت منذ ذلك الوقت المبكر أهمية أن يكون للمدينة مركز من هذا النوع. وكان من بين إسهاماتها المبكرة تقديم قطعة أرض تتسع للمركز وملحقاته، تاركة للفنان ومعمارييه حرية اختيار المنطقة والمساحة التي يشاءانها بين اختيارات عدة من بين ممتلكاتها. واختار المبدعان قطعة أرض رائعة تقع ضمن محيط حديقة "مونجويس" الشهيرة، بيد أن البلدية لم تكتف بتقديم الأرض، بل أسهمت كذلك في نفقات البناء والتجهيز. وأصدرت قرارات تتعلق بالكلف الرسمية للمؤسسة في تجميع الأعمال التي قدمها ميرو للمشروع. وهكذا اكتملت التفاصيل بتملك المدينة مئات القطع الفنية والمخطوطات وما شابه ذلك.
للعرض والدراسة
وهنا لا بد من أن نذكر أن المعماري سيرت كان في الأصل متآلفاً مع هذا النوع من المعارض ولا سيما مع عمل ميرو نفسه. وكان قد سبق له خلال الفترة الماضية أن صمم ونفذ معرض مؤسسة "مايت" في الجنوب الفرنسي على تخوم بلدة سان بول دي فانس، وهي مكان لعرض اللوحات وتجميعها ونشر الفكر والممارسة الفنيين، ويعتبر خوان ميرو عادة من أبرز الفنانين الذين تضم تلك المؤسسة القديمة أعمالهم. ومن هنا كان من الطبيعي لسيرت أن يجد أن ما يقوم به في برشلونة نوع من الاستكمال لما كان قد سبق له أن حققه في سان بول دي فانس.
من هنا انكب على عمله خالقاً مساحات فسيحة في المركز الجديد لعرض لوحات ميرو، ولا سيما منها ذات الأحجام الكبيرة، التي أنشئت من أجلها جدران عالية تطل على قاعات تسمى أحواضاً تعبق بشذى متوسطي لافت. وإلى جانب تلك المساحات صمم المهندس قاعات لفنانين آخرين تمتلك المؤسسة أعمالاً لهم، أو تستعير أعمالهم من مؤسسات أخرى لمناسبات محددة.
إلى ذلك أقيمت قاعات للندوات وغرف جانبية على شكل مكتبات تمتلئ بالكتب والكاتالوغات من النوع الذي يتم تحديثه بصورة متواصلة، مما جعل من ذلك المركز أكثر كثيراً من مجرد مكان لعرض الأعمال الفنية، علماً أن ثمة في قلب ذلك كله أجنحة خاصة لباحثين تقوم مهمتهم على دراسة أعمال خوان ميرو نفسه، وجعل تلك الأعمال في متناول الجمهور العريض كما في خدمة الباحثين الذين يهتمون بدراسة أعمال هذا الفنان الكبير الذي لا شك أن هذا الاهتمام به وبفنه، ولو بمبادرة أتت منه هو شخصياً، أشعره في أعوامه الأخيرة بأن ظلماً ما قد رفع عنه أخيراً.
على غير ميعاد
ومن غرائب الصدف أن الأقدار اختارت الوقت المناسب لذلك، إذ وكما رأينا أول هذا الكلام أن ذلك كله قد تزامن مع الظلم الذي رفع عن كاهل الشعب الإسباني برحيل فرانكو مصحوباً بزمنه الديكتاتوري، الذي كان قد كلف الإسبانيين كثيراً من المعاناة والآلام والأحزان، وكذلك بالحديث الذي لم يكن متوقعاً بأية حال من الأحوال عن نهضة فنية أتت في زمن قياسي لترد عن الفن الإسباني ظلماً تواصل زمناً طويلاً، حيث وضع في الظل تاريخاً فنياً إسبانياً عريقاً كان من علاماته الغريكو وبيلاسكويث وتسورباران، وعشرات غيرهم من الذين صنعوا التاريخ الفني الإسباني، لتغرق إسبانيا في ظلام كان نابذاً لفنانين انزاحوا منها إلى فرنسا وغيرها من البلدان يسهمون في نهضتها فيما وطنهم نسي أنه كان موطن الفن ذات يوم، وها هو ينهض بصورة مباغتة، تحديداً في مثل هذه الأيام قبل نصف قرن تماماً، وعلى غير ميعاد.