Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من الفئران إلى الخيول... الحيوانات في طليعة مواجهة الكوارث

ليس في التجارب فقط بل تتفوق في مهام الإنقاذ والتنبيه والتحذير على البشر والأجهزة المتقدمة

تعد كلفة الفئران منخفضة مقارنة بالروبوتات وتفوق سرعتها في مسح الأرض سرعة البشر بأضعاف (أ ف ب)

ملخص

في كل كارثة كبرى نسمع عن فرق إنقاذ من البشر، لكن ما لا يذكر دائماً هو أن بعض هذه الفرق تعتمد على رفاق غير بشريين: كلاب وخيول وفئران، وحتى ثعابين، يؤدي كل منها دوراً قد يكون الفاصل بين بين الحياة والموت.

لم أكن أبحث عن شيء محدد في تلك الزيارة السريعة إلى المكتبة المحلية حين لفت نظري بين الرفوف عنوان غير مألوف "كلب الرعد"، شدَّني الغلاف أولاً، ثم العنوان الفرعي "قصة حقيقية لرجل أعمى، وكلب الإرشاد، وانتصار الثقة"، لم أكن أتوقع أن أقرأه في جلسة واحدة، لكنني فعلت.

صفحة بعد أخرى وجدت نفسي في قلب أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول)، لا من منظور سياسي أو أمني، بل من زاوية إنسانية بحتة، رجل أعمى يقوده كلبه بأعجوبة عبر 78 طابقاً من الظلام والدخان والفوضى، لم يكن ذلك مجرد كلب، بل مرشد ومنقذ وشريك في النجاة، عندما أنهيت الكتاب، بقي السؤال يتردد في ذهني: كيف يمكن لحيوان أن يكون بهذا الذكاء، بهذه الشجاعة، وبهذا الأثر في لحظة كارثية؟

في اليوم التالي فحسب، بينما كنت أتابع تقارير الفيضانات الأخيرة في تكساس، رأيت مشهداً أعاد إليَّ تلك المشاعر، فرق إنقاذ تترجل وسط المياه المرتفعة، تقودها خيول قوية وكلاب مدربة تخوض السيول، تبحث عن أصوات وأنفاس، عن بشر قد يكونون على قيد الحياة تحت الطين أو داخل المنازل الغارقة.

هذا المشهد الذي بدا وكأنه من فيلم سينمائي أثار في ذهني سؤالاً بسيطاً، لكنه عميق: ماذا لو لم تكن هذه الحيوانات موجودة؟ من كان سيقوم بهذه المهام؟

أدوار استثنائية في لحظات استثنائية

في كل كارثة كبرى نسمع عن فرق إنقاذ من البشر، لكن ما لا يذكر دائماً هو أن بعض هذه الفرق تعتمد على رفاق غير بشريين: كلاب وخيول وفئران، وحتى ثعابين، يؤدي كل منها دوراً قد يكون الفاصل بين بين الحياة والموت.

تعد الكلاب العمود الفقري للإنقاذ، فعلى سبيل المثال بعد زلزال تركيا المدمر عام 2023 ظهرت عشرات القصص عن كلاب إنقاذ تسابق الزمن بحثاً عن ناجين تحت الأنقاض، وأصبح الكلب "بروتيو" من وحدة الإنقاذ المكسيكية رمزاً للبطولة بعدما فقد حياته أثناء أداء مهمته، وفي انفجار مرفأ بيروت عام 2020 ساعدت كلاب إنقاذ من دول عدة في تمشيط المنطقة المدمرة، بحثاً عن أحياء وسط الركام.

يتم تدريب هذه الكلاب على التمييز بين روائح البشر الأحياء والأموات، وعلى التركيز على الروائح التي تنبعث من تحت طبقات من الركام أو الماء.

 

 

يبدأ تدريبها منذ الصغر، ويشمل تمارين معقدة على الاستجابة للأوامر في بيئات صاخبة أو خطرة، وأكثر السلالات استخداماً تشمل "اللابرادور" و"المالينوا" البلجيكي، و"الراعي" الألماني، وذلك لقدرتها العالية على التركيز وقوة حاسة الشم لديها وسرعة الاستجابة.

بينما تعد الخيول خير حليف في التضاريس القاسية، فعلى رغم عدم ارتباطها عادة بعمليات الطوارئ، فإن الخيول تلعب دوراً جوهرياً في بعض البيئات، في تكساس مثلاً، وأثناء الفيضانات المتكررة، تستخدم لعبور المناطق التي لا تصل إليها السيارات أو القوارب، حاملة على ظهورها معدات أو حتى أشخاصاً، وفي أستراليا، خلال حرائق الغابات، تستخدم الأحصنة في عمليات الإجلاء داخل الغابات الكثيفة، حيث لا يمكن لطائرات الهليكوبتر أو المركبات المصفحة أن تمر.

من جهة أخرى تظهر الفئران كأبطال غير متوقعين في ساحة الألغام، وفي أفريقيا، وتحديداً في دول مثل موزمبيق وأنغولا، تستخدم فئران ضخمة من نوع "الجرذ الغامبي العملاق" ضمن مشروع "أبوبو"، وهو برنامج بلجيكي لتدريب الفئران على كشف الألغام، تتميز هذه الفئران بوزنها الخفيف الذي يمنع تفجير الألغام، وقدرتها على شم مادة TNT بدقة مدهشة.

تعد كلفة الفئران منخفضة مقارنة بالروبوتات، وتفوق سرعتها في مسح الأرض سرعة البشر بأضعاف، أما الأكثر إثارة للجدل فهي الثعابين التي تعد أجهزة إنذار مبكر عن الكوارث، إذ رصد العلماء في أكثر من دراسة خروجها من جحورها قبل وقوع الزلازل بلحظات أو ساعات، في الصين واليابان جرى توثيق حالات سلوك غير طبيعي للثعابين مثل الحركة المفرطة والهرب المفاجئ أو حتى تسلق الأشجار، قبل زلازل كبيرة.

لماذا تمتلك هذه الحيوانات قدرات فريدة؟

ليس من قبيل المصادفة أن تتفوق الحيوانات في مهام الإنقاذ أو التنبيه على البشر، وحتى على بعض الأجهزة المتقدمة، فخلف أدائها المذهل تكمن بنية حسية وعصبية مصممة بفعل الطبيعة والتطور، لتلتقط ما لا نراه ولا نسمعه.

خذوا الكلاب مثلاً، في أنف الكلب أكثر من 200 مليون مستقبل شمي، مقارنة بنحو 6 ملايين فقط لدى الإنسان، لا يعني هذا فقط أن حاسة الشم لدى الكلب أفضل قليلاً، بل إنها أدق بعشرات آلاف المرات، ويمكن للكلب أن يلتقط رائحة بشرية من تحت أمتار من الركام أو المياه، أو أن يميز بين روائح متداخلة داخل مشهد فوضوي كمنطقة منكوبة، لهذا تستخدم في عمليات الإنقاذ بعد الزلازل والانفجارات، وأيضاً للكشف عن الأمراض في المراحل المبكرة، من السرطان إلى كورونا، بدقة تصل أحياناً إلى 94 في المئة بحسب دراسات حديثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالنسبة إلى الفئران فإن السر لا يكمن فقط في خفة وزنها، بل في أنظمتها العصبية المصممة للاستجابة الدقيقة للروائح، تمتلك الفئران نظاماً شمياً شديد الحساسية يمكنها من تمييز مركبات كيماوية مثل مادة TNT المتفجرة حتى بتركيزات ضئيلة جداً.

وبينت دراسات في علم الأعصاب أن لدى هذه القوارض توزيعاً كثيفاً للخلايا العصبية في البصلة الشمية، مما يسمح لها ببناء "خريطة روائح" معقدة تشبه إلى حد بعيد تلك الموجودة لدى الكلاب، وهذا ما يجعلها ليست فقط أدوات دقيقة، بل أيضاً قابلة للتدريب على مهام معقدة مثل التوقف عند رائحة معينة، أو الإشارة إليها بسلوك معين، كما يحدث في ميادين الألغام.

أما الثعابين، فعلى رغم مظهرها البارد، فإن أجسامها تعمل كهوائيات دقيقة تلتقط الإشارات الأرضية، فهي لا تسمع كما نفعل نحن، لكنها تشعر بالاهتزازات الأرضية من خلال عظام فكها السفلي، المتصلة مباشرة بعناصر سمعية دقيقة تنقل الذبذبات إلى الجهاز العصبي، يجعلها هذا التكوين تستجيب لتحولات تحت الأرض لا يمكن لأذن الإنسان أو حتى بعض الأجهزة الحديثة رصدها، ويعتقد بعض الباحثين أن قدرتها على رصد تغيرات في الحرارة والمجالات الكهرومغناطيسية قد تكون ناتجة من نظام حسي مدمج أشبه بشبكة إنذار طبيعية.

أما الخيول فقد تطورت لتكون على وعي دائم بمحيطها، إذ تعتمد غريزتها في النجاة على اكتشاف الخطر قبل وصوله، وتمتلك الخيول مجال رؤية يصل إلى نحو 350 درجة، أي إنها ترى تقريباً كل ما حولها من دون الحاجة إلى الالتفات، وتتمتع بحاسة سمع تلتقط الترددات العالية والمنخفضة معاً، بفضل آذانها القادرة على التحرك بصورة مستقلة لالتقاط الأصوات من اتجاهات مختلفة، إضافة إلى ذلك تتميز الأحصنة باستجابة عالية للإشارات الحسية والتغيرات في البيئة، ما يمنحها قدرة على التحرك بحذر داخل مناطق خطرة أو وعرة من دون إثارة الهلع.

ومع تطور التقنية بدأ الإنسان في تسخير هذه القدرات أكثر من أي وقت مضى، حيث يتم تزويد كلاب الإنقاذ الآن بكاميرات حرارية وأجهز تحديد المواقع GPS، وربطها بحواسيب يمكنها تحليل تحركاتها وتنبيه الطواقم البشرية إلى الأماكن التي تستحق التدخل، كما تتم دراسة أنماط حركة الثعابين والفئران باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، بغرض توظيفها في المستقبل كنظم إنذار مبكر للكوارث.

ما قبل الكارثة... هل تحذر الحيوانات فعلاً؟

قبل أن تهتز الأرض أو تجتاح المياه اليابسة، يقال إن بعض الكائنات "تعرف" أن شيئاً ما قادم، مشاهد متكررة في شهادات الناجين من الكوارث تتحدث عن طيور فرَّت فجأة، أو كلاب تغير نباحها، أو أسماك قفزت من الماء بلا سبب، قد تبدو هذه القصص أقرب إلى الحكايات الشعبية، لكنها في السنوات الأخيرة وجدت طريقها إلى المعامل ومراكز البحث.

في أعقاب تسونامي المحيط الهندي عام 2004 نجا عدد كبير من الحيوانات البرية، إذ صعدت إلى مناطق مرتفعة قبل ساعات من وصول الموجة، في سلوك أربك حتى السكان المحليين، ونقل تقرير لـ"ناشيونال جيوغرافيك" عن باحثين في سريلانكا مشاهدات لقطعان أفيال تركت الغابات الساحلية قبل الكارثة بزمن قصير، مما دفع العلماء إلى التساؤل، هل التقطت هذه الحيوانات إشارات مبكرة تجاهلها الإنسان؟

 

 

فتح هذا التساؤل المجال لدراسات أكثر دقة، ففي اليابان، حيث الزلازل شائعة، أجريت دراسات عدة على سلوك الحيوانات المنزلية، قامت دراسة نشرت عام 2011 في دورية "علوم الحيوان"، أجراها فريق من جامعة طوكيو، بمراقبة نحو 200 كلب وقطة في الأسابيع التي سبقت زلزال توهوكو المدمر، أبلغ المربون عن تغيرات في السلوك شملت القلق الزائد والاختباء أو محاولات الفرار.

لا يقتصر الأمر على الحيوانات الأليفة، ففي إيطاليا عام 2016 راقب علماء من معهد "ماكس بلانك لعلم الحيوان" سلوك أبقار وكلاب وخنازير في مزرعة تقع قرب منطقة زلزالية، وقد وثقوا تغيرات ملحوظة في أنماط الحركة والنوم والنشاط في ساعات ما قبل زلزال متوسط الشدة، باستخدام أجهزة تتبع دقيقة، وقد دفعهم ذلك إلى اقتراح أنه يمكن في المستقبل القريب دمج "شبكات مراقبة سلوكية للحيوانات" في أنظمة الإنذار المبكر، بخاصة في المناطق التي تفتقر إلى بنية تحتية متطورة.

ولم تعد هذه الفكرة خيالية، إذ إن باحثين في معهد "جيو ريسرتش" الألماني يعملون على تطوير مشروع يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك الحيوانات في المزارع والمناطق الريفية، على أمل أن يساعد ذلك في التنبؤ بكوارث طبيعية قبل وقوعها.

شركاء في مواجهة الكوارث

لا يمكن الحديث عن دور الحيوانات في الكوارث من دون التوقف عند الجانب الإنساني الذي يربط رجال الإنقاذ بهذه الكائنات الرائعة، يتحدث كثير من رجال ونساء الإنقاذ عن رابط وثيق بينهم وبين كلابهم أو خيولهم، علاقة مبنية على الثقة والصداقة والاعتماد المتبادل في أصعب الظروف.

في فيضانات تكساس الأخيرة روى أحد رجال الإنقاذ كيف أن كلبه المدرب كان يتوقف فجأة عند بقعة معينة في المياه، ليدله على وجود ناجٍ محتجز، كانت تلك اللحظة بمثابة انفجار فرح ودموع امتنان، صعبة على من لم يختبرها، لكنها تذكير حي بأن الحيوان لا يعمل فقط كآلة إنقاذ، بل كرفيق وشريك حياة، وفي أفريقيا حكايات الفئران التي تساعد في إزالة الألغام قريبة جداً من القرى المنكوبة، حيث لا يقتصر دورها على توفير الأمن فحسب، بل تفتح الباب أمام إعادة الأمل والبناء.

وتؤكد الصور التي تلتقط لاحقاً والتكريمات بأوسمة خاصة أو مراسم احتفاء أن الحيوانات ليست مجرد أدوات يتم استخدامها ثم التخلص منها، ففي عديد من البلدان تقام حملات لجمع التبرعات لعلاج جروح كلاب الإنقاذ، وتمنح جوائز للخيول التي أنقذت أرواحاً في مناطق لا تصلها المركبات.

لكن مع هذا التقدير يبرز نقاش أخلاقي لا يقل أهمية، هل من العدل وضع هذه الحيوانات في ظروف خطرة؟ وهل يمكن أن نعتبرها مواطنين من الدرجة الثانية في معادلة إنقاذ الأرواح؟ تزداد الدعوات اليوم إلى تطوير تقنيات تقلل الأخطار على الحيوانات وتحسين ظروف تدريبها ورعايتها الصحية والنفسية.

وفي النهاية، وبينما تتقدم التكنولوجيا وتتنوع أدواتنا، يبقى السؤال الأهم، هل نحن مستعدون للاعتراف بأننا لسنا وحدنا في الخط الأمامي عند الكوارث؟ هل نستطيع أن نرى في هذه الكائنات الصامتة شركاء لا مجرد أدوات؟ ما تعرفت عليه في قصة "كلب الرعد" ليس فقط حكاية كلب شجاع، بل تذكير بأنه في أوقات المحنة تتقاسم الأرواح البشرية منها والحيوانية مصيراً واحداً.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات