ملخص
فيلم "أيام الكوندور الثلاثة" الذي حققه المخرج سيدني بولاك في عام 1975 كان ويبقى فيلماً أيقونياً باعتباره واحداً من أول الأفلام السياسية، جناح الأفلام الاستخباراتية، في تاريخ السينما الأميركية جامعة بين الحرفية التقنية التي سيعتبر بولاك من سادتها، وبين السينما الشعبية التي كانت قد بدأت منذ فترة تخرق كثيراً من المحظورات
قد لا يكون الفيلم الذي حققه المخرج سيدني بولاك في عام 1975 للعرض عالمياً وفي عديد من المهرجانات السينمائية بنجاح كبير في العام التالي، تحفة من تحف الفن السابع الهوليوودي بأي معنى من المعاني، لكنه كان ويبقى فيلماً أيقونياً وليس فقط لأنه كان من أول الأفلام التي رسخت شهرة روبرت ردفورد ونجوميته في تاريخ السينما، بل لأنه كان واحداً من أول الأفلام السياسية، جناح الأفلام الاستخباراتية، في تاريخ السينما الأميركية جامعة بين الحرفية التقنية التي سيعتبر بولاك من سادتها، وبين السينما الشعبية التي كانت قد بدأت منذ فترة تخرق كثيراً من المحظورات. ومن أهم تلك المحظورات في ذلك الحين، التجرؤ على أجهزة الاستخبارات الأميركية التي كانت قبل ذلك لا تمس، ولا سيما من طريق فن شعبي، السينما هنا، له مكانته في حياة المواطنين، ويجب أن يبقيه المبدعون مترفعاً عن الصغائر، ولا سيما بالطريقة التي راحت تدنو بها السينما منه عبر تعرية تلك الأجهزة بحيث قد يمكن أن يقال اليوم، إنه ما كان المرشح ثم الرئيس دونالد ترمب في ولايته الأولى وبعد ذلك بصورة أكثر حدة، في ولايته الجديدة، ليستطيع أن يقف مواقف شديدة القسوة و"الفضح" كتلك التي بادر إلى اتخاذها، لمناسبات عدة، متصدياً لما استشعره من معاداة مبدئية سيرى أن تلك "المؤسسة" قد قابلته بها، لولا أن السينما الهوليوودية قد فتحت أمامه الدرب خلال النصف الأول من سنوات الـ70 بعدد من الأفلام التي جرؤت. غير أن جرأتها لم تأت حينها من فراغ ولا من إرث سينمائي، بل من مجموعة ظروف سياسية تضافرت مع تيارات سينمائية منها ما هو مناضل، ومنها ما هو غاضب من دون نضال لا أكثر.
ووترغيت وأخواتها
ففي تلك السنوات التي شهدت ظهور ما سيسمى "هوليوود الجديدة"، وثورة أصحاب اللحى (كوبولا وسكورسيزي وسبيلبيرغ ودي بالما وميليوس ولوكاس، ورفاقهم)، وتحت وقع تطورات سياسية منها حرب فيتنام ووقوف المبدعين والشباب الأميركيين ضدها، ثم اندلاع فضيحة ووترغيت، والتأثر بمايو (أيار) 1968 الأوروبي واحتفالات الموسيقى الثورية الصاخبة، وصراعات الأجيال وما ينتج من ذلك، كان لا بد للسينما أن تتأثر وتفلت من عقالها غير موفرة أي شخص أو أي جهاز من تنديدها وضروب فضحها، ولا سيما خلال عهد الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أدى به سوء الحكم إلى مبارحة البيت البيض مهاناً، وفي طريقه فتح الأبواب مشرعة لفقدان الحكم الأميركي هيبته ومكانته لمرة نادرة حتى ذلك الحين، في تاريخه.
وهكذا راحت، في الجانب الذي يعنينا هنا تظهر أفلام ما كان من شأنها أن تظهر لولا ذلك. ونكتفي هنا بذكر عدد قليل منها، مثل "المحادثة" لكوبولا و"بارالاكس فيو" لباكولا و"رجال الرئيس" لباكولا أيضاً، و"رجل الماراتون" لشليسنجر.
وفي السياق لا بد من أن نشير إلى أن "أيام الكوندور الثلاثة" يبقى من أكثر هذه الأفلام حضوراً في الذاكرة إلى جانب "المحادثة"، من دون أن يعني ذلك أن مخرجه سيدني بولاك كان أكثر جرأة، لكنه كان أكثر حرفية وهوليوودية، بالتالي لفت الأنظار بفيلمه، من موقع الاستغراب لا أكثر، بحيث يمكن القول إن أيقونية هذا الفيلم أتت من كونه لم يكن متوقعاً من ناحية أن مخرجه كان هوليوودياً كلاسيكياً، أي بعيداً من أية رغبة في المشاكسة حتى وإن كان سيحقق في مساره أفلاماً عدة ستجعل له مكانة بين المشاكسين، من دون أن يكون مشاكساً حقاً. فهو في نهاية الأمر لم يكن استفزازياً ككوبولا ولا شديد الغضب كسكورسيزي، وربما يعود ذلك إلى أنه لم يكن إيطالي الأصل مثلهما ومثل معظم أبناء تيارهما الملتحي. وربما يتفرد "أيام الكوندور الثلاثة" بمكانة تجعله دائماً "بين بين". حتى وإن كانت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية لن تغفر له أبداً...
تهديدات داخل المؤسسة
يدور الفيلم من حول فرد عادي يدعى جوزيف تورنر يعمل ملتحقاً بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كمترجم وقارئ من مهامه أن يفك الشيفرة معتمداً على موهبة أدبية لم تحقق له في السابق أي نجاح، وعليه الآن، كي يتمكن من العيش "بكرامة"، أن يرضى بما قسم له في مؤسسة ضمته من ناحيتها، وربما بسبب عاديته البينة، إلى فريق عمل غامض إلى حد كبير. غير أنه يحدث ذات يوم، في الفيلم طبعاً، أن مجموعة من قتلة مجهولين تتمكن لأسباب غامضة من الإجهاز على رفاقه في الفريق، وراحت تطارده هو بدوره من دون أن يدرك شيئاً عما يأخذونه عليه أو ما هي دوافعهم لملاحقته، بل حتى دون أن يدرك حقاً أو يفهم ما إذا كانوا أصلاً من أهل "المؤسسة" أو أعداءً لها. والحقيقة أن الأحداث التي يتابعها المتفرج لا تنتهي على توضيح ما يحدث، بل هي تكتفي بمتابعة المطاردة التي تحاصر جوزيف تورنر من كل الجهات، حتى وإن كان سيتبين، ولكن دائماً بالصورة نفسها البالغة الغموض، أن المطاردين لا يمكن أن يكونوا بعيدين حقاً عن نفس الجهاز الاستخباراتي الذي ينتمي إليه بطلنا، لكننا لا نحن ولا هو نفهم لماذا، إذا كان الأمر كذلك، تحتاج "المؤسسة" إلى التخلص منه هو الذي سيقنعنا تماماً بأنه لا يعرف ما يعتقد مطاردوه أنه يعرفه. والحقيقة أن هذا الجانب العبثي من الحكاية برمتها، كان هو ما اجتذب المنتج الإيطالي دينو دي لورنتس عند بدايات اهتمامه بالإنتاج في هوليوود، لا الجانب السياسي، ما اجتذبه إلى تلك الرواية التي كانت قد صدرت قبل فترة للكاتب جيمس غريدي بعنوان أدبي هو "أيام الكوندور الستة" لتخفيف الأيام إلى ثلاثة لدى الاقتباس السينمائي من دون إحداث كثير من التبديلات الأخرى.
ولعل ما يجب الإشارة إليه هنا هو أنه لا المنتج ولا المخرج كانا وباعترافهما، يتوخيان تحقيق فيلم سياسي، أو حتى ذي أهداف سياسية ولو غامضة. كانت الرغبة المشتركة أن يحققا فيلم مغامرات وتشويق على طريقة هيتشكوك، فإذا بالفيلم يفلت من بين أيديهما ليتخذ بعده السياسي ويتحول إلى تلك الأيقونية التي ارتبطت به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لمسات سيد التشويق
والحقيقة أن الفيلم، إذا كان النقد الأوروبي أول من ضمه إلى السينما السياسية الاحتجاجية، على غير إرادة منتجه ومخرجه، فإن النقد الأميركي سيتأخر في إلحاقه بتلك السينما مفضلاً قبل ذلك أن يسبغ عليه سمعة هيتشكوكية كان من شأنها أن ترضي ذاك الذي يعتبر دائماً سيد التشويق في السينما الأميركية والعالمية، أي الفريد هيتشكوك نفسه الذي كان اعتاد خلال تلك السنوات الأخيرة من عمره، الشكوى من أنه سيرحل عن السينما والعالم من دون أن يترك وريثاً، نقل عنه البعض أنه، تحديداً من خلال فيلم سيدني بولاك هذا، قد عثر... أخيراً على الوريث المنشود، حيث "عرف هذا السينمائي الشاب كيف يجمع في هذا الفيلم الذي استمتعت به كثيراً، التشويق إلى الجاسوسية والجريمة إلى المغامرات والمطاردة". والحقيقة أن نقل هذه التصريحات عن هيتشكوك أفرح سيدني بولاك كثيراً، لكن النقاد ونخبة المتفرجين لم يوافقوا على ذلك، بل أمعنوا في تسييس "أيام الكوندور الثلاثة" إلى أقصى الحدود.