ملخص
لو كان بروست حياً بيننا لما وافق أبداً على التغييرات الإنغلوسكسونية هذه ولعدها انتقاصاً منه ومن لغته. ومن ثم وجد فيها سبباً قاطعاً وجذرياً يؤكد له صوابية موقفه السلبي من السينما وخصوصاً من تحويل الروايات الكبرى إلى أفلام... حتى ولو بدت أفلاماً كبرى!
كان مشروعاً كبيراً لم يقيض له أن يكتمل ومن ثم غاب في مهب النسيان منذ أعلن صناع الفيلم أن من المستحيل إنجازه لأسباب قد يستغرق الغوص فيها مجلدات من البحث والمراجعة. ومع ذلك كانت الأسماء المتعلقة بالمشروع من الأسماء الكبيرة حقاً في إبداعات القرن الـ20 بدءاً من الروائي الفرنسي مارسيل بروست، مروراً بالمخرج الإنجليزي الأميركي الأصل جوزيف لوزاي، وصولاً إلى الكاتب البريطاني الكبير هارولد بنتر، الذي لن يرحل بعد ذلك عن عالمنا، إلا متوجاً بجائزة نوبل الأدبية.
ولئن قامت شهرة بنتر ومكانته على مسرحياته الكبرى التي أمدت الحياة المسرحية البريطانية والعالمية ببعض أعظم العروض خلال النصف الثاني من القرن الـ20، فإنه كان معروفاً كذلك بخوضه معترك الكتابة السيناريستية للشاشة الكبيرة والصغيرة ومن ذلك على وجه الخصوص ثلاثية رائعة حققها لوزاي نفسه ("الخادم"، "حادثة" و"الوسيط"). ونعرف أن المخرج والكاتب قد ارتبطا بصداقة وتجانس فكري جعلاهما يحلمان دائماً باقتباس رواية مارسيل بروست الكبرى "البحث عن الزمن الضائع" فيلماً سينمائياً.
وكان ذاك على أية حال المشروع المجهض الذي نتحدث عنه هنا. ولنقل منذ البداية هنا إن بنتر قد أنجز حصته الخاصة من المشروع إذ انتهى من السيناريو بالفعل، لكن المنتجين تراجعوا، وانسحب لوزاي من جديد في خضم مشروع كان يعول عليه كثيراً. ونقول هنا "من جديد" بالنظر إلى أن لوزاي اشتهر، إلى أفلامه الكبرى، بمشاريعه الكثيرة المجهضة ومنها خصوصاً مشروعه الكبير عن مؤسس المملكة العربية السعودية ومعركة الدرعية تحت عنوان "المعركة" عن سيناريو مميز كتبه فرناندو سولاناس ولم يتحقق أبداً رغم عشرات ألوف الدولارات التي أنفقت على بناء ديكورات تحاكي منطقة الدرعية السعودية في الصحراء المغربية. وطبعاً ليس هذا موضوعنا هنا، بل موضوعنا سيناريو بروست من كتابة بنتر، الذي بعد أعوام من توقف المشروع، صدر على شكل كتاب يحمل توقيع بنتر ويتضمن، إلى السيناريو نفسه، ملفات متكاملة حول المشروع وظروف إخفاقه وما اكتنف ذلك كله من اكتشاف صعوبة، إن لم يكن استحالة، أفلمة ذلك النص البروستي الكبير.
عام من حياة غنية
منذ مقدمة الكتاب سنعرف أن هارولد بنتر أمضى عام 1972، أي العام الذي عرض فيه آخر أجزاء "الثلاثية"، "الوسيط" الذي سيعده أجمل أعوام حياته العملية، منكباً على كتابة السيناريو في تعاون يومي مع جوزيف لوزاي. وفي تلك المناسبة سيعترف بنتر بأنه قد أوقف تفكيره، الذي كان سائداً في مسرحياته كما في سيناريوهاته السينمائية، حول عبثية الحياة وصمتها الكبير، ليتبنى مفاهيم بروست حول العلاقة بين الحياة الاجتماعية والفن والأدب وتيار الذاكرة والاستبطان النفسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الكتاب على أية حال، لن يفوت بنتر أن يعلن أنه قد أرغم نفسه طوال فترة اشتغاله على السيناريو البروستي، على تخليص أفكاره من كل ما له علاقة بشخصيته الأدبية الخاصة، بغية أن يكون أكثر ما يمكنه أمانة للمشروع البروستي. ولعل في إمكاننا هنا أن نتوقف طويلاً عند هذا البعد في المشروع بأكمله طارحين من حول تلك "الأمانة" المثيرة للدهشة، 1000 سؤال وسؤال. غير أن ما يبدو مهماً هو التوقف عند الطريقة التي عمل بها بنتر على مشروعه والتساؤل، في نهاية الأمر: لماذا لم يكتمل ذلك المشروع سينمائياً؟ بل حتى الانطلاق من هذا لتساؤل أوسع حول ما حال دائماً دون اكتمال أي مشروع تمت صياغته لتحويل تلك الرواية بالذات إلى فيلم سينمائي نعلم أن سينمائيين كباراً من طينة فيسكونتي وأورسون ويلز، كانوا من بين الحالمين بتحقيقه يوماً.
وقبل أن نغوص في هذا الحديث أكثر، لا بد أن نقارن "إخفاق مشروع بنتر البروستي" هذا بتمكن ما لا يقل عن اثنين من كبار سينمائيي الأجيال التالية لجيل فيسكونتي، الشيلي/ البرتغالي راؤول رويث، والفرنسية البلجيكية شانتال أكرمان، الأول في اقتباسه "الزمن المستعاد" والثانية في أفلمتها "الأسيرة"، والفيلمان عن نصين آخرين لبروست نفسه، تمكنهما من مزاوجة أدب بروست، الذي لم يحب السينما إطلاقاً، على أية حال، بفن السينما.
من 3 آلاف صفحة إلى 400 مشهد
ويعيننا هذا التساؤل بالطبع إلى عمل بنتر. ولعل السمة الأولى التي يمكن الإشارة إليها هنا هي تلك المتمثلة في أن أمانة بنتر المطلقة للنص البروستي، مكنت السيناريو الذي كتبه ونشره في الكتاب، من أن يلخص ما يربو على 3 آلاف صفحة يتألف منها الأصل الروائي في اللغة الفرنسية في ما لا يزيد على 400 مشهد تمكنت من أن تحوي "أحداث" النص الروائي بأسره. فكيف تمكن بنتر من ذلك؟ بدمجه كثيراً من المشاهد في بعضها بعضاً من دون أن يضحي بجوهر دلالتها. وكذلك بتحويله كثيراً من المواقف والأحداث المفصلية إلى جزء من حوارات مختصرة عبر أسلوب لا شك أنه استمده من مسرح راسين إذ تحل حوارات الردهات محل أحداث تروى لنا هنا ولا نحتاج إلى مشاهدتها.
وكذلك يمكننا أن نشير إلى أن بنتر يبدو بارعاً إلى حد بعيد، في إحداثه قلبات شديدة السينمائية في الترتيب الكرونولوجي لتتابع الأحداث والمواقف من دون أن يخل أي إخلال بالمتابعة الزمنية للفعل الروائي نفسه. هذا من دون أن ننسى ما تمكن منه بنتر من أن يكون مقنعاً في مجال حذفه لحكايات وحوارات بل حتى لعلاقات جانبية كان كثر من المعلقين الإنجليز على الرواية نفسها، وحتى من قبل دخول المشروع السينمائي على الخط، قد وصفوها بأنها أقرب ما تكون إلى "الثرثرة الفرنسية" التي لا تبدو سوى حشو من نوع لزوم ما لا يلزم. ومع ذلك في اشتغاله على تلك الشاكلة، بدا بنتر ككاتب للسيناريو، أقرب إلى أن يكون محرراً في دار للنشر يشتغل على الطريقة الأميركية في تنقية نص أدبي من كل الزوائد قبل نشره. وذلك من دون أن يشوه الرواية أو يبدل من ميزاتها الكثيرة. وبخاصة من دون أن يفقد تيار الوعي رونقه ودلالاته وحداثته.
والحقيقة أن ليس في وسعنا في هذه العجالة هنا أن نورد أية لائحة بالتغييرات والاختصارات التي وجد بنتر نفسه قادراً على إحداثها في نص له مكانته. لكن ما يمكننا أن نقوله بالتأكيد هو إن بروست لو كان حياً بيننا لما وافق أبداً على التغييرات الإنغلوسكسونية هذه ولعدها انتقاصاً منه ومن لغته. ومن ثم وجد فيها سبباً قاطعاً وجذرياً يؤكد له صوابية موقفه السلبي من السينما وبخاصة من تحويل الروايات الكبرى إلى أفلام... حتى ولو بدت أفلاماً كبرى!
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن موقف بروست الافتراضي هذا كان قد ظهر ونوقش طوال تلك السنوات التي فصلت بين عام اشتغال بنتر على المشروع وعام ظهور كتاب "مشروع بروست"، أي طوال نحو 20 عاماً، بين أنصار راديكاليين لأدب بروست تبنوا موقفه السلبي من السينما واجدين في تعديلات بنتر الجذرية أحياناً ما يبرر ذلك الموقف، وبين آخرين، لا يقلون عن الأول هياماً بعمل بروست الكبير هذا ويرون أنه آن الأوان لانتقاله إلى الشاشة، فإن لم يتم الآن انطلاقاً من "الجهود الجبارة" التي قام بها الكاتب البريطاني الكبير، "لن تكون هناك بالتأكيد فرصة أكثر ملاءمة". والمحير في الأمر أن كلاً من الطرفين يبدو على حق والسجال لا يزال قائماً من دون هوادة، قد يغيب أحياناً لكن لفترة قصيرة ثم يستأنف من جديد.