ملخص
يتعدى السجال في الأردن حول مهرجان جرش، النطاق الفني والثقافي للمهرجان الذي يطفئ هذا الصيف شمعته الـ39، ويضع هذا الحدث السنوي في قلب السياسة، لا سيما في ظل الأحداث المشتعلة داخل المنطقة، وفي غزة تحديداً التي تشهد على محرقة تذيب الصخر والعظام وتمزق شغاف الأفئدة.
منذ "طوفان الأقصى" والجدل حول انعقاد مهرجان جرش محتدم، إذ تبرز انقسامات شبه عمودية بين من يؤيد استمراريته على رغم المآسي من حولنا، ومن يعارض توقف المهرجان على اعتبار أن التضامن مع غزة يكون بالفن أيضاً.
الموقفان يصدران عن مرجعيات فكرية "أيديولوجية" وأخلاقية. ويمكن أن يلمس المراقب أن المؤيدين لتعطيل المهرجان ينتسبون، في جلهم، إلى ما يعرف بتيار "الإسلام السياسي"، وبعض المحافظين اجتماعياً، المتأثرين بأدبيات هذا التيار ممن كانوا يعارضون انعقاد المهرجان قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بذريعة أن المهرجان يشجع على "الاختلاط والعري والخلاعة والفن الهابط، ويتنافى مع ضوابط المجتمع وأعرافه وقيمه"، إلى آخر هذه المعزوفة المثقوبة التي تعتصم بالتأويل الديني الانتقائي، من أجل شيطنة أي فعل له صلة بالإبداع والترفيه والانفتاح.
أما التيار الذي يؤيد انعقاد المهرجان في موعده، فجله من الليبراليين ونشطاء المجتمع المدني والكتاب والمثقفين، ممن يؤمنون أن الفن سلاح، وأن ما لا تحققه السياسة يتولاه الإبداع، وأن المهرجان يستطيع أن "يسوق" مأساة غزة بطريقة خلاقة تخترق الوجدان العالمي. ويحرص هذا التيار على تأكيد أن الآلام لا ينبغي أن تقعد الناس عن مواصلة التحدي، وإنبات الفرح في عروق الحياة، وهزيمة اليأس، لأن الانتصار على العدو يكون بتعريته وفضح جرائم الإبادة التي يرتكبها، بالتالي تجريده من إنسانيته.
إدارة المهرجان استجابت، بطريقة ذكية، لكلا التيارين، فخصصت فقرات كثيرة، وأعدت برامج وفعاليات للتضامن مع مأساة غزة، من خلال معارض فنية، وفرق ومغنين عرب اشتهروا بالغناء الوطني. وسيشارك في المهرجان 140 شاعراً، إضافة إلى انعقاد "مهرجان المونودراما" بعروض مسرحية من فلسطين والكويت والجزائر وعمان والبحرين وسوريا ومصر، وليبيا والعراق وتونس والأردن، وكذلك عقد "سومبوزيوم الرسم والحروفية والخط العربي"، فضلاً عن باحثين يقدمون أوراق عمل في المؤتمر الفلسفي العربي الـ13 بالتعاون مع الجمعية الفلسفية الأردنية.
جائزة غالب هلسا للرواية
وفي البرنامج الثقافي للمهرجان، سيُعلن عن الفائز بـ"جائزة غالب هلسا للرواية"، وهي جائزة مشتركة بين مهرجان جرش ورابطة الكتاب الأردنيين. وسينعقد بالتعاون مع الرابطة "ملتقى تحولات السرد العربي في العصر الرقمي" (دورة الروائي الرائد جمال ناجي) الذي يناقش قضايا السرد العربي في ظل التطورات الرقمية، وتداخل الأجناس السردية، والعلاقة بين السرد والدراما، وغيرها من الموضوعات بمشاركات من السعودية والإمارات ومصر والسودان والكويت وسوريا وعمان والبحرين، ولبنان والعراق والجزائر والأردن.
مهرجان جرش الذي يلتئم في الـ23 من يوليو (تموز) إلى الثاني من أغسطس (آب) المقبلين، تحت شعار "هنا الأردن... ومجده مستمر"، أثبت منذ انطلاقته انحيازه للفن الأصيل، إذ وقف على المدرج الجنوبي في المدينة الأثرية التي شيدها الرومان قبل زهاء ألفي عام، أهم الفنانين العرب والعالميين، مما جعل هذا الحدث لقاء سنوياً للاحتفاء بالمخيلة، وإشاعة الأمل، وصناعة أفق للرجاء والتحدي.
وفي قائمة المشاركين في المهرجان المقبل، الذي يشهد أكثر 235 فعالية أصالة وناصيف زيتون وأحلام، وميادة الحناوي ونور مهنا وجوزيف عطية وملحم زين وخالد عبدالرحمن ومحمد حماقي، إضافة إلى الفنانين الأردنيين عمر العبداللات ونداء شرارة وديانا كرزون، وعيسى السقار وأسامة جبور وحسين السلمان وعزيز مرقة وغيرهم.
استفتاء غير معلن
الذين يؤمون بالآلاف أنشطة المهرجان من الأردن وخارجه يشاركون في استفتاء غير معلن على جدارة هذا الحدث وصدقيته وكونه فضاءً رحباً للعائلة، مما يقوض المزاعم التي يطلقها المعارضون الذين يتطلعون، فحسب، إلى احتكار الحقيقة المطلقة المتصلة بصيانة الأخلاق وحماية الوجدان، فيما هم في الواقع يصطادون في المياه العكرة لتحقيق مآرب سياسية وشعبوية انتهازية تتغذى على المآسي من حولنا لإشاعة جو من الإحباط واليأس على اعتبار أن "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، في تأويل مغرض يتوخى لي أعناق المعنى وإخراجه من سياقه، إذ ينهض في المقابل "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المهرجان مستمر، ويستمر معه الفرح. وإذا أرادت إسرائيل للعالم العربي أن يبقى حزيناً ومكتئباً ومتخلفاً ولائذاً بالغيبيات ومتقاعساً عن اللحاق بالركب الحضاري، فيتعين أن تُقاوم بالإقبال على الحياة وشحن الهمم وإيقاظ الإبداعات، والاستثمار بالقوة الناعمة من أجل الترفيه والسياحة وتحويل الثقافة والفنون إلى قوى منتجة ترفد الاقتصاد الوطني بالصناعات الإبداعية، وصولاً إلى "الاقتصاد الإبداعي" أو "اقتصاد العقول" الذي قدرت توقعات سابقة أن تصل سوقه إلى أكثر من تريليوني دولار. وهذه في مجملها رؤى وتصورات تستند إلى أرقام وبيانات، ويتعين أن تتوافر لها بيئة تنافسية منشدة إلى الأمام تؤمن بالعلم والسعي لتحسين الحياة والارتقاء بجودتها. ومن نافل القول أن نذكر أن نهضة الدول التي ابتليت بالدمار الذي حاذى الإفناء (كما جرى في اليابان) كانت من خلال تثوير العقول ومناهضة المستحيل، والاعتصام بالتفكير النقدي وعشق الأمل. وبفضل هذه الاستراتيجية أصبحت اليابان في زمن قياسي أكبر الدول الدائنة في العالم لأكثر منذ 31 عاماً، إذ وصلت صافي قيمة الأصول الخارجية لليابان (3.7 تريليون دولار) في نهاية عام 2024، قبل أن تتقدم عليها ألمانيا التي خاضت هي الأخرى معجزة البقاء والتحدي، بعد الحرب العالمية الثانية.
ليس بعيداً من جرش وعن غزة
بدأت الحكاية بنفض غبار القنوط عن كاهل الوعي. وستتواصل بالتفكير الحر وإثبات الحضور، واستعادة الحيوية الوجودية في عالم لا يحترم الضعفاء، ويرفع قبعته وينحني لمن يرفع قفازات التحدي.
ليس بعيداً من جرش وعن غزة، الشعب الممتلئ عزة وتصميماً ينتصر في النهاية. أفراح غزة المقبلة تبدأ برسم لوحة وغناء قصيدة والهتاف للحياة وتمجيد الأمل. للنصر وجوه عديدة، أولها امتلاك الوعي واستقلال الإرادة وامتلاء الذات باليقين العلمي أنها قادرة، وإذ ذاك تتحول أحلام المحتلين إلى كوابيس ضارية.