ملخص
قبل نحو عقد من الآن صدر كتاب ضخم لا يقل عدد صفحاته عن 400 صفحة، يضم عدداً لا بأس به من نصوص غير معروفة تماماً للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما تحت عنوان "لاكامورا" وعنوان ثانوي هو "ونصوص أخرى حول اللصوصية"، يستكشف فيه الحياة السياسية والاجتماعية في إيطاليا من خلال عصابات المافيا
طبعاً نعرف جميعاً أن مؤلف "الفرسان الثلاثة" و"الكونت دي مونت كريستو" وغيرهما من تلك الروايات التي طبعت أجيالاً متتالية من القراء، وفتحت أمام روايات المغامرات آفاقاً قاربتها من السياسة وعلم الاجتماع، كان - ويبقى - من كبار الكتاب المدافعين عن القضايا العادلة والساعين إلى التعبير عن مكان الإنسان ومكانته في العوالم التي يعيش فيها، ولا سيما في فرنسا موطن ألكسندر دوما الأصلي، ومركز اهتمامه، لكن دوما لم يكن مؤلف روايات فحسب، بل كان رحالة أيضاً أنتج نصوصاً رائعة في أدب الرحلات التي كان من بينها رحلة شهيرة إلى تونس، وكان كاتباً له باع في شؤون المسرح والنقد المسرحي، كما أبلى في الصحافة وفي معظم الأحيان من موقع متقدم وتقدمي وإنساني، كما غالباً من موقع الغاضب على كل ما يمت إلى الشر بصلة والمدافع عن بسطاء الناس الطيبين.
وهو، لأنه كان يزور إيطاليا زيارات متواصلة وقف فيها مناصراً ثورة غاريبالدي مؤيداً مساعيه لتوحيد الأمة الإيطالية، دائماً ما اهتم بالشؤون الإيطالية الكبيرة منها والصغيرة، بحيث إن من يتابع كتاباته حول هذا البلد المجاور كان يعتقده إيطاليا أكثر منه فرنسياً. صحيح أن ما نشر من نصوص كرسها ألكسندر دوما طوال حياته لإيطاليا كثير جداً، غير أن كثراً من المتابعين مستعدون دائماً لإخبارك بأن ثمة ألوفاً من الصفحات مما كتبه عن إيطاليا وفي مراحل متفرقة، لم ينشر بعد أو لم ينشر من جديد ومنذ بدايات القرن الـ20 بعدما كان قد نشر خلال حياته ويعيش الآن موزعاً في كتب اختفت أو مطبوعات لا يمكن العثور عليها إلا في المتاحف. ومن هنا لا تمضي فترة من السنين دون أن يكون هناك ما يتعلق بإيطاليا فيما ينشر ويعاد نشره من كتابات ألكسندر دوما. بالتالي يمكن الحديث دائماً عن حدث أدبي إنما غير مفاجئ في كل مرة يعاد فيها نشر نص "إيطالي" للكاتب.
في غياب المافيا
وفي هذا السياق يمكن على أية حال التوقف عند كتاب ضخم لا يقل عدد صفحاته عن 400 صفحة صدر قبل نحو عقد من الآن يضم عدداً لا بأس به من نصوص غير معروفة تماماً لدوما تحت عنوان "لاكامورا" وعنوان ثانوي هو "ونصوص أخرى حول اللصوصية".
ولعل ما يلفت قبل أي شيء آخر في هذا الكتاب هو عنوانه الذي يشير تحديداً إلى تلك المنظمة المافيوزية التي لم "يكتشف" وجودها في إيطاليا إلا في السنوات الأخيرة، أي بعد كتابة دوما لنصوصه المتعلقة بها بعقود طويلة. بل لعل في إمكاننا أن نزعم أن هذا الوجود، وتحت هذا المسمى بالتحديد، يدين للسينما التي بدأت قبل سنوات قليلة بتداوله في خلط بينه وبين مسميين آخرين أكثر شهرة منه لتلك المجموعات، "المافيا" من ناحية، و"كوزا نوسترا" من ناحية ثانية. ولئن كان الناس خارج إيطاليا يعتبرون التسميات الثلاثة شيئاً واحداً، فإن من الضروري التفريق بينها للقول إن المافيا هو الاسم العام لكل أنواع العصابات والجماعات المتحكمة بعديد من المجتمعات الإيطالية، في الوطن والمهجر، و"الكوزا نوسترا" تختص بالبعد السياسي لتلك الجماعات على الأرجح، بينما "الكامورا" التي يبدو كتاب دوما أكثر اهتماماً بها، فليست سوى التسمية والصيغة المحلية النابوليتانية لتلك الجماعات.
والحقيقة إن المرء يحار أمام استخدام كتاب دوما للتسمية الأخيرة هذه في زمن لم تكن معروفة فيه إلا من حيث وجودها في نابولي وعلاقتها بالحكم والمجتمع فيها. ونعرف أن هذه العلاقة لم تظهر بصورة واضحة إلا بفضل بضعة أفلام سينمائية شوهدت أول ما شوهدت في مهرجان "كان" الفرنسي، تعلم الناس منها أن يفرقوا بين ما تعنيه التسميات التي أشرنا إليها.
ويبقى أن نتساءل هنا عما إذا كان دوما في نصوصه يتحدث حقاً عن تلك "الكامورا" النابوليتانية التي كانت تبدو وليدة للسينما لا أكثر. ومهما يكن من أمر من المنطقي القول إن كتاب دوما هذا لم يحمل اسم الكامورا في عنوانه إلا للاستفادة من شهرة حققتها السينما للاسم. أما العنوان الذي كان يجدر به أن يحمله فهو ذاك الثانوي "حكايات أخرى عن اللصوصية"، ولكن نسارع هنا للقول إن مسألة التسمية هذه قد لا تكون فائقة الأهمية. فالأهم من ذلك أن نصوص الكتاب المتعلقة بهذا الأمر، أتت مبكرة جداً بقلم الكاتب الفرنسي.
مغامرة كتاب
ولعل ما يستحق أن نبدأ به حديثنا عن هذا الكتاب هو أن الصحافة الفرنسية اعتبرت صدوره في حينه مغامرة أدبية لافتة. ففي الكتاب إذا كانت المقالات المتعلقة باللصوصية وحضورها الفائض عن القضية الجنائية في إيطاليا، تشكل جوهر الكتاب فإنها من الناحية الإحصائية لا تشغل أكثر من 42 ورقة في أصلها المخطوط، إضافة إلى نص طويل نسبياً عنوانه "روزا ماريا" من المرجح أنه لم يسبق له أن نشر، لكنه من ناحيته يكشف عن اهتمامات سياسية كانت تشغل دوما حينها، ولا سيما في مجال موقفه المعادي لأسرة بوربون الحاكمة حينها في نابولي ومناطق أخرى من الجنوب الإيطالي، والحاكمة بالنسبة إلى الكاتب مدعومة من العصابات المتحكمة في حياة الناس وأرزاقهم والمستندة في سلطتها إلى تحالف الكنيسة مع القصر وما إلى ذلك. واللافت هنا هو أن الكامورا التي أعارت اسمها عنواناً للكتاب لا يأتي ذكرها فيه إلا بصورة تكاد تكون عابرة في قسم رابع لاحق من الكتاب. وتحديداً في مجال القول إن هذه المنظمة تمتلك من البنى التنظيمية والسلطات المجتمعية "ما يتطابق مع حالها في أزمنتنا المعاصرة"، مما يعني أن دوما ليس هو بالطبع من تحدث عن الكامورا على هذه الشاكلة.
ومن هنا لا يكون من الغريب أن نجد في النص الذي يمكن لدوما أن يكون قد كتبه حقاً كيف أن الكاتب يلتقي خاصة في نابولي عدداً من رجالات المنظمة الذين لا بد أن نشير إلى أن دوما لا يسميهم "كاموريين"، بل "غولانتواميني" ويصفهم بأنهم منتسبون إلى سلك القضاء للحكم بين الناس، كما يخبرنا أن من بينهم ضباط شرطة ورجال أمن. ويقيناً أن كاتبنا يعرف هنا عما يتحدث، لكن نظرته إلى الكامورا ورجالها تختلف عن النظرة إليها اليوم. هو يفصلهم بالتالي عن عصابات الكامورا النابوليتانية المعاصرة لنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اللصوص شيء آخر
ومع ذلك فإن اللصوص واللصوصية حاضرون ولهم حصتهم من الكتاب كما أن لهم من عنوانه، ولكن دون أن يبدو أن لهم علاقة ما بالكامورا نفسها كمنظمة ذات سلطة. فهم لهم سلطتهم أيضاً، لكنها سلطة مختلفة وتبدو مثيرة لاهتمام دوما بصورة أكثر جدية. ففي النص المتحدث عن اللصوص واللصوصية كما عرفهم الكاتب في إيطاليا، من الواضح أن هذا الأخير يبني منظومة النص انطلاقاً من الانتفاضات وردود الفعل البوربونية مركزاً حديثه من حول عدد من الشخصيات ذات الشأن، والمكانة الشعبية أيضاً، مثل الأخ ديافولو المطارد من قبل الجنرال هوغو، واغوستينو موسكا الذي بقي حتى إعدامه موالياً للملكة كارولين، وكابيرليوني الذي اشتهر بكونه قاتل المطران، وبالتأكيد زعيم اللصوص دي تشيزاري الذي سادت شهرته بكونه أميراً مزعوماً خاض مغامرات عجيبة غريبة. وهي مغامرات أبدع دوما في وصفها بتفاصيل مدهشة. غير أن تلك الحركات اللصوصية حتى وإن كانت تنتشر خارج المدن، فإن دوما ينتقل بنا معها إلى المدن نفسها، وتحديداً إلى نابولي، حيث تطالعنا مغامرات وأحداث من النوع الذي سيسود لاحقاً في حكايات "أسرار المدن" المنشورة على حلقات خلال العصر الذهبي للروايات المسلسلة. غير أن الكتاب نفسه يؤكد لنا أنه لا شيء من ابتداع الخيال في كل ما يرويه دوما هنا. فدوما اكتفى بإعادة صياغة مجموعات إخبارية وحدثية يعرفها القاصي والداني في تلك المنطقة الغامضة الغريبة من العالم. ولكن ليس فقط للإخبار عنها والترفيه عن قرائه، بل لفضح سياسات سلطوية معينة في بلد كان يعيش مرحلة انتقالية وصورة توحيدية وتحالفات مقيتة بين جملة الفئات المتحكمة بالمجتمع وأهله.