ملخص
تمثل سيطرة "الدعم السريع" على المثلث الحدودي نقطة تحول استراتيجية في مسار الحرب السودانية، تتجاوز في دلالاتها حدود التكتيك العسكري إلى إعادة تعريف موازين السلطة، وخريطة النفوذ في إقليم هش بطبيعته السياسية والجغرافية.
أطلق على منطقة "المثلث الحدودي" هذا الاسم لكونها تشكل تقاطعاً جغرافياً ثلاثياً تلتقي فيه حدود السودان ومصر وليبيا، وتقع في محيط جبل عوينات الشهير، الذي يعد أبرز معالم المنطقة. وتكتسب هذه الرقعة طابعاً خاصاً بوصفها نقطة عبور سكاني تاريخية بين الدول الثلاث، حيث تنشط فيها القبائل العابرة للحدود وتزدهر أنماط التنقل غير الرسمية، في ظل طبيعة صحراوية قاسية جعلت منها أرضاً مفتوحة بلا سيطرة فعلية.
تاريخياً، لم يكن هذا المثلث موضع اهتمام في خرائط التقسيم الاستعماري، بل شكل امتداداً مفتوحاً للصحراء الكبرى، تنتقل فيه قبائل المناطق المجاورة، من دون اكتراث للحدود السياسية. وظل كذلك حتى منتصف القرن الـ20، حين بدأت ملامح الدولة الوطنية تتشكل في الدول الثلاث، من دون أن تواكبها سيطرة أمنية فعلية على هذه الرقعة الحدودية.
في سبعينيات القرن الماضي ظهر المثلث في صلب التوترات المصرية - الليبية، خصوصاً بعد تصاعد الخلافات بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، واندلاع ما عرف بـ"حرب الأيام الأربعة" عام 1977. وعلى رغم أن الاشتباك المباشر جرى على الحدود الشمالية، فإن المثلث شهد تحركات عسكرية ومناوشات على الأطراف، مما أكد أهميته الجغرافية كمنطقة اختراق.
وفي التسعينيات، ومع تصاعد أزمة دارفور أصبح المثلث بوابة خلفية للحركات المسلحة السودانية، لا سيما في ظل الدعم الليبي لبعض الفصائل، وتنامي التهريب عبر الحدود، ثم جاءت انتفاضة 2011 في ليبيا لتفتح المجال أمام تمدد الجماعات المسلحة، فتحول المثلث إلى ملاذ للمهربين، وسوق للسلاح، وممر للمقاتلين الأجانب، بل تحول إلى ممر رئيس للهجرة غير الشرعية عبر ليبيا باتجاه سواحل أوروبا، وأصبح أحد أبرز قنوات التهريب البشري في شمال أفريقيا، كما تنامت في المنطقة تجارة الذهب العابرة للحدود، خصوصاً مع تصاعد نشاط التنقيب التقليدي في صحارى دارفور وجنوب ليبيا.
رخاوة المثلث الحدودي ليست وليدة اللحظة، بل نتاج تاريخ طويل من الإهمال الجغرافي، والهشاشة الأمنية، وضعف الدولة في الأطراف، وتغول القبيلة والسلاح. ومع تطور الحرب السودانية تعيد هذه المنطقة إنتاج نفسها كمساحة خارجة عن السيادة، تهدد استقرار الإقليم بأكمله.
موازين القوى
تشكل السيطرة على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر أحدث فصول إعادة تشكل موازين القوى في السودان، ليس فقط من جهة التموضع العسكري، بل من جهة الدلالات السياسية والاستراتيجية التي تعكسها مواقف طرفي النزاع، الجيش و"الدعم السريع". ففي حين أعلنت "الدعم السريع" سيطرتها الكاملة على المنطقة، قابلها الجيش بإعلان الانسحاب في إطار ما سماه "ترتيبات دفاعية"، إلا أن خلف هذا التباين في الخطاب، يختفي صراع أعمق على شرعية القوة وهوية الدولة واحتكار المجال السيادي.
في هذه المنطقة يظهر سعي "الدعم السريع" إلى إنتاج سردية سلطة موازية، تؤسس شرعيتها على حماية الحدود ومكافحة الجريمة العابرة، وهو الدور ذاته الذي كانت تضطلع به في إطار عملية الخرطوم التي أطلقت عام 2014 بهدف تعزيز التعاون بين دول مسار الهجرة من القرن الأفريقي إلى أوروبا، في إطار التصدي لعمليات الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين. وبحلول عام 2016 برزت "الدعم السريع" كطرف رئيس في تنفيذ الجوانب الميدانية من الخطة، وقد منحها هذا الدور موقعاً وظيفياً ضمن الاستراتيجية الإقليمية الأوروبية - الأفريقية، مما أسهم في تعزيز مشروعيتها الداخلية وتوسيع دائرة نشاطها خارج النطاق القتالي التقليدي، غير أن استدعاء هذا الدور الآن، في سياق الصراع على السلطة، لا يهدف إلى حماية الحدود بقدر ما يسعى إلى توسيع نطاق النفوذ، وشرعنة التمدد العسكري بإلباسه لبوس الأمن الإقليمي.
من جهته، يواجه الجيش معضلة مزدوجة، فهو من جهة يفقد السيطرة على الأرض في مواقع استراتيجية، ومن جهة أخرى يواجه اتهامات دولية وتوترات إقليمية تتداخل فيها ليبيا وتشاد وإثيوبيا، مما يفتح الباب لتحويل الصراع من شأن داخلي إلى ملف إقليمي مفتوح. وإذا كان الجيش يتحدث عن "إخلاء تكتيكي" و"إعادة انتشار"، فإن الواقع الميداني يترجم تراجعاً ضمنياً، يعيد تموضع الدولة السودانية من مركز متماسك إلى فسيفساء من الجيوب المتنازعة، تتقاسمها قوى عسكرية وأمنية تمتلك السلاح والمعابر، وتفاوض العالم بصفتها أطرافاً مستقلة.
تحول استراتيجي
تمثل سيطرة قوات "الدعم السريع" على الجانب السوداني من المثلث الحدودي نقطة تحول استراتيجية في مسار الحرب السودانية، تتجاوز في دلالاتها حدود التكتيك العسكري إلى إعادة تعريف موازين السلطة، وخريطة النفوذ في إقليم هش بطبيعته السياسية والجغرافية. وتقع المنطقة قرب مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي إحدى جبهات القتال الرئيسة في الحرب الحالية. فمنذ اندلاع الحرب بدت الأطراف الجغرافية للسودان مهيأة لتشكل مراكز قوى موازية للمركز، بفعل هشاشة الدولة المركزية وتآكل أدواتها التقليدية في الضبط والسيطرة.
يشكل المثلث الحدودي أحد أبرز هذه المناطق، كونه نقطة تواصل مع امتدادات قبلية ومسلحة عبر ليبيا وتشاد. وبدلاً من الاكتفاء بالعمق الدارفوري أعادت "الدعم السريع" بناء استراتيجية ميدانية قائمة على تطويق الدولة من محيطها الجغرافي، وهو ما تجلى في الاقتراب من الحدود مع مصر، وتوسعها نحو الحدود مع ليبيا، بعد السيطرة على أجزاء واسعة من حدود السودان مع تشاد وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وجزء من الحدود الشرقية مع إثيوبيا من خلال التنسيق مع قوات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جوزيف تكة. هذا التدرج في السيطرة قد تتحول وفقاً له طبيعة الصراع، من تنازع على السلطة إلى تنازع على الجغرافيا نفسها، بما قد يؤدي إلى خلق بنية موازية للدولة تمتلك الأرض والمعابر والثروات.
ومن شأن استكمال السيطرة على المثلث أن يمنح "الدعم السريع" منفذاً حيوياً نحو شمال أفريقيا، ونقطة ضغط استراتيجية على الحدود المصرية، كما يفتح المجال لإعادة صياغة خطوط التهريب والتجارة غير المشروعة، ويؤسس لاقتصاد قادر على تمويل استمرار الحرب. وبهذا المعنى، فإن اكتمال السيطرة على المثلث لا يعكس مجرد نجاح ميداني، بل ينذر بولادة نمط جديد من السلطة المسلحة التي تملك الأرض، بل تعمل على إعادة إنتاج السيطرة من الأطراف، في سياق إقليمي يسمح بتعدد الفاعلين وفوضى السيادة، ويؤشر إلى تفكك الدولة السودانية إلى جزر نفوذ متصارعة، يحدد الجغرافيا فيها من يملك السلاح والمعابر والثروات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتهامات متبادلة
مؤشرات عدة تجعل من عودة الجيش إلى المثلث الحدودي أمراً وارداً، في ظل ظروف معينة. فمن جهة، يتمتع الجيش السوداني بعقيدة عسكرية تقليدية ترى في الانتشار الحدودي تعبيراً عن السيادة، وسبق أن خاض مواجهات طويلة من أجل استعادة مناطق شديدة الوعورة وبعيدة من المركز، سواء في الشرق أو الجنوب أو الغرب. وتاريخياً، نادراً ما تخلى الجيش طوعاً عن مواقع استراتيجية إلا في سياق مناورة عسكرية أو تحت ضغط ميداني موقت، وسرعان ما يعاود التقدم متى توفرت الظروف العملياتية المناسبة. وهذا ما تشير إليه صياغة الجيش الأخيرة إلى أن "إخلاء الموقع تم ضمن الترتيبات الدفاعية"، مما يعني ضمناً أن الانسحاب ليس نهائياً بل خاضع لحسابات تكتيكية مرنة.
في الوقت ذاته، فإن اتهام الجيش السوداني قائد "الجيش الوطني الليبي" خليفة حفتر بدعم "الدعم السريع" يفتح الباب أمام تحولات إقليمية في قواعد الاشتباك، وقد يدفع الجيش إلى إعادة ترتيب أولوياته الجغرافية بما يشمل إعادة التموضع في المثلث الحدودي تحسباً لتوسع نطاق التحالفات المعادية.
في المقابل، فإن "الدعم السريع" كانت قد وجهت اتهامات صريحة إلى الجيش السوداني، بإقامة علاقات وثيقة مع "الجماعة الإسلامية الليبية"، مشيرة إلى أن هذه العلاقة لم تعد خافية، في إشارة واضحة إلى أن الفصائل الموالية للجيش في السودان تستند إلى شبكات أيديولوجية عابرة للحدود، تثير مخاوف إقليمية في شأن تحول المنطقة إلى حاضنة لتنظيمات إرهابية متحالفة مع جماعات "الإسلام السياسي".
تظهر "الدعم السريع" من خلال مجمل أدائها خلال الحرب نمطاً ميدانياً مختلفاً عن الجيش، يرتكز على سرعة الانتشار والمناورة، واستغلال الثغرات في خطوط الخصم، من دون التقيد بمفاهيم السيطرة الثابتة على الأرض. وفي حال المثلث الحدودي يمكن أن يفهم اندفاعها نحو المنطقة كمحاولة لفرض واقع ميداني يربك حسابات الجيش، ويوسع من نفوذها الرمزي والفعلي خارج نطاق المعارك التقليدية في العاصمة والمدن الكبرى. قد يكون هذا التقدم جزءاً من تحرك تكتيكي يسعى إلى إظهار التفوق والضغط الإعلامي والسياسي، لا سيما في ظل الاتهامات المتزايدة بتلقي دعم عسكري خارجي.
سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول، الحرب الاستنزافية الطويلة، وهو الأكثر ترجيحاً نظراً إلى طبيعة الأرض الصحراوية الشاسعة التي تجعل الحسم العسكري التقليدي أمراً بالغ الصعوبة. قوات "الدعم السريع"، بخبرتها في حروب الصحراء واعتمادها على تكتيكات الحركة والمباغتة، تجد في هذه الجغرافيا مسرحاً مثالياً لأسلوبها القتالي. ومن جانب آخر، فإن المنطقة تفتقر إلى مراكز سكانية أو بنية تحتية استراتيجية تدفع الجيش إلى التمسك بها طويلاً، مما يخلق بيئة مفتوحة لحرب استنزاف تقوم على الكر والفر، من دون تحقيق نصر حاسم لأي طرف.
والثاني، سيناريو التجميد التكتيكي للصراع، فقد تتجه الأطراف المتنازعة إلى إبقاء المثلث الحدودي خارج نطاق المعارك الحاسمة، وتحويله إلى منطقة تجميد عسكري موقت تستخدم كورقة ضغط في مفاوضات لاحقة، أو كمجال للاختراق الاستخباراتي من دون التورط في معارك مباشرة. هذا السيناريو تفرضه ظروف الإنهاك المتبادل، وتراجع الكلفة السياسية والعسكرية للسيطرة على منطقة ذات مردود استراتيجي محدود، في مقابل ارتفاع كلفتها اللوجيستية، كذلك قد تسعى بعض القوى الإقليمية أو الدولية إلى الضغط باتجاه تهدئة هذا الجيب الحدودي.
والثالث، سيناريو فرض منطقة نفوذ استراتيجية، في حال تمكن أحد الطرفين، الجيش أو "الدعم السريع" من فرض سيطرة عسكرية مستقرة على المثلث، فقد يتحول إلى قاعدة متقدمة ومنطقة نفوذ تستخدم لأغراض لوجيستية أو لتمرير الدعم الخارجي. هذه السيطرة قد تمنح الطرف المهيمن هامشاً واسعاً للضغط على خصمه عبر التلويح بالتمدد نحو العمق الحدودي مع دول الجوار، أو تأمين خطوط الإمداد، غير أن هذا السيناريو يتطلب إمكانات كبيرة، وتحالفات إقليمية داعمة.
أما السيناريو الرابع فهو الاشتباك الإقليمي المحدود، وإذا استمرت التدخلات الإقليمية غير المباشرة، فقد تنزلق الحرب في المثلث نحو اشتباك محدود بين أطراف محلية، خصوصاً إذا تحولت المنطقة إلى مسرح لتبادل النفوذ بين السودان وليبيا وتشاد، أو دخلت أطراف مثل مصر بشكل غير مباشر عبر الدعم اللوجيستي أو الاستخباراتي. هذا السيناريو يهدد بتوسيع نطاق الصراع، وتحويل المثلث من نزاع محلي إلى بؤرة صراع جيوسياسي. وعلى رغم أنه ليس السيناريو الأرجح حالياً، فإن تزايد العوامل المحركة لهذا التداخل، لا سيما مع غياب الدولة المركزية قد يجعله تطوراً محتملاً في أي لحظة.