ملخص
غالباً ما تجري المقارنة بين الصورتين اللتين عرفتهما البطلة "فيدرا"، الإغريقية والرومانية، بحسب النصوص المسرحية التي كتبت في التراث اليوناني والتراث الروماني، ومن أبرزها نص يوربيديس ونص سينيكا.
ينتهي دور "فيدرا" الإغريقية باكراً، بينما يبدأ صراع الأب وابنه، الذي ينتهي بموت الابن، وبذلك يتضح أنها أكثر نبلاً من "فيدرا" الرومانية، فلم يكن لها سلطان لها على قلبها، كما أنها أمعنت في إخفاء شعورها، في حين قامت المربية بإفشاء السر، ومن ناحية أخرى يتجلى في هذا المثال المسرحي القديم انتصار الثقافي على سلطة السيف.
على رغم أن الدولة الرومانية قامت بالاحتلال العسكري لليونان في القرن الثاني قبل الميلاد، فإن اليونان احتلت غازيها ثقافياً، إذ أدرك الرومان قيمة ما وجدوه من ثروة معرفية، ولا سيما في مجال المسرح، فراح كتابهم يعيدون إنتاج المسرح اليوناني بأسلوب جديد، يلائم طبيعتهم النفسية والسياسية والاجتماعية، فعكست مسرحياتهم ما اتسموا به من قوة وقسوة. وصارت تحتفي بالمشاهد العنيفة والدموية، التي كان المسرح اليوناني يتجنبها إلا بالرمز، كما طرحت قضايا الحب والجنس بصراحة بالغة، وهو ما لم يتقبله اليونانيون أيضاً، حد أن فشلت مسرحية "هيبوليتوس" في نسختها الأولى، عندما قدم فيها يوربيديس صورة صادمة عن المرأة والحب والعاطفة والعلاقة الحميمية.
ولم تنجح نسخته الثانية من المسرحية ذاتها، إلا لأنها راعت حساسية مجتمعه تجاه تلك القضايا. أما سينكا فعندما أعاد إنتاج مسرحية "هيبوليتوس" كانت مسرحيته "فيدرا" أشبه بالنسخة الأولى ليوربيديس، التي نفر منها اليونانيون، وربما كان دافعه في تلك المعالجة انتشار الزنى في روما آنذاك، حتى بين أفراد أسرة الإمبراطور أوغسطس.
ما بين القرب والنبذ
عاش سينيكا حياته مراوحاً بين القرب والنبذ من قبل الطبقة الحاكمة. حقد عليه الإمبراطور الروماني كاليغولا، وأراد إعدامه، لكنه تراجع عندما ورده تقرير يخبره بضعف صحة الكاتب الروماني، وأنه سيموت بعد فترة قصيرة، وبعدها وبواسطة نفوذ خالته، تقلد سينكا منصباً مهماً في الدولة، لكن ما لبثت ميسالينا زوجة الإمبراطور كلوديوس الماكرة، أن كادت له، وتسببت في نفيه إلى جزيرة كوورسيكا عام 41 م. وبعد أن أعدم كلوديوس زوجته ميسالينا، وتزوج من أغربينا، عاد سينكا من منفاه، وجعلته الزوجة الجديدة معلماً لابنها نيرون، الذي ما إن وصل إلى العرش حتى جعل سينكا مستشاره الأول، لكنه انقلب عليه في النهاية وتخلص منه.
كل هذه التجارب انعكست على كتابات سينكا المسرحية، التي كانت "فيدرا" من أهمها، وهي المسرحية المأخوذة عن الكاتب اليوناني يوربيديس، وتنهض على أسطورة إغريقية عن "سيثوس"، أحد ملوك أثينا الأسطوريين، الذي تقع زوجته في حب ابنه غير الشرعي، وحين يمتنع "هيبوليتوس" عن الاستجابة لها، تتهمه باغتصابها، مما يعرضه للعنة أبيه، والموت ظلماً. وعلى رغم تشابه الفكرة الرئيسة التي تدور حولها المسرحيتان اليونانية والرومانية، وهي صراع الإنسان مع شهواته، فإن المعالجة اختلفت عند سينكا، إذ تحول المغزى من ترسيخ سطوة القدر على حياة الإنسان إلى تأكيد مسؤولية الفرد عن أفعاله.
الحبكة ومسار الأحداث
تعتمد كلتا المسرحيتين على البرولوغ، وهو الافتتاحية أو المشهد التمهيدي الذي يمنح الجمهور خلفية عن الأحداث. غير أن البرولوغ عند سينكا، جاء على لسان الكورس، مخالفاً برولوغ المسرحية اليونانية الذي أسنده "يوربيديس" إلى الربة "أفروديتي"، كي تشرح دوافع غضبها على "هيبوليتوس"، وتعلن عزمها على الانتقام منه. ولم تغب الآلهة عن المشهد الافتتاحي في مسرحية سينكا وحسب، وإنما غابت عن المسرحية كلها، ليمرر عبر ذاك المنحى، رفضه فكرة الآلهة وسطوتها. ويحيل إلى الواقعية، وإلى إيمانه بحرية الإنسان في الاختيار: "يا زوجة ثثيوس، يا حفيدة جوبيتر الشهيرة، اطردي على الفور الفكرة النكراء من قلبك الطاهر، أطفئي النار ولا تضعي نفسك طائعة تحت رحمة أمل بغيض، إن من يتصدى للحب ويرفضه منذ بدايته، يصبح منتصراً سالماً".
وكما اختلف المشهد الافتتاحي، اختلف مسار وتتابع الأحداث، ففي المسرحية الرومانية يظهر سينكا بطلته كعاشقة تسعى إلى إغواء "هيبوليتوس"، وعندما يرفضها، تصرخ المربية وتتهمه باغتصاب الملكة، وحين يعود الأب ويسمع القصة الملفقة، يدعو باللعنة على الابن، الذي يظهر له الثور الأسطوري، ويتسبب في قتله، حينئذ تندم "فيدرا"، وتعترف بمكيدتها وتنتحر. ويندم الأب على ما فعله بابنه. أما في المسرحية الأصلية فتصر "فيدرا" على إخفاء شعورها ولا تبوح به، إلا بعد إلحاح طويل من مربيتها، التي رفضت أن تراها تموت عليلة صامتة. وحين تعرف السر تتطوع من تلقاء نفسها لإخبار "هيبوليتس"، الذي يغضب ويتهم "فيدرا" بأنها من أوعزت إلى المربية، وحين تخشى الملكة من افتضاح الأمر تنتحر، تاركة رسالة تخبر الزوج أن ابنه اغتصبها.
بين النبل والإغواء
وحتى الرسالة التي اتهمت فيها ابن زوجها زوراً باغتصابها، كتبتها بدافع الخوف على أطفالها من تبعات الفضيحة، ولم تتوفر لديها قصدية إيذاء حبيبها. وبينما ماتت "فيدرا" باكراً في مسرحية "يوربيديس"، واختزل الكاتب دورها لمصلحة دور "هيبوليتوس"، ليكون هو بطله التراجيدي، كانت "فيدرا" هي البطلة الأولى في مسرحية سينيكا، واستمر دورها للنهاية، ولم يسبق موتها موت "هيبوليتوس" كما في النص الأصلي. كذلك تمتعت بقدر أعظم من التركيب والتعقيد، فبينما يبرز سينكا إصرارها على الإغواء، نجدها في الوقت عينه تصارع مشاعر التردد والخجل، وبينما تسعى إلى الانتقام من "هيبوليتوس"، تنتحر بعد موته حزناً عليه، وعبر هذا التناقض الذي وسمها، ووسم بقية الشخصيات، عزز سينيكا البعد السيكولوجي في مسرحيته.
ورث المسرح الروماني من اليوناني تقليد الكورس، لكن سينكا لم يمنحه في مسرحيته حضوراً محورياً، إذ اقتصر دوره على دعم الأبطال، والتمهيد للأحداث، وتقديم الشخصيات، إضافة إلى تمرير بعض الرؤى الفلسفية، وشرح سطوة الرغبة. أما الحوار فكان في بعض الأحيان قصيراً وسريعاً، وفي أحيان أخرى طويلاً يتضح فيه النزوع إلى الخطابة، لكنه كان في كلتا المسرحيتين، مسؤولاً عن النمو الدرامي وتطور الأحداث، ووسيلة لبلوغ أعماق الشخصيات المأزومة. كما كان مرآة عند سينكا للصراع، ومدخلاً للوصف، الذي نقل عبره خبراته عن الصيد، الذي كان طقساً أصيلاً لدى الرومان.
صراعات وتحولات
كان الصراع عنصراً رئيساً في كلتا المسرحيتين، وإن اكتسى في مسرحية "سينيكا" بالواقعية، إذ لم تكن الآلهة طرفاً فيه، كما هي الحال في مسرحية "يوربيديس"، بل كان بشرياً خالصاً، فاندلع بين "فيدرا" و"هيبوليتوس"، وبين "هيبوليتوس" وأبيه، وبين "فيدرا" ومربيتها، التي حاولت أن تثنيها عن هذا الحب في بداية الأمر. وكانت الطبيعة النفسية المتناقضة والمركبة لشخوص "سينكا"، مقدمة لصراع آخر على المستوى الداخلي، ولا سيما في دواخل "فيدرا"، وربما كان ذلك سبب انفراد المسرحية في نسختها الرومانية بالمونولوغات التي تستجلي بواطن الشخصيات المركبة والمأزومة والمتحولة، مثل المربية التي ينهكها صوتها الداخلي، رافضاً ما تحثها ملكتها على فعله، لكي يعلم "هيبوليتوس" بمشاعرها: "لماذا ارتعش، ليس من السهل الإقدام على جريمة أمرت بارتكابها. إن من يخشى الحكام عليه أن يطرح رؤية الحق جانباً، وأن يطرد من قلبه كل إحساس بالخجل. إن العار خادم شرير للسلطة الحاكمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وغابت مثل هذه المونولوغات عن مسرحية "يوربيديس". كذلك اتسمت مسرحية "سينيكا" بالديناميكية، نتيجة ما اتسمت به شخوصها من تحولات عدة، لم تتوفر في النص الأصلي، والذي كانت شخصياته أقرب إلى الثبات، باستثناء الأب. فالمربية في المسرحية الرومانية تحولت من ناصحة لـ"فيدرا"، تثنيها عن رغباتها الجامحة، إلى أداة لتحقيق تلك الرغبات، ومشاركة بالمكيدة التي دبرت لابن الزوج. وتحولت "فيدرا" من عاشقة لـ"هيبوليتوس" إلى ناقمة عليه، ثم تحولت إلى الأسى والأسف، بعدما تسببت في مقتله. كذلك تحول الأب من الزهو بابنه إلى الخجل منه، ومن الرحمة به إلى القسوة عليه. ثم تحولت مشاعره الغاضبة إلى ندم ثقيل، بعدما اكتشف حقيقة المكيدة. لكن مع هذه الديناميكية لم يراع سينكا مقتضى الحال، إذ اتسم حديث المربية عن اقتران الثراء بشذوذ وانحراف الأخلاق، بالخطابة والتعالي، وهو ما لا يتسق مع وضعها كمربية، ولا مع المسافة التي تفرضها هيبة الملكة: "إن من يسعد بالثراء الفاحش وينعم بالرفاهية المفرطة، يبحث دائماً عن المتعة الشاذة". لقد بدا أن دافع سينكا في ما أورده على لسان المربية، بما فيه من نزوع خطابي، كرغبة مستترة لتمرير رؤى بعينها، وإسقاطها على المجتمع الروماني في ذاك الوقت.
غايات فلسفية
تباينت الغايات الفلسفية بين المسرحيتين، فركزت المسرحية اليونانية على فكرة القدرية وسطوة الآلهة وعواقب عدم تقديرها ومحاولة تحديها، وهي تيمات مشتركة جمعت غالب المسرحيات اليونانية، إضافة إلى تعزيز فكرة الاعتدال، والنهي عن الإسراف والمغالاة حتى في الفضيلة، التي انتهت بـ"هيبوليتوس" العازف عن النساء، قتيلاً. أما المسرحية الرومانية، فكانت أكثر واقعية، وتمثلت غاياتها الفلسفية في إبراز مسؤولية الإنسان عن أفعاله، لذا لم يمنح الكاتب أي ظهور أو دور للربة فينوس، أو الربة ديانا، والأولى ترمز للحب فيما ترمز الثانية للعفة عند الرومان، كما فعل "يوربيديس" بمنحه دوراً وظهوراً للآلهة اليونانية، تجلى في برولوغ "أفروديتي"، وكذلك ظهور "آرتميس" في نهاية المسرحية. كذلك حملت مسرحية سينكا، دعوات ضمنية للتمسك بالفضيلة، وإسقاطاً مبطناً على استشراء الفاحشة، في عالم الأغنياء والحكام الرومان، الذي كان سينكا قريباً منه.